(1)
وقف السيد حجَّار بن مسمار خاطبا في جَمْع من أهل الأرض الذين أهمّهم الأمر:
يا أيّها الناس،
اقتربوا وتجمّعوا، واسمعوا وعوا. فما يحدث خطب جلل، وأمر علينا أن ننفض من أجله كل كلل.
بني جلدتي،
إنّ حفنة من ذوي العتاهة جاءت لترتد عن تراث الأجداد، و تستبدل المفضول بالأفضل، وقد غفلوا، بل تغافلوا عن الحكمة الخالدة التي تمجّد قدر الحجر إذ قيل «العلم في الصغر، كالنقش على الحجر». فلم يعطوا الحجر حقه، بل صاروا يدعون إلى إفك عظيم، وإلى قول سقيم غير قويم، إذ يريدون منا أن نصبأ عن طريقتنا الأولى، ونكتب على الرقاق، وأوراق البرديّ، والجلود، والجريد، والرقاع. يالرقاعة هؤلاء! يا لرقاعتهم!
بني جنسي،
إنّ تأريخ بني آدم مهدد بالزوال، ولكم أن ترقُبوا ما سيحل بذرارينا في الغد إن اتبعنا قولهم وكتبنا على وريقاتهم الخفيفة السخيفة. سنضيع شر ضياع؛ فالكتابة على غير الحجر، كالرَقْم على الماء، وكحرث البحر. أحبارهم السخيفة سيّالة ميّالة، وأوراقهم يأكلها الدهر، وتنوشها الأيام برماحها فتصفّر وتتهافت كحبات السميد، في يوم بؤس لا يُنشد فيه القصيد. إنّ الكتابة على الحجر هي أدوم وأخلد، إنّها ما سيحمدنا عليه المستأخرون.
إخواني في الآدمية،
إنّ الداعين إلى ترك الكتابة على الحجر، ما هم ألا قوم عبدوا الدرهم والدينار، ويرومون بيع الكاسد والفاسد علينا. لقد أعماهم الجشع، فتواطؤوا بليلٍ ليفرضوا حيلتهم الخبيثة لحمل العباد على الأخذ بالورق وما لفّ لَفّهُ، وحجتهم في ذلك أنّه خفيف الوزن -ولا أرى الخفّة إلا في عقولهم-، وأنّه يسير الحمل -أسأل الله أن لا يحمّلنا أوزارهم-، وأنّه أرخص ثمنا، -أرخص الله قدرهم-. ألم يفكروا في الأرض الزاهرة الزهراء؟ ليت شعري كم من البرديّ سيُقطف؟ وكم من جلود الحيوان سيُنتف؟ وكم من ألحية الشجر سيُستنزف؟ كل ذا من أجل صنع أوراقهم الهوفاء؟ أما الكتابة على الأحجار -كما لا يخفى على حصافتكم- لا خشية منها ولا ضرار، ولا شوائن فيها ولا مضار.
يا معشر العقلاء،
إنّها حرب غشوم، وكرّة ظلوم لفرض رؤاهم الجشعة. وماذا وراء كل هذا سوى تفتيت كبد تراثنا، ووضعه تحت رحمة رحى التلف والضياع؟ وإنّي ومن هذا المنبر الحجري، أدعوكم لنضع أيدينا معا، ونكون على قلب حجر واحد، ونتصدى لهذه الأباطيل. وليظل الحجر الطريقة المثلى للكتابة؛ الطريقة التي سنعض عليها بالنواجذ ونتوارثها كابرا عن كابر، ولتظل مواضينا، وما تكتبه أيادينا، محفوظة منقوشة، لا يطالها العَطَل، ولا يشوب مبناها الزلل، ولا يطرأ عليها الطارئ وما بَطَل.
تصفيق، وهياج، وابتهاج.
* * * * *
(2)
اعتلت الباحثة والناشطة ورقاء الشجري المنصة الخشبية، ووضعت أوراقها المصقولة أمامها، وشرعت تتحدث بمنتهى الحماسة.
السيدات والسادة أعضاء مجلس الأمن البشري-الشجري المحترمون.
نجتمع اليوم لنتحدث عن قضية يجب أن تُقلق الضمير العالمي، ويجب أن تقض مضجع كل متخذ قرار على وجه كوكبنا الأخضر الأغر، فالدعاوى تزايدت مؤخرا وعلا صوتها. والتكتلات التجارية لها مخططاتها الخاصة التي صارت تحاول فرضها بغسيل الأدمغة تارة، وبدغدغة العواطف تارة أخرى.
