القصة كما رواها لي اللواء (رتبة عسكرية) وكما بإمكاني أن أتذكّرها:
كنت في شتاء العام 1862– 1863 قائداً لحامية ترومبل في نيو لندن بولاية كونيتيكت. ربما لم يكن في حياتنا في مثل ذلك المكان الكثير من الإثارة بالنسبة لحياة في الجبهة الأمامية. إلا أن حياتنا كانت مع ذلك، وبطريقة ما، مثيرة بما فيه الكفاية. ولم يكن لذهن المرء هناك أن يتوقف بسبب عدم وجود ما يمكن أن يُحفّزه باستمرار. وكان ذلك لسبب واحد هو أن الجو العام في المنطقة الشمالية كان حافلاً في ذلك الوقت بشائعات مُبهمة ـ شائعات حول ما يقوم به الجواسيس الذين كان المتمردون ينشرونهم في كل مكان، والذين كانوا يستعدون لتفجير حصوننا في المنطقة الشمالية، ولإحراق الفنادق فيها، ولإرسال الملابس الملوثة إلى مدننا وكل ما يشابه ذلك من أمور أخرى...
كل ذلك كان من شأنه أن يقضّ مضاجعنا، وأن يُقوّض رتابة الحياة التي كانت فيها حاميتنا. هذا عدا أن حاميتنا كانت بالإضافة إلى ذلك، موقعاً للإمداد بالمتطوعين من المجندين الجُدد. وفي هذا ما يشير أيضاً إلى أنه لم يكن لدينا ما يكفي من وقت لكي نُضيعه في النوم والأحلام أوفي التسكّع، ولماذا؟ لأنه، وعلى الرغم من كل ما كنا فيه من يقظة، فإن خمسين بالمئة مما كنا نُجنّدهم يومياً كانوا يتسرّبون ويتخلّون عن الخدمة في ذات الليلة، لأن ما يتقاضونه من المنح الحكومية كان ضخماً جداً، بحيث بإمكان المجند أن يدفع للحارس ثلاثمائة أو أربعمائة دولار لكي يَدعه يهرب، ومع ذلك، كان سيتبقى معه من تلك المنحة الحكومية ما يُشكل ثروة حقيقية بالنسبة لأي رجل فقير. وهكذا وكما قلت سابقاً , لم تكن حياتنا مُملة على الإطلاق.
حسناً، وبينما كنت ذات يوم بمفردي في مسكني أنجز بعض الأعمال الكتابية، دخل علي فتى في الرابعة أو الخامسة عشر، شاحب الوجه، مُمزق الثياب. انحنى أمامي بكِياسة وقال:
- أعتقد أنكم تستقبلون المجندين هنا ؟
- نعم.
- من فضلك، هل بإمكانك أن تقبلني كمتطوّع ؟
- بُنيّ، بحق الله ! أنت صغير جداً كما أنك قصير القامة جداً.
ظهرت على وجهه علامات خيبة الأمل، ثم تحولت تلك النظرة بسرعة إلى تعبير عن لقنوط. ثم استدار ببطء كما لو أنه على وشك المغادرة، لكنه, بعد فترة تردد ,وقف بمواجهتي من جديد وقال لي بلهجة كانت قد أصابتني في أعماق قلبي:
- ليس لدي بيت، ولا أي صديق في هذا العالم، فلو كان بإمكانك على الأقل أن تُطوّعني...
لم يكن ذلك الأمر وارداً بالطبع، وكنت قد أعلمته بذلك بقدر ما كان بإمكاني من دماثة، ثم طلبت منه أن يجلس بجانب الموقد لكي يشعر بالدفء وأضفت:
- سوف تحصل الآن على بعض الطعام، لابد أنك تشعر بالجوع.
لم يجبني، ولم يكن بحاجة لأن يُجيب وإنما كانت نظرة الامتنان التي بَدت في عينيه الواسعتين الصافيتين أكثر تعبيراً مما يمكن أن تُعبّر عنه أية كلمات . جلس بجانب المدفأة واستمريت في الكتابة.
كنت بين الفينة والفينة أختلس النظر إليه. لاحظت بأن ملابسه وحذائه كانت جميعها ملوثة وتالفة، لكنها على الرغم من ذلك، كانت من نوعية جيدة ومن قماش أنيق., وكان في ذلك ما يوحي بأمر ما... وبالإضافة إلى كل ما ذكرته، كان صوته أبضاً خافتاً وموسيقياً., وكان يمشي ويتصرف بنبالة، لكن حزن عميق كان يبدو في عينيه . لابد أن الفتى البائس كان في مأزق. وكنت نتيجة لذلك قد شعرت بالاهتمام بأمره.
إلا أنني كنت مع ذلك قد استغرقت في عملي إلى حدّ ما، مما جعلني أنسى كل ما يتعلق بذلك الفتى البائس. ولست أعلم كم دام ذلك. ولكن عندما رفعت نظري إليه أخيراً كان ظهر الفتى أمامي، بحيث لم يكن بإمكاني أن أرى من وجهه سوى خدّيه اللذين كانت الدموع تسيل عليهما بصمت.
قلت في نفسي: فليسامحني الله، نسيت أن ذلك الفأر يتضوّر من الجوع., وقمت بالتعويض عن سوء تصرفي بأن قلت له:
- تعال أيها الفتى، سوف تتناول عشاءك معي، فأنا بمفردي هذه الليلة .
وكان أن ألقى الفتى علي نظرة أخرى من تلك النظرات التي تعبّر عن الامتنان، ثم أشرق وجهه بالسعادة.
ثم كان الفتى أمام المائدة قد وقف ويديه خلف كرسيه إلى أن جلست ثم جلس بعد ذلك على كرسيه. تناولت شوكة الطعام والسكين و... حسناً, ما حدث هو أنني كنت قد توقفت بعد أن أمسكت بهما ذلك لأن الفتى كان قد أحنى رأسه بصمت وبنوع من الكياسة والهدوء. مما جعل آلاف الذكريات تتوارد إلى ذهني. ذكريات عن الوطن وعن الطفولة، وتنهدت وأنا أفكر إلى أي مدى كنت قد ابتعدت عن الدين وعن علاجه الشافي للقلوب الجريحة وعن مواساته وعن عزاءه وعن دعمه وعونه.
كما كنت قد لاحظت أثناء تناولنا وجبتنا بأن الفتى روبرت ويكلو ـ وهذا هو اسمه بالكامل ـ كان يُحسن التصرف على المائدة. وبكلمة واحدة كنت قد لاحظت بأنه ذلك الفتى من مِنبت طيّب- دون الاهتمام بباقي التفاصيل- وبذلك كنت قد تأثرت كثيراً ببساطته وبصدقه.
تحدثنا بشكل رئيسي عنه، ولم أجد أية صعوبة في الحصول منه على تاريخ حياته. وعندما تحدث عن أنه كان قد ولد وترعرع في لويزيانا, كنت قد أحببته دون تردد، ذلك لأنني كنت قد أمضيت بعض الوقت هناك، وكنت أعرف منطقة ساحل الميسيسيبي بالكامل وأحب تلك المنطقة، ولم يكن قد مرّ وقت طويل على ابتعادي عنها لكي يبدأ اهتمامي بها بالتضاؤل.
كانت الأسماء التي يُردّدها ذات وقع جيّد جداً علي ـ وقع جيدّ جداً مما جعلني أوجّه مجرى الحديث بالاتجاه الذي كان يجعله يُعيد ذكرها: "باتون روج، بلاكمين، دونالدسونفيل، بون كاريه، ستوك لاندينج، كارلتون، مرفأ السفن البخارية، مرفأ بواخر نيو أورلينز، شارع تشيوبيتولاس، الاسبلاناد، شارع كود بويز، فندق سان شارل، ساحة تيفولي، طريق شلّ، بحيرة بونشارتران".
وما أسعدني بشكل خاص كان سماعي من جديد أسماء السفن البخارية القديمة الأخرى التي أعرفها. كل ذلك كان قد جعلني أشعر بالبهجة، فقد أعادت إلى ذهني تلك الأسماء شكل الأشياء التي كانت هناك، كما لو أنني كنت قد عدت من جديد إلى تلك الأمكنة. وباختصار، كانت قصة ويكلو كالتالي:
كان ويكلو عندما اندلعت الحرب يعيش مع والده وعمته المعوّقة في مبنى فخم تملكه العائلة منذ خمسين عاماً، وفي مكان قريب من باتون روج. وبما أن والده كان اتحادياً، فقد تعرّض لمختلف أنواع الاضطهاد إلا أنه كان مع ذلك قد تمسك بمبادئه., إلى أن قام رجال ملثمون ذات ليلة بإحراق شقتهم الفخمة تلك، وبذلك كان على جميع أفراد العائلة أن يهربوا حفاظاً على حياتهم.
أما بعد ذلك فقد تمت ملاحقتهم من مكان لآخر، مما أدى إلى تعرّضهم إلى كل ما يمكن أن يُعرف عن الفقر والجوع والأسى. ثم لقيت العمّة المعوّقة راحتها أخيراً بالموت، فقد قتلها ما كانت قد تعرَضت إليه من بؤس. كانت قد توفيت كالمتشردة في حقل مهجور وعلى أرض مكشوفة , المطر يتساقط عليها والرعد يقصف فوق رأسها. ولم يكن قد مرّ بعد وقت طويل على وفاتها إلى أن قامت مجموعة من المسلحين بإلقاء القبض على الوالد., كانوا قد قتلوا الضحية أمام عينيه في الوقت الذي كان فيه ذلك الفتى يتوسل ويتضرع إليهم ويرجوهم إطلاق سراحه...
وفي تلك النقطة بالذات من الحديث , كان قد لمع في عيني ضوء يُنذر بالشؤم وقال بأسلوب الشخص الذي يتحدث مع نفسه :
- لا يهم!.. فإن لم يكن بإمكاني أن أتطوّع في التجنيد، فسوف أجد طريقة، سوف أجد طريقة ما...
ثم أكمل الفتى روايته.
وبعد أن لفظ الوالد أنفاسه، تم إعلام الابن بأن عليه أن يُغادر المنطقة خلال أربع وعشرين ساعة وإلا فسوف يكون عليه أن يواجه الكثير من الأوقات الصعبة. وبذلك كان الفتى تلك الليلة قد تسلل إلى جانب النهر واختبأ بجانب أحد المباني, إلى أن توقفت هناك بعد فترة قصيرة سفينة "دونكانكينر"., وبذلك سبح الفتى إلى تلك السفينة التي كانت تُسحب إلى مرفأها الأخير واحتجب عن الأنظار. وعندما وصلت السفينة قبل طلوع الشمس إلى منطقة ستوك، تسلّل الفتى إلى الشاطئ ومشى على قدميه لمسافة ثلاثة أميال، وهي المسافة التي تقع بين تلك المنطقة وبين منزل عمه المقيم في نيو أورلينز.
وكانت متاعبه بذلك قد انتهت لفترة. إلا أن عمه كان أيضاً من الاتحاديين، لذا لم يمر وقت طويل إلى أن قرّر بأن من الأفضل بالنسبة إليه أن يغادر نيو أورلينز إلى منطقة الجنوب.
وبذلك تسلّل العم وبرفقته ويكلو الصغير إلى خارج البلدة ثم هربا على ظهر سفينة بخارية، وبذلك قد وصلا في الوقت المناسب إلى نيويورك وأقاما في فندق "آستور".
كان ويكلو بعد ذلك قد أمضى وقتاً ممتعاً لفترة من الزمن. كان يتجول في شارع "برودوي" ويتأمل المناظر الغريبة في منطقة الشمال. إلا أن التغيير في حياته كان قد طرأ على حياته من جديد، ولكن ليس للأفضل... ذلك لأن العم الذي كان في البداية في غاية السعادة، كان قد بدأ يصبح قلقاً مضطرباً ومزاجياً على الدوام، وكان إما أن يتحدث باستمرار عن نقص الموارد المالية أو عن عدم وجود أية وسيلة لديه للحصول على المزيد من المال، وعلى أن ما لديه من مال لا يكاد يكفي لشخص واحد فكيف سيكفي لاثنين؟...
وهكذا كان العم في صبيحة أحد الأيام قد تخلّف عن تناول وجبة الإفطار. وعندما سأل عنه الفتى في المكتب، أعلمه الموظف المسؤول بأن عمه كان ليلة الأمس قد سدد فاتورته وغادر الفندق إلى بوسطن - كما يُعتقد- لكنه ليس متأكداً من ذلك.
وبذلك كان الفتى قد أصبح وحيداً من جديد وبدون أي أصدقاء، ولم يكن يدري ما سيفعله... ثم وجد بأن من الأفضل أن يحاول تعقّّب عمه واللحاق به. وبذلك ذهب إلى ميناء السفن. ولكن عندما تبيّن له بأن ما تبقى في جيبه من المال لن يكفيه للسفر إلى بوسطن، وبأنه قد يكفيه فقط للسفر إلى نيو لندن، كان قد توجّه إلى ذلك المرفأ وقرّر أن يعتمد على القدر الذي قد يهيئ له وسائل السفر لباقي الطريق. وبدأ بعد ذلك يهيم على وجهه في شوارع نيو لندن ولثلاثة أيام ولياليها., كان يأكل وينام هنا وهناك مما يحصل عليه من يدّ الإحسان . إلا أنه آخر الأمر، وبعد أن كان قد فقد كل ما لديه من شجاعة وأمل، قرر العدول عن الرحيل.
- فلو كان بإمكانه الآن أن يتطوّع في التجنيد فلن يكون من هو أكثر منه امتناناً. أما في حال عدم وجود إمكانية لتجنيده، فهل هناك إمكانية لأن ينضم إلى فرقة الطبالين ؟ سوف يعمل بكل طاقته لكي يُرضي، وسوف يكون في غاية الامتنان.
حسناً، تلك كانت قصة الفتى ويكلو كما رواها لي تماماً بعد أن حذف التفاصيل. قلت:
- بُني! أنت الآن بين الأصدقاء ولا داعِ لأن تقلق بعد الآن.
كم لمعت عيناه في تلك اللحظة !...
كنت بعد ذلك قد ناديت الرقيب جون رايبرون، الذي كان من منطقة هارفورد، وهو لايزال يعيش فيها وقلت له:
- رايبرون، عليك أن تؤوي هذا الفتى مع فرقة الموسيقيين. سوف أضمه إليها كطبّال، وأريدك أن ترعاه وأن تعمل على أن تتم معاملته بشكل جيّد.
حسناً،!.. وبذلك كانت العلاقة بين القائد في منصبه وبين ذلك الطبّال قد وصلت إلى نهايتها، ولكن كان قد بقي في قلبي ذلك الأثر القوي الذي تركه ذلك الصغير المسكين المحروم من الأصدقاء., وبذلك ظللت بعد ذلك في وضع المراقبة آملاً أن أراه مبتهجاً وأن أجده قد بدأ يُصبح مرحاً وسعيداً. لكن ذلك لم يحدث.
مرّت الأيام ولم يتغيّر فيه شيء. لم يرافق أحد، وإنما كان شارداً على الدوام، يُفكّر باستمرار وتبدو على وجهه علامات الحزن.
وذات يوم , طلب الرقيب رايبورن الإذن بالتحدث معي على انفراد حيث قال:
- سيدي، آمل ألا أزعجك، لكن الحقيقة أن الموسيقيين هم على ما يبدو في حالة من الإرهاق الشديد وإلى الحدّ الذي تطلّب أن يقوم أحدهم بالتحدث إليك.
- لماذا، ما هو الإشكال؟
- سيدي، الموضوع يخصّ الفتى ويكلو. استنفذ الموسيقيون طاقتهم معه، وإلى الحدّ الذي ليس بإمكانك أن تتصوره.
- حسناً، استمر، استمر، ما الذي يفعله؟
- يُصلي سيدي.
- يُصلي؟..
- نعم سيدي، لم يعد الموسيقيون يعيشون حياتهم في سلام بسبب صلوات ذلك الفتى. فأول شيء يقوم به في الصباح هو الصلاة. وما يقوم به مساءً هو الصلاة أيضاً. والليالي، حسناً سيدي, كل ما يقوم به أثناء الليل هو أن يستلقي أشبه بشخص أصابه المسّ !.. أما النوم، حسناً - فليباركك الله سيدي- لم يعد بإمكانهم أن يناموا، فقد أوصلهم ذلك الفتى إلى الحدّ كما يقولون. وببساطة عندما يبدأ الفتى بابتهالاته المُكربة فلن يكون بإمكان أحد أن يُوقفه. فهو يبدأ برئيس فرقة الطبالين ويُصلي لأجله. ثم يبدأ برئيس فرقة البوق ويُصلي لأجله، ثم ينتقل إلى الطبال ويُغرقه بالصلوات. وهكذا وإلى آخر لائحة أعضاء الفرقة فهو يستعرضهم جميعاً، ويولي ذلك كل الاهتمام إلى الدرجة التي تجعلك تشعر بأنه يعتقد بأنه لن يعيش سوى لفترة قصيرة في هذا العالم., وبأنه يؤمن بأنه لن يلقى السعادة في الجنان ما لم ترافقه فرقة نحاسية، وبأنه يرغب بأن يستبقيهم بجانبه لكي يعتمد عليهم في عزف الألحان الوطنية بالأسلوب الذي يتناسب مع المكان.
حسناً، سيدي، وحتى لوتم إمطاره بالجِزم فذلك لن يؤثر به، وحتى لو كان المكان مظلماً فهذا لن يؤثر عليه أيضاً. كما أنه علاوة على ذلك, لا يُصلي بالطريقة العادية، وإنما يركع وراء ذلك الطبل الكبير وبذلك لا فارق لو تم رميه بالجزم فهو لا يأبه لذلك، ويغني كما لو أنه يلقى التصفيق والاستحسان. يصيحون به : توقف!.. أعطنا فترة استراحة!.. أطلقوا عليه النار!.. اخرج من هنا!.. وكل ما يماثل ذلك. ولكن ماهي النتيجة؟ كل ذلك لا يزعجه، فهو لا يأبه بكل ذلك.
ثم قال لي رايبرون بعد برهة توقف.
- ويبدو أيضاً بأنه فتى طيّب ومخبول. فهو ينهض في الصباح ويحمل جميع الجزم، لكي يفرزها ويضع كل منها بجانب الشخص الذي تعود إليه., وقد تم رميه بالجزم إلى الحدّ الذي جعله يعرف لمن تعود كل جزمة في الفرقة وأصبح بإمكانه أن يُميّزها بعينين مغلقتين.
وقال بعد فترة توقف أخرى كنت قد احتملته أثناءها دون أية مقاطعة:
- لكن الأمر الأكثر صعوبة هو أنه عندما ينتهي من صلواته، وهذا ما لا يحدث، يبدأ بالعزف وبالغناء. حسناً، سيدي أنت تعرف صوته المُحبب عندما يتكلم! وأنت تعلم كيف بإمكانه بذلك أن يُقنع حتى الكلب المُقيد بالسلاسل الحديدية بالنزول من على عتبة الباب لكي يلعق يده.
سيدي! لو وثقت بكلامي، لايوجد مثيل لغنائه! صوت الناي أكثر خشونة من غناء ذلك الفتى، لأن ذلك الصوت يتدفق في الظلام بعذوبة شديدة وبرقّّة، وبصوت خفيض مما يجعلك تعتقد بأنك في الجنان.
- ولكن ما هو السيئ في ذلك؟
- ها هو الآن سيدي. أتسمعه يغني؟
كم أنا فقير بائس، وأعمى فقط...
- فلتسمعه يغني ولمرّة واحدة فقط وسوف ترى كيف ستذوب حزناً وكيف سوف تبدأ الدموع تسيل من عينيك ! لا يهم ما الذي يُغنّيه, لكن ذلك الغناء يصل مباشرة إلى القلب ويدخل إلى عمق المكان الذي تعيش فيه، ويجعلك تتذكره في كل وقت. ها أنت تسمعه الآن يغني من جديد .
طفل الخطيئة والحزن الذي يملأه الرعب
انتظر إلى الغد ولتخضع لهم اليوم
لا تحزن على ذلك الحب
الذي يأتي من الأعلى
وهو بغنائه يجعلك تشعر بأنك من أكثر الأشخاص شروراً وجحوداً وقسوة على هذه الأرض. وهو عندما ينشد أغانيه عن البيت وعن الأم وعن الطفولة وعن الأشياء التي ضاعت وعن الأصدقاء القدامى الذين ذهبوا وماتوا، سوف يجعلك ترى أمامك كل ما كنت قد أحببته، وكل ما أضعته طوال حياتك. هو بالفعل رائع وقدسي عندما تُصغي إليه، لكن هذا الغناء، يا إلهي، يا إلهي، سيدي، هذا الغناء يجعل قلب المرء ينفطر. حسناً، ويكون أول من ينفطر قلبهم بالذات تلك الجماعة التي كانت قد ضربته بالجزم بعنف. ذلك الفتى يُخرجهم من جلودهم، بحيث يندفعون نحوه فجأة لكي يحتضنونه ! نعم، هم يفعلون ذلك! يسيل لعابهم ويطلقون عليه العبارات المُحببة ويطلبون منه أن يسامحهم. ولو حاول المجندين حاول في ذلك الوقت المساس بشعرة واحدة من رأس ذلك الشبل فسوف ينقضّون على ذلك المجند أشبه بفيلق عسكري كامل.
ثم تلا ذلك فترة توقف أخرى.
وقلت له:
- أهذا كل شيء؟
- نعم، سيدي.
- حسناً، وما هي الشكوى؟ ما هو الأمر الذي يطلبون مني القيام به؟
- ما يطلبونه ؟ ؟، ليباركك الله سيدي، كل ما يرغبون منكم القيام به هو إيقافه عن الغناء.
- أية فكرة هذه؟ كنت قلت لي للتو بأن موسيقاه رائعة.
- هي هكذا تماماً، فهي قدسية أكثر مما ينبغي. لذا ليس بإمكان المرء أن يحتملها، هي تُهيّج النفس، وهي بالفعل تقلب المرء رأساً على عقب، تدمر مشاعره وتحوّلها إلى أسمال بالية وتجعله يشعر بأنه سيء وشرير وبأنه لا يصلح لأي مكان سوى للجحيم. فذلك الغناء يجعل الجسد في حالة من التوبة الأبدية، ويجعل المرء يشعر بأن ليس هناك طعم لأي شيء وبأن لا عزاء له في هذه الحياة. كما أن هناك أيضاً ذلك البكاء.أترى؟ ففي كل صباح يشعر كل منهم بالخجل من النظر إلى وجه الآخر.
- حسناً، هذه قضية غريبة وشكوى فريدة من نوعها. وبالتالي هم يريدون مني أن أوقفه بالفعل عن الغناء ؟.
- نعم، سيدي، هذا هو مطلبهم, وهو ليس بالكثير. هم لا يريدون المطالبة بالكثير. كل ما يرغبون به بصدق وبتصميم هو إسكات تلك الصلوات أو جعلها على الأقل ضمن الحدود، لكن الشيء الأساسي هو ذلك الغناء. لو كان بالإمكان أن يتم إيقافه على الأقل عن ذلك الغناء.,هم يعتقدون أن بإمكانهم احتمال الصلوات مهما كانت قاسية عليهم، على ألا تكون بذلك القدر من الاستسلام.
وكنت حينذاك قد أعلمت الرقيب بأنني سوف آخذ الموضوع بعين الاعتبار. وكنت في تلك الليلة قد تسللت إلى سكن فرقة الموسيقيين واستمعت إليه., ووجدت بذلك بأن الرقيب لم يكن قد بالغ في عرض الأمر علي. أصغيت إلى ذلك الصوت الذي كان يتضرع ويتوسل في الظلام، وسمعت لعنات الرجال المُنهكين، وصوت الجزم التي كانت تنهال عليه في الهواء، وتقع وتضرب بعنف حول ذلك الطبل الكبير. تأثرت بذلك لكنني شعرت بذات الوقت بنوع من التسلية.
كان ذلك الغناء يتوقف من فترة لأخرى بسكون مؤثر ثم يعلو من جديد. يالله, لم يكن هناك ما هو أكثر وفتنة وحناناً وقدسيةً، ومما هو مؤثر بهذا الشكل., فلم أكن بعد قد مكثت سوى لفترة قصيرة جداً إلى أن بدأت أن أمرّ بتجربة تلك الانفعالات التي لا تتلاءم مع قائد حصن.
وبذلك كنت في اليوم التالي قد أصدرت الأوامر التي تم بموجبها إيقاف تلك الصلوات وذلك الغناء. ثم تلا ذلك ثلاثة أو أربعة أيام كانت مفعمة بالحماس وبالاهتياج الكبير الذي رافق مناسبة منح جوائز القفز، مما منعني من التفكير ولا حتى لمرة واحدة بذلك الفتى الطبّال. لكن الرقيب رايبورن جاء إلي من جديد ذات صباح وقال:
- سيدي، ذلك الفتى يتصرف بطريقة غريبة.
- كيف ذلك ؟
- حسناً، سيدي هو يكتب طوال الوقت.
- يكتب؟، ما الذي يكتبه؟ رسائل ؟
- لا أدري سيدي، لكنه كلما كان خارج الخدمة، يتسكع بمفرده وهو يبحث طوال الوقت بفضول حول الحصن. لم يعد هناك أي ثقب أو زاوية في الحصن لم يدخل إليها ذلك الفتى. كما أنه بين الفينة والأخرى كان يُخرج من جيبه قلماً وورقة ويدوّن فيها شيئاً.
تسبّب لي ما قاله رايبرون أكثر الشعور بغضاً. كنت أرغب بأن أسخر من كل ذلك، لكن الوقت لم يكن ملائماً لأن أسخر من أي أمر قد تحوم حوله أقل شبهة. كانت أمور كثيرة تجري كل ما حولنا في الشمال في ذلك الوقت، مما نبّهنا إلى أن علينا أن نكون على أهبة الاستعداد، وبأن علينا أن نشتبه على الدوام وفي كل الأمور. كما كنت قد تذكرت حينئذ حقيقة ما يوحي به أن يكون ذلك الفتى من الجنوب ـ ومن أقصى الجنوب، ومن لوازيانا بالذات ـ وبذلك لم تكن تلك الفكرة بحد ذاتها، وفي مثل تلك الظروف, من النوع المُطمئن.
وكانت الأوامر التي كان علي أن أعطيها إلى رايبرون في ذلك الوقت، قد تسببت لي بألم مفاجئ. وكنت قد شعرت كما لو أنني الأب الذي يتآمر مع شخص آخر لكي يُعرّض ولده إلى العار والأذى، وقلت لرايبرون بأن عليه أن يهدأ وأن يأخذ وقته، وبأن عليه أن يجلب إلي، كلما سيكون بإمكانه ذلك، بعض ما يكتبه ذلك الفتى، ولكن دون أن يجعله يلتفت إلى ذلك. وأوصيته بألا يفعل شيئاً قد يجعل الفتى يكتشف بأنه تحت المراقبة. كما كنت قد أعطيت أوامري بأن يُسمح للفتى بكل ما كنت ما منحته له من حرية التصرف، على أن يتم تعقّبه عن بعد كلما خرج إلى المدينة. كان رايبرون قد قدم إلي خلال اليوميين التاليين عدة تقارير، ولكن دون أي نجاح.
كان الفتى لا يزال يكتب، لكنه كان كلما ظهر رايبرون بالقرب منه, يدسّ أوراقه في جيبه دون مبالاة. وبأنه كان قد ذهب مرتين إلى إصطبل قديم مهجور في المدينة، حيث مكث هناك لدقيقة أو دقيقتين ثم خرج منه ثانية.
لم يكن بإمكان المرء أن يستخف بالطبع بمثل تلك الأمور التي كان فيها ما قد يُنذر بالشر. وبذلك اضطررت لأن أعترف لنفسي بأنني بدأت أشعر بعدم الراحة. ذهبت إلى مسكني الخاص وأرسلت في طلب مساعدي الثاني وهو من الضباط الذين يتصفون بالذكاء والحكمة، كما أنه كان علاوة على ذلك ابن القائد العام جيمس واتسون ويب.
دهش مساعدي واضطرب لدى سماعه ما رويته له. وكنا بعد أن تحدثنا مُطولاً حول الموضوع، قد توصلنا إلى الاستنتاج بأن الأمر يستحق الاستقصاء عنه ولكن بسرّية. وقررت أن أقوم بذلك بنفسي. وبذلك ذهبت للاستقصاء عن الحقيقة . وكنت في الساعة الثانية صباحاً, وعلى الفور من وصولي إلى سكن الفرقة الموسيقية، قد زحفت على بطني بين النائمين إلى أن وصلت أخيراًُ إلى مكان سرير ذلك الفتى المتشرد، دون أن أزعج أحد., أخذت بملابسه وأغراضه الشخصية وزحفت عائداً من جديد.
وعندما وصلت إلى سكني الخاص وجدت ويب بانتظاري هناك متلهفاً لمعرفة النتيجة، وبدأنا على الفور بتفتيش تلك الملابس. كانت الملابس مُخيبة للآمال لأن كل ما وجدناه في جيوب ويكلو كان فقط عبارة عن أوراق بيضاء وقلم ولاشيء آخر، فيما عدا مِطواة صغيرة وبعض الأشياء الغريبة من الأشياء التافهة التي يقتنيها الصبية ويُثمنوها كثيراً. ثم عدنا إلى تفحّص عدّة الأشياء الشخصية العائدة إليه ونحن نأمل العثور على شيء، لكننا لم نجد شيئاً سوى ما جعلنا نندم!.. فلم يكن ذلك سوى إنجيل صغير بداخله ورقة كُتبت عليها عبارة " أيها الغريب، كن طيباً مع ولدي لأجل والدته".
نظرت إلى ويب الذي كان قد أرخى نظره لكي لاينظر إلي، وكنت قد أسدلت عينيّ أيضاً ولم يتكلم أي منا. أعدت الكتاب إلى مكانه بوقار، ونهض ويب وغادر المكان دون أن يُبدي أية ملاحظة... ثم كنت بعد فترة قد تمالكت شجاعتي لكي أستطيع القيام بمهمتي البغيضة بأن أعيد المسروقات إلى مكانها وأنا أزحف على بطني كالسابق. كان ذلك يبدو بمثل غرابة المهمة التي كنت فيها، وبذلك كنت بصدق قد شعرت بالسرور عندما انتهت تلك المهمة البغيضة وتمت.
وفي ظهيرة اليوم التالي تقريباً جاء إلي رايبرون كعادته لكي يعرض علي تقريره، لكنني قاطعته على الفور وقلت:
- لندع هذه التفاهات، فنحن نصنع بُعبُعاً من ذلك الفتى الصغير المسكين الذي ليس فيه ما يؤذي أكثر مما في كتاب للأغاني.
نظر إلي الرقيب باستغراب، وقال:
- حسناً سيدي، أنت تعلم بأنها كانت أوامرك، وقد حصلت الآن على بعض ما كتبه.
- وما الذي يفيدك في ذلك ؟ وكيف حصلت عليها ؟
قال رايبرون:
- اختلست النظر إليه من ثقب المفتاح ورأيته يكتب، وعندما قدّرت بأنه انتهى من ذلك، أصدرت صوتاً يشبه السعال الخفيف., رأيته حينئذ يقفز ويُلقي الورقة في النار وهو ينظر حوله لكي يتأكد من عدم مجيء أحد ثم جلس في مكانه باسترخاء ودون مبالاة... بعد ذلك دخلت إلى الغرفة، وأمضيت بعض الوقت في ممازحته، ثم أرسلته لأداء مهمة. لم أكن قد رأيته قط بذلك الارتباك، لكنه كان مع ذلك قد استأنف حديثه معي.
كانت الورقة التي كتبها قد سقطت فوق قطعة من الحطب، إلا أنها لم تكن قد احترقت لأن النار كانت باردة.، وذلك تمكنت من إخراجها.، ها هي.، لم تكد تحترق كما ترى.
نظرت إلى الورقة وقرأت فيها جملة أو اثنتين، ثم صرفت ذلك الرقيب وطلبت منه إرسال ويب إلي. وإليك المحتوى الكامل لتلك الورقة:
حصن ترومبيل 18
أيها الكولونيل (العقيد في الجيش) كنت قد أخطأت بما أوردته لكم حول القطر الداخلي لقذيفة المدافع الثلاث. فهي 18 باونداً. أما باقي الأسلحة فهي كما بيّنتها لكم. تبقى الحامية كما بيّنت سابقاً ما عدا بالنسبة لجنود المشاة الذين كان من المفترض أن يتم إرسالهم إلى الخدمة في الجبهة الأمامية، إلا أنهم سيبقون حاليا في الخدمة هنا. ليس بإمكاني أن أبّين المدة الزمنية لذلك. ليس الآن، لكن هذا سيتم قريباً. نحن نعتقد بأن من الأفضل تأجيل جميع الأمور التي أخذتموها بعين الاعتبار إلى..."
كانت الرسالة قد توقفت هنا، لأن رايبرون كان قد سعل وقاطع الكاتب.
كان كل ما كنت أشعر به من عاطفة لذلك الفتى، وكل ذلك التقدير والتعاطف الذي كنت فيه مع ظرفه البائس, قد ذبل خلال لحظة واحدة أمام ما تم اكتشافه من تلك النذالة التي كانت تتم بدم بارد.
ولكن لا تهتم بذلك، كانت أمامنا قضية ـ قضية عاجلة تتطلب منا سرعة التصرف- قضيّة مصيرية تتطلب الاهتمام بدقّة بكافة التفاصيل. تباحثنا أنا وويب، قلّبنا الموضوع مرات ومرات وتفحصّناه من جميع الجهات ثم قال لي ويب:
- من المؤسف أن يكون رايبرون تأجيله ولكنابد أن هناك أمر ما سوف يتم تأجيله ولكن إلى متى؟ وما هو ذلك الشيء؟ كان بإمكان ذلك الحيوان الزاحف الورع أن يُشير إليه.
قلت:
- نعم، وهكذا فقد فاتتنا تلك الخدعة . ترى ما هو المقصود بكلمة "نحن" في الرسالة ؟ وهل هي مؤامرة داخل الحصن أم أنها خارج الحصن؟..
كانت كلمة "نحن" توحي، وبشكل مزعج، بأمر ما بحيث لم يكن من الحكمة أن نحاول تفسيرها فقط. وكنا بذلك قد التفتنا إلى الأمور الأكثر عملية.، وقرّرنا أن نبدأ قبل كل شيء بمضاعفة الحراسة وبالالتزام بأكثر قدر ممكن من الرقابة. ثم خطر ببالنا بعد ذلك أن نعمد إلى استدعاء ويكلو وأن نجعله يعترف بكل شيء، ولكن لم يكن يبدو لنا بأن من الحكمة أن يتم ذلك إلى أن تفشل جميع الطرق الأخرى. كان علينا أن نحصل أولاً على عدد أكبر من تلك المكاتبات، وبذلك بدأنا بالتخطيط للوصول إلى تلك النهاية وكانت قد خطرت ببالنا حينذاك الفكرة التالية:
لم يكن ويكلو يذهب على الإطلاق إلى مكتب البريد وربما كان ذلك الإصطبل المهجور هو مكتب البريد الخاص به.
أرسلنا بطلب الموظف المسؤول عن الأمور ذات الصفة السريّة، وهو شاب من الجنسية الألمانية يدعى ستيرن وكما أنه نوع من التحرّي. رويت له كل شيء عن القضية وأمرته بالتقصّي عن الموضوع. وخلال ساعة واحدة كانت قد وصلتنا منه معلومات تفيد بأن ويكلو عاد ثانية إلى الكتابة.
كما وصلتنا أيضاً بعد فترة بسيطة معلومات تفيد بأن ويكلو طلب إذناً لمدة ساعة للذهاب إلى البلدة. وبذلك قمنا بتأخيره لبعض الوقت,وكان ستيرن أثناء ذلك قد أسرع بالذهاب إلى الإصطبل واختبأ فيه. وبعد قليل شوهد ويكلو يدخل إلى الإصطبل وهو يمشي الهوينا., حيث كان بعد أن نظر حوله قد خبأ شيئاً في إحدى الزوايا تحت بعض النفايات ثم غادر لمكان بكل تمهّل.
انقض ستيرن على الفور على ذلك الشيء الذي كان الفتى قد خبأه هناك ـ كانت رسالة ـ وكان قد أحضرها إلينا. كانت تحمل عنواناً، إلا أنها لم تكن تحمل أي توقيع، وإنما كان كل ما احتوته تكراراً لما كنا قرأناه في الرسالة السابقة إلا أنها كانت قد استكملت بما يلي:
" نعتقد بأن من الأفضل تأجيل الأمر إلى أن تذهب المجموعتان. أقصد الأربع مجموعات إلى الداخل. لم أتصل بعد بالآخرين. أخشى أن أجلب الانتباه. أقول أربعة لأننا فقدنا اثنين، فلم يكن قد مرّ وقت طويل على تجنيدهما إلا وتم إرسالهما إلى الجبهة، سوف يكون من الضروري جداً تأمين اثنين آخرين بدلاً عنهما. الاثنان اللذان ذهبا كانا من الأخوة من نقطة الثلاثين ميل. لدي أمر في غاية الأهمية عليّ أن أكشفه لكم، ولكن يجب ألا أثق بهذه الوسيلة من الاتصال، سوف نجرب وسيلة أخرى للاتصال".
قال ويب:
- ذلك الوغد الصغير ! من كان بإمكانه أن يظنّ بأنه من الجواسيس؟ على كل حال لا تهتم بالأمر., ودعنا نُضيف هذا إلى ما لدينا أمامنا من التفاصيل، ولنفكر كيف ستبدو هذه القضية:
أولاً: علينا أن نطرد من بيننا هذا الجاسوس الذي أصبحنا نعرفه.
ثانياً: لدينا ثلاثة جواسيس آخرين لا نعرفهم.
ثالثاً: كان قد تم تقديم هؤلاء الجواسيس إلينا بذلك الأسلوب السهل والبسيط الذي يتم بموجبه التطوّع في الجيش الاتحادي، ومن الواضح أن اثنين منهما قد خانا وبذلك تم إرسالهما إلى الجبهة.
رابعاً: لابد أن هناك في الخارج بعض الجواسيس المساعدين لهم وبعدد لايمكن تحديده.
خامساً: يبدو أن عليه أن يعلمهم بأمر هو في غاية الأهمية, وهو يخشى نقله إليهم بالطريقة الحالية، لذا سوف يقوم بتجربة طريقة أخرى.
هذه هي القضية كما تبدو أمامنا. فهل سيكون علينا أن نقبض على ويكلو ونجعله يعترف؟ أم أن علينا أن نقبض على ذلك الشخص الذي ينقل الرسائل من الإصطبل ونجعله يتكلم ؟ أم أن علينا أن نبقى على هدوءنا إلى أن نكتشف المزيد ؟!...
قرّرنا إتباع المسار الأخير. وارتأينا بأننا لسنا في حاجة حالياً إلى البدء باتخاذ بعض الإجراءات العاجلة، بما أن من الجليّ أن على المتآمرين على ما يبدو الانتظار إلى أن يتم إجلاء مجموعتي المشاة من طريقهم. خوّلنا ستيرن عدداُ كبيراً من الصلاحيات، وطلبنا منه أن يستخدم كل إمكانياته لكي يكتشف وسيلة الاتصال الأخرى التي سوف يستخدمها ويكلو.
وكنا بذلك نرغب بلعب لعبة جريئة. واستناداً لما توصلنا إليه في نهاية النقاش. كنا قد ارتأينا الاحتفاظ بالجواسيس بوضع يُشعرهم قدر الإمكان بأنهم ليسوا تحت المراقبة. وبذلك أعطينا الأوامر إلى ستيرن بالعودة فوراً إلى الإصطبل. وطلبنا منه إخفاء رسالة ويكلو في المكان الذي كان قد وضعها فيه سابقاً، هذا فيما إذا وجد الطريق سالكاً، وذلك لكي يقوم المتمردون بأخذها.
مرّت تلك الليلة دون أية أحداث أخرى. كانت ليلة باردة، مظلمة وممطرة تهب فيها رياح عاتية., ومع ذلك كنت في تلك الليلة قد خرجت عدة مرات من سريري للقيام بجولات ليلية، أتأكد بموجبها من أن جميع الأمور في الحصن كانت على ما يرام، وبأن كل حارس كان يقف في مكانه بوضعية الاستعداد. كنت أجدهم دوماً مستيقظين تماماً ومتيقّظين تماماً. كان من الجليّ أن التهامس قد بدأ ينتشر بينهم حول وجود بعض المخاطر الغامضة، كما أن مضاعفتنا للحراسة كانت بمثابة التأكيد لتلك الشائعات. وكنت ذات مرة قد صادفت ويب قرب الصباح الذي كان يشقّ طريقه في تلك الريح القاسية، وبذلك أدركت بأنه كان أيضاً يقوم بجولاته عدة مرات لكي يتأكد من أن جميع الأمور تسير بالشكل المطلوب.
وأما في اليوم التالي فكانت الأمور تصاعدت بطريقة وبأخرى، فقد علمنا بأن ويكلو كتب رسالة أخرى. وبذلك سبقه ستيرن إلى الإصطبل. وكان بعد أن شاهده يضع الرسالة هناك قد استولى عليها بعد مغادرة ويكلو الإصطبل، ثم تسلل ورائه وتبتع خطوات ذلك الجاسوس الصغير عن بعد، مع تحرٍّ آخر بملابس عادية. فقد ارتأينا بأن من الحكمة أن يكون بإمكاننا اللجوء إلى مؤازرة القانون عند الحاجة. ثم كان ويكلو قد ذهب بعد ذلك إلى محطة القطار, حيث انتظر وصول القطار القادم من نيويورك، ثم وقف يتفحّص وجوه الحشود وهم يستقلّون السيارات. وكان قد نزل في المحطة حينذاك رجل عجوز أعرج يرتدي نظارات خضراء اللون ويحمل عصاً. توقف ويكلو بجانبه وبدأ يتأمله., ثم كان وخلال لحظة واحدة قد تحرك بسرعة بأن دسّ في يده مغلفاً ثم انسل إلى الأمام واختفى بين الحشود. وكان ستيرن خلال اللحظة التالية قد اختطف الرسالة من الرجل ومرّ بالتحرّي وأسرع بالهرب بعد أن قال له:
- عليك تتبع ذلك الرجل العجوز، لا تدعه يفلت عن ناظريك.
ثم توارى ستيرن بين الحشود وجاء مباشرة إلى الحصن. أقفلنا الأبواب وأمرنا الحارس في الخارج بعدم السماح بأية مقاطعة وجلسنا. كانت تلك الورقة تحتوي على ما يلي:
" الحلف المقدس. وجدنا في المدفع المتفق عليه تعليمات الرئيس التي كانت قد وضعت هناك الليلة الماضية. تم بموجب ذلك صرف النظر عن التعليمات التي كنا قد تلقيناها حتى الآن من النقطة التابعة. تركنا في المدفع الإشارة المعتادة بأن التعليمات وصلت إلى الشخص المناسب.
قاطعنا ويب بالقول :
- ألا يزال الفتى تحت المراقبة المستمرة في الوقت الحاضر؟
أجبته:
- نعم، هو تحت المراقبة الدقيقة منذ الإمساك برسالته الأخيرة.
- فإذن، كيف كان بإمكانه أن يضع أي شيء داخل المدفع، أوأن يُخرج أي شيء منه دون أن يتم القبض عليه؟
قلت: - حسناً، وأنا أيضاً أجد في ذلك ما يريب، لابد أن هناك بعض المتآمرين الآخرين بين الحراس بالذات، لأن هذا الأمر لايمكن أن يتم بدون تسترهم عليه بشكل أو بآخر.
أرسلت في طلب رايبورن وأمرته بتفحص بطاريات المدفع وإعلامي بما سيراه., وبما أننا لم نكن قد انتهينا بعد من قراءة الرسالة الأخيرة فقد تابعنا القراءة:
" التعليمات الجديدة نهائية وتتطلب أن يكون بدلاُ عن م. م. م. م - هو ف. ف. ف. ف وفي الساعة الثالثة من صباح الغد. سوف تصل من جهات مختلفة ,مجموعات صغيرة من مائتين إما بواسطة القطار أو بوسيلة أخرى وسوف يكونون في المكان المحدد في الوقت المناسب. سوف أقوم اليوم بتوزيع الإشارة. يبدو النجاح مضموناً، رغم أنني أعتقد بأن هناك ما تم الكشف عنه، فقد تمت مضاعفة الحراسة، كما قام الرؤساء ليلة الأمس بجولات ليلية. سوف يأتي و. و. اليوم من الجهة الجنوبية، سوف تتلقى التعليمات السرّية بواسطة الطريقة الأخرى. عليك أن تتواجد أنت و الستة في 166 بحدود الساعة الثانية بعد الظهر. سوف تجدون ب. ب هناك وسوف نزودكم بالتعليمات التفصيلية. كلمة السرّ هي كالمرّة السابقة لكنها معكوسة. ضعوا الفقرة الأولى في الأخير والفقرة الأولى في البداية. تذكروا ك. ك. ك. ك، لا تنسوا، كونوا شجعاناً, سوف تصبحون من الأبطال قبل أن تُشرق شمس الغد من جديد، وسوف تحصلون على الشهرة الدائمة، وسوف تضيفون بذلك صفحة خالدة على التاريخ. آمين".
قال ويب: - اللعنة !.. فكما بإمكاني أن أتبيّن من هذه الرسالة، يبدو أننا سوف نواجه نقطة ساخنة.
قلت: - لا مجال لذلك لكن الأمور على ما يبدو قد بدأت تأخذ مأخذ الجدّ., سوف تكون مغامرة متهورة عن طريق البر والوقت المحدد لها هو الليلة، وذا واضح بما فيه الكفاية. والطريقة الحقيقية , أقصد في أسلوب التنفيذ، تختبئ تحت تلك الأسماء المُزيفة "م" "و" "ف" ولكن النهاية والهدف،على ما أعتقد، يكمنا في المباغتة وفي الاستيلاء على الحصن. علينا الآن أن نتحرك بسرعة وعزم. أعتقد بأننا لن نكسب شيئاً بالاستمرار في سياستنا السرّية تجاه ويكلو. وعلينا أن نعرف وبأسرع ما يمكن أيضاً أين يقع الرقم (166) لكي نتمكن من الإعداد لإنزال على عصابة المتآمرين في الساعة الثانية بعد الظهر. والوسيلة الأسرع للحصول على تلك المعلومات هي دون شك في الحصول عليها بالقوّة من ذلك الفتى، ولكن كان عليّ أولاً وقبل قيامي بأية تحركات ذات أهمية، أن أعرض تلك الوقائع على هيئة أركان الحرب، وأن أطلب منهم التفويض المُطلق بالصلاحيات.
قمنا بإعداد نصّ برقية بالشيفرة (الكتابة السرية) وبعد أن قرأت الرسالة ووافقت على ما ورد فيها تم إرسالها عبر الأسلاك.
وبعد أن انتهينا من مناقشة موضوع الرسالة التي كانت قيّد الدراسة، كنا قد فتحنا الرسالة الأخرى التي تم الاستيلاء عليها من ذلك الرجل الأعرج. لم تكن الرسالة تحتوي سوى على عدد من أوراق الكتابة البيضاء... لابد أنها كانت عبارة عن اختبار بارد لما كنا نتوقعه ولما كنا نتلهف للوصول إليه!. شحبت وجوهنا بحيث أصبحت بلون تلك الأوراق البيضاء. وقفنا للحظة أو لحظتين كالبُلهاء، لكنها كانت لحظات فقط, وكان قد توارد إلى أذهاننا بالطبع موضوع "الحبر السري". قرّبنا الرسالة من النار وأمعنا النظر في الحروف لكي نرى كيف ستظهر تحت تأثير الحرارة. ولكن لم يظهر فيها أي شيء سوى بعض الرسوم الباهتة التي لم نتمكن من تفسيرها. طلبنا حينئذ قدوم الرقيب وطلبنا منه القيام بكل ما يعرفه وما سيكون بإمكانه إجراءه من الاختبارات إلى أن يتوصل إلى الطريقة الصحيحة، وبأن عليه أن يوافينا بتقرير عن محتويات الرسالة فور ظهورها على سطح الورقة. كان ذلك الاختبار مصدراً للمزيد من الإزعاج والارتباك بالنسبة إلينا، لأننا كنا بالطبع نتحرّق بسبب التأخير، وكنا نتوقع أن نحصل من تلك الرسالة على الأسرار الأكثر أهمية حول تلك المؤامرة.
ثم جاء الرقيب رايبورن بعد ذلك، وأخرج من جيبه قطعة سلك مفتول بطول القدم تقريباً، عليه ثلاث عقد، رفعه إلى الأعلى وقال:
- أخرجت هذا السلك من المدفع المُوّضع بجانب الجبهة الأمامية. وبذلك كنت قد قمت بعد ذلك بانتزاع سِطام جميع المدافع وتفحّصتها عن قرب ولم أجد في أي مدفع مثل هذا السلك.
وكانت قطعة السلك بذلك بمثابة العلامة من ويكلو إلى أن أوامر الرئيس قد أجهضت. أعطيت تعليماتي بأن يتم وعلى الفور احتجاز جميع الحراس الذين تواجدوا بجانب المدفع خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية، وبأ لا تُترك لهم أية فرصة للاتصال بأي شخص بدون موافقتي وبموجب أوامري السرية.
ثم وصلتنا برقية من وزير الحربية كانت تتضمن ما يلي:
"أصدروا الأوامر باعتقال المشتبه بهم. أعلنوا الأحكام العرفية في البلدة، قوموا بالاعتقالات اللازمة. تصرفوا بحزم وبسرعة. أبقوا الإدارة على اطلاع على التطورات".
وكنا بذلك قد أصبحنا في الوضع الذي يسمح لنا بالتصرف. أرسلت من يلزم لاعتقال الرجل الأعرج، حيث تم إحضاره إلى الحصن دون جلبة . وضعته تحت الحراسة ومنعت التحدث معه أو التحدث لأجله., كان الرجل قد حاول في البداية أن يُحدث جلبة لكنه أقلع عن ذلك بسرعة.
ثم وصلنا ما يُشير إلى أن ويكلو شوهد وهو يُعطي شيئاً لبعض مجندينا الجُدد، وبذلك تم القبض على أولائك المجندين فور ابتعاده عنهم وتم احتجازهم أيضاً., وكنا قد وجدنا مع كل منهم قطعة صغيرة من الورق تحمل الكلمات والرموز التالية المكتوبة بقلم الرصاص:
"سرب النسر الثالث
تذكروا إكس، إكس، إكس، إكس
166"
وكنت ,استناداً للتعليمات التي وردتنا سابقاً, قد أبرقت إلى الإدارة بالشيفرة عما قمنا به من إجراءات وعن آخر التطورات، وبيّنت لهم أيضاً ما كُتب في البطاقة المذكورة أعلاه. وبذلك كنا قد أصبحنا بموقