ورم 2
ثمَّة لحظات يُرِيد المرء أن يوتر عقله وقواه إلى أقصى حدود الألم؛ حتى تنبجس المعرفة كشرارة، فإذا بطُيوف من النُّبوءَة تَجتاح النفسَ المرتعشة، النفس القلقة، لتنبِّئها بالمصير الذي ينتظرها. إنَّ كياننا كله -وقد جرفه الظمأ إلى الحياة بأيِّ ثمن -يستَسلِم عندئذٍ للأمل، مهما يكن هذا الأمل أعمى، ومهما يكن عنيفًا، ويَنأَى عن المستقبل بكلِّ ما فيه من مجهول وسر، يُنادِيه أن يأتي إن صَحَّ التعبير، يُنادِيه ولو كان مشحونًا بالعَواصِف والزوابع، حسبه منه أنَّه الحياة.
(دوستويفسكي، نيتوتشكا نزنفانوفا، ص – 228).
♦ ♦ ♦ ♦ ♦
الأيام تمرُّ، تحشو الألم بالأسى، تُثِير زوابعَ وعواصف، تلفَح النفس وتقتَحِم العقل، تَضرِب حوافَّ الزمان، وتقرض نهايات المكان، مقبرة ذنابة، صورة تُرافِق خطواتي ووقْع أقدامي، وجوه أولادي تتغَلغَل في صخور الأرض، تشدُّ جذورها نحو أعماقي، تضرب عَذَباتِها نسمات الربيع الراحل من ذاكرتي، صداع يَتلُوه صداع، وإبر تزرق في وريدٍ تلو وريد، والدي كان يدْعو الله بدعاء خاص: "يا رب، لا تُمِتْني إلا وتراب الأرض على قدمي"، دعوة أعرِف الآن عمقها وسرَّها، ألمس وبعزم ناهض حركاتِ نفسه وهو يُردِّدها، الآن أنا أتقمَّص دور أبي، دون إرادة أو تخطيط، أدعو نفس الدعاء، ونفسي تُلامِس نفسًا ترقد في مقبرة ذنابة.