وإنّي على يقين أنّه لا يخفى عليكم أنّ استعمال الورق يستهلك كما كبيرا من أشجار الأرض، وأنّ ثمة جَوْر في أنماط لاستهلاكنا للأوراق، وهذه قضية علينا الالتفات إليها وإيلاؤها أوقاتنا وجهودنا. لكن، أن يُتخذ هذا ذريعة من قبل بعض المتنفّعين من أساطين أودية «السِّلِكُن» كي يسلبونا حميمية القراءة من الكتاب، فهذا مشروع خبيث، ومحاولة مفضوحة لتعظيم أرباحهم على حساب صحة كوكبنا الأخضر الأغر.
السيدات والسادة،
إنّنا نجتمع اليوم لنطلق صرخة أخيرة، علّها تجد آذانا صاغية لتنقذ الكتاب الورقي من براثن الداعين إلى القراءة عبر الشاشات والأجهزة الإلكترونية المُصْمَتَة. وإنّي لست هنا لأرفع لواء العداء للتقنية أو أنكر أهميتها، لكن القراءة خط أحمر، والكتاب هو الجليس الذي لا تحلو رفقته إلا بتصفّح وريقاته وبتلمّس جنباته، فكيف يريدون منا أن نقرأ من أجهزة باردة كئيبة؟ ألا يعون أنّ القراءة من الورق هي الأكثر حميميّة، وأنّ من يشترون الكتب الإلكترونية من الإنترنت يطبعونها ليقرؤوها بالطريقة الرؤوم إياها؛ على الورق؟ ألا يعون ذلك؟!
ثم ألا يعون أنّ القراءة الإلكترونية مُكلفة؟ فهي تحتاج إلى عتاد تقني، وإلى كهرباء، وأحيانا إلى اتصال بالإنترنت؟ ألم يفكروا بالمحرومين الذين لم يروا الكهرباء في حياتهم؟ كيف سيقرؤون إذا سادت تقنيتهم وتوقف العالم إصدار الكتب الورقية، وما سلوى هؤلاء سوى كتاب يجالسهم ويجالسونه؟ فضلا عن هذا، ألا يعون المشاكل الصحية التي تسببها القراءة من الشاشة؟ أما الكتاب فصديق صدوق؛ تحمله أينما شئت، فلا يَثْقُل في يدك، ولا يُثقل على جيبك.
هل فكّر هؤلاء بمدى هشاشة المعلومات المخزنة إلكترونيا والتي وبضغطة زر تمحى من الوجود؟ في حين أنّ الورق أدوم، ولا يفت عضُده إلا إساءة متواصلة أو سوء تخزين. هذه هي إمكانيات أوراقنا، فيُلرنا القوم إمكانيات إلكتروناتهم.
السيدات والسادة،
لا يخفي عليكم حجم المخلّفات التي تلقيها صناعة التقنية على كاهل كوكبنا الأخضر الأغر، فما بالكم إذا سمحنا لهذا الاتجاه بالاستشراء والنمو؟ كم سيكون حجم المخلّفات التقنية خاصة وأنّ ثمة ميثاق سريّ بين مصنّعي التقنيات على إصدار منتجاتهم بالتدريج حتى يحققوا أكبر قدر من الأرباح. فما كان جديدا قبل شهر، هناك ما هو أحدث منه اليوم. وهكذا يستعبدون الناس بمنتجاتهم التي تتطور بالقطّارة من أجل ابتزاز الجيوب، غير آبهين بأي مبدأ إنساني ولا بأي مسؤولية تجاه نظافة كوكبنا الأخضر الأغر.
وإنّي ومن هذا المنبر الخشبي، وفي يوم الشجرة، أدعوا كلا منكم إلى الوقوف دقيقة صمت احتجاجا على هذه المحاولات، وأدعو الدول الأعضاء إلى التكاتف، وإلى اتخاذ جميع السبل التي من شأنها دحر هذه الدعاوى على المستويات الإعلامية والعمليّة.
تصفيق، وصفير، وهتافات.
* * * * *
(3)
الدكتور مفتاح الحُوُيْسِب يجلس مبتهجا أمام شاشة إلكترونية مرتبطة لا سلكيا بالقمر الإلكترو-فضائي.
السيدات والسادة أعضاء مَجْمَع مصير البشر،
يسرني أن أمثل بين يدكم اليوم عبر هذا الاتصال الإلكتروني الميمون لأخاطبكم جميعا يا أعضاء مَجْمَع مصير البشر. فالدعاوى المتكاثرة هذه الأيام تطيش لها العقول الشحمَلحميَّة والإلكترونية على حد سواء، وتذوب أمامها وحدات المعالجة المركزية كمدا ووجدا!
فمن دُعاة الهواء البهلوانيون هؤلاء؟ وماذا يحسبون أنفسهم فاعلين؟ صحيح أنّ الأكسجين لب حياتنا، وعصب عيشنا، وقد صار له شأن عالٍ في زماننا هذا، لكن أن يأتي هؤلاء ويدعون أنّه يمكننا أن نستغني عن التخزين الإلكتروني والقراءة الإلكترونية ونلجأ إلى الكتابة على جزيئات الأكسجين، فضرب من الخبل، الذي لا نقاش فيه ولا جدل!
صحيح أنّ التقنيات الجديدة التي وُلدت في قرننا هذا مبتكرة، فجزئيات الأكسجين لا تشغل حيزا كبيرا، وتتنقل بسرعة وكفاءة عالية، ويمكن لها أن تمكث في الجسد البشري دون أن تسبب أضرارا، ويمكن تخزين الكثير من المعلومات عليها بفضل البحوث العلمية التي مكنتنا من تطويعها لصالح هذه المهمة. لكن، أن نتهوّر ونخزّن عليها عواطفنا وأفكارنا وتاريخ البشرية وتراثها وما كتبتْ وما أبدعتْ، فمغامرة بل مقامرة لا يقوم بها إلا المأفونين! فالأكسجين محله الهواء، والهواء راحل متنقّل لا أمان له، ومع أخف هبّة ريح، قد تُفقد معلومات ثمينة لا تقدر بثمن. ألم يصف الشاعر الشعبي الحبيب الراحل بـ«شبيه الريح»؟ ألا يقال «فلان هوائي» دلالة على سرعة تقلّبه وتغيّره؟ ألم يقل الحكماء القدماء، ألم يقل آباؤنا العظام «ومن يبذر الريح، يجن العاصفة»؟ إنّ هؤلاء قوم يبذرون الريح، والعاصفة على الأبواب، وستطالنا جميعا إن لم نقف وفقة جادة وحادة!
فضلا عن ذلك، فإنّ سرية المعلومات المخزنة أكسجينيًا عرضة للاختراق، فهناك غازات يمكن تطويعها وبسهولة للاستحواذ على الذرّات الأكسجينية، فهل يريد منا هؤلاء الحمقى أن نخزن بياناتنا المصرفية في فقاعات هوائية تسبح في مهب الريح؟ أمّا ادعائهم بإمكانية تحصين ذرّات الأكسجين بغلاف وقائي من الغازات الأخرى، فأمر لا ضمانة له، إذ تسمعون –كما أسمع- بين الفترة والأخرى عن نوع جديد من الغازات الغازِية يخترعه أحد العابثين المجانين ويسرّبه إلى الهواء، وتقف محطات صد الغارات الغازيّة مكتوفة اليدين عن التعامل الفوري معه، وتمضي أيام قبل أن يصنعوا ويبثوا ترياقا مضادا لعملية الاختراق الغازيّ.
السيدات والسادة أعضاء مَجْمَع مصير البشر.
لقد قضينا عقودا طوالا، تكتنفنا وسائط التخزين الإلكترونية بكل حميمية وأريحية. وكم تدفّأنا بهذا الشعور الجميل للرقاقات الرقيقة التي تحمل ما تحمل من بيانات نفيسة، حتى صارت جزءا من وجداننا، وأفرادا في عائلاتنا. فهل نترك طريقتنا الأولى ونلجأ إلى طريقة مارقة شطون لنخزن بها البيانات؟ هل ننقلب على تلك الرقاقات التي يمكنا أن نلمسها بأيدينا، ونراها بأعيننا، ونلجأ إلى غاز لا طعم له، ولا لون، ولا رائحة؟
إنّي وعبر هذا المنبر الافتراضي، لَأحذّرُ جميع ساكني كوكبنا الرمادي المليح الأشهب من الانسياق وراء الدعاوى الأكسجينية، وليكن تمسكنا بتراثنا الإلكتروني العريق نبراسنا ونهجنا. فهو عبق الماضي وعبق القرون الطوال التي قضاها البشر يخزّنون ويدوّنون بكل كفاءة ما يعن في خواطرهم ونفوسهم، وما تقتضيه حياتهم اليومية. وتذكروا أنّ التخزين الإلكتروني هو الأصالة بعينها، وأنّ الصفر والواحد هما الأساس الذي يشهد له نظام الكون، وتعضّده جميع الحضارات والملل. ألم يقل الصينيون بالـ«ين» والـ«يانگ»؟ ألم يقل المسلمون بأنّ الله خلق من كل شيء زوجين؟ أليست الحروف إما متحركة وإما ساكنة؟ ألا يتكوّن الحمض النووي الوراثي من شريطين معانقين؟ إنّ الصفر والواحد يعنيان التوازن، والتكامل، والتناغم، والاعتماد المتبادل. فكيف يريدون منا أن نضع البيض في سلة واحدة، ونستودع ذاكرتنا في يد عنصر واحد، قد يتمرد علينا في يوم أو تنوبه نائبة؟ إنّ هذا يشي بخطر أكبر، وبحالة تشظٍ وفردانية بدأت تغزونا، حتى صاروا يريدون أن يجعلوا حياتنا رهنا لعنصر واحد، قد تصيبه لوثة أوتوقراطية، أو تعتريه نزعات ديكتاتورية. هل سمعتم بنظام الحزب الواحد الذي شاع في الماضي؟ ها هم يستدعون ماضيا سيّئ الذكر ويحاولون فرض نظام العنصر الواحد علينا، دون أن يعرفوا ما للأنظمة الإلكترونية من مناقب، أو ما لدعواهم من عواقب.
طقطقات إلكترونية متحمّسة، وطنطنات تشجيع.
* * * * *
(4)
في بث سداسي الأبعاد عبر المفاعل الأكسجيني المَجَرّي، بدت الهايپردكتورة نسمة آل مؤكسج تزفر بكلماتها بكل حماس.
حضرات أبناء حضارة الأكسجين،
صباحكم/مساؤكم أكسجين، عابق بريح الياسمين.
تهريج وهراء! هذا هو الوصف الوحيد لمحاولات لهؤلاء المتعابثين بمصائر كوكبنا؛ الأرض المليحة ذات الخمار الأسود؛ الملاذ الآمن لكل من يتنفّس الأكسجين في درب التبانة. الأرض، هذا الثقب الأسود الإيجاب الذي يجذب كل من يتوق جسده إلى نفخة أكسجين لذيذة.
لقد بلغت منهم العنصرية مبلغها، ووصل بهم التبلّد العاطفي أن صاروا يقترحون «حلولا عملية» لحفظ المعلومات. حلول عملية؟ أمَا أعْمَلَ هؤلاء القوم عقولهم قليلا إذا كانت قلوبهم قد تحجّرت؟ أمَا فكّروا بأنّ حلولهم هذه تصلح لسكّان الأرض من البشر والجن والحيوانات والنباتات والفيروسات، لكنها لا تصلح لبقية الأكسجينيين؟
حقا، ماذا عن الوافدين الأكسجينيين من سكان الكواكب الأخرى الذين عاشوا عقودا طوالا على كوكبنا فعمّروه معنا؟ وماذا عن الأكاسجة الذين قد يكون لنا الفضل في تصنيعهم مع بدايات الثورة الأكسجينية قبل قرن ونصف من الزمان، إلاّ أنّ هؤلاء الأكاسجة أثبتوا مواطنتهم الصالحة، واجتهادهم في العمل، وعاضدونا هم، والمهاجرون الأكسجينيون من الكواكب الأخرى لتكون الأرض رئة هذا الكون، ويفد إليها كل محروم من الأكسجين ليشمر عن ساعديه، فيكون فردا منتجا في مجتمع «كوزموپوليتاني» كوني تكون الأرض فيه سرّة هذا المجرة وسُرورها.
أعزائي بني الأكسجين،
عبر هذا البث الأكسجيني العامر بالأصالة أحيّيكم، يا من تتنفسون الأكسجين، وتنقشون عليه أحوالكم وآمالكم. هذا الغاز هو لُغزنا، هو ميزتنا التنافسية، هو نحن. فبأي حق يأتي أولئك الذين يُسمّون أنفسهم «عصريين» تارة، و«تطويريين» تارة أخرى، و«تقدميين» و«رؤيويين» و«طليعيين» تارة بعد تارة ليقترحوا حلا ظاهره الرحمة وباطنه العذاب؟ بأي حق؟ وباسم من؟ وعلى حساب من؟ على حساب تراثنا وسر وجودنا؟!
اسمحوا لي في هذه الكلمة أن أفضح الباعث وراء دعواهم المغرضة؛ إنّها الإمبريالية المايكروبيولوجية، إنّه التجمع التجاري لأصحاب الشركات المتاجرة بهندسة المُورّثات. وإلاّ، كيف تفسرون كون السيدة سارة آدم تملك 72% من أسهم «شركة جَنَتِكَانا العابرة للمجرات - شركة مساهمة كونية مقفلة»، وفي الوقت ذاته هي رأس الحربة، وفوّهة المدفع لهذا التوجّه؟
إنّهم يريدون منّا أن نتحوّل عن التخزين على الأكسجين إلى التخزين على الحمض النووي الوراثي. يدّعون أنّها طريقة سهلة ومضمونة وغير مكلفة، وتكفينا مؤونة تجزؤ المعلومات، وتحمي السرية، وتحفظ ما يحتاجه الفرد في مُورّثاته. وقد يكون ما يقولونه صحيحا، فلهذه التقنية مميّزاتها، لكن -وكي لا أُتهم بالإنشائية والتدبيج والتهييج العاطفي- فإنّي سأسرد عليكم أهم المآخذ المُفحمة على هذه التقنية:
أولا، هي تقنية عنصرية ضيقة الأفق، تصنع فجوة معلوماتية بين البشر وبين إخواننا الأكسجينيين والأكاسجة الذين يشاركوننا السكن على كوكبنا الأدهم اللامع، ولا تملك أجسادهم مُورّثات، ولا أجسام صِبْغيّة، ولا حوامض نَووية وراثية مثلنا نحن البشر. وفي هذا غبن لهم، وهضم لحقوق مجموعة متفانيّة ومخلصة من حَمَلَة الجنسية الأرضية بالتجنُّس. فهل عليهم أن يعيشوا بقيّة حياتهم مربوطين بأجهزة تُصنّع لهم المورّثات كي يتواءموا مع اختراعات هؤلاء واختلاقاتهم؟ ما الذي يُجبرهم على هذا، ولهم ولنا في الأكسجين السلوى والكفاية؟
ثانيا، تطبيق هذه التقنية ليس بهذه السهولة، وأنا أدينهم من أفواههم. فتخزين ما تحتاج من معلومات على مورّثاتك لا فائدة منه دون مشروع «الشبكة الحِمْضَنَوِّيّة الكونية»، هذا المشروع التجسسي الاستخباراتي الذي يهدف إلى انتهاك الحرمات، وفضح الخصوصيات الطبيّة بشكل خاص. فكي تتمكن من تشارك المعلومات مع الآخرين، يجب أن تربط حمضك النووي الوراثي بالشبكة، والتي سيكون مسؤولوها هم الخصم والحكم، وسينهبون ما لذ وطاب من معلومات عنك، وستكون فأر تجارب معلوماتي لهم، وأداة إحصائية لأبحاثهم دون أن تدري أو تتاح لك الفرصة أن تنبس ببنت شفة.
يا أبناء الغاز الواحد،
أرسل لكم في هذه اللحظة ذرّات أكسجينية محمّلة بوثائق خطيرة تدل على أنّهم يخططون أيضا إلى إنشاء مفاعل مُورثاتي، يتغذى بالمخلفات المُورثاتيّة المرتبطة بالشبكة الحِمْضَنَوِّيّة العالمية، وهي طاقة رخيصة يمكنها أن تُدرَّ أرباحا طائلة. والهدف من وراء هذا المفاعل هو الاستغناء عن الطاقة الأكسجينية نهائيا! إنّهم يريدون أن يحّولوا الأكسجين إلى عنصر غير ذي نفع شأنه شأن اليُرانْيَم والنفط والفحم، الذين كانوا يُستخدمون في قديم الزمان مصادرَ للطاقة.
كما أنّهم يخططون لاستزراع مُورّث إضافي في حمضنا النووي، ليكون بابا خلفيّا، يسرحون من خلاله ويمرحون بمصائرنا! يدّعون أنّ الغرض من هذا المُورّث هو إمكانيّة الارتباط بالشبكة الحِمْضَنَوِّيّة الكونية، لكني أؤكد لكم أنّه حصان طروادة يرتدي ثياب الدراويش.
أعزائي عشاق الأكسجين،
هذه محاولة إمبرياليّة من مَداحِل تجارية، وخطوة هيمنة توسعيّة استنفاعيّة يجب أن نكتم أنفاسها المبخورة.
والآن، فلنقف دقيقة صمت معا، نستنشق الأكسجين البهي الشهي، ونؤكّد فيه أنّنا لم ولن نتخلى عن أصالتنا ولو تطاول المُغرضون المُرجفون.
شهيق وزفير جماعيّان.
* * * * *
(5)
وتستمر الخطب العصماء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
{وتلك الأيام نداولها بين الناس}
صدق الله العظيم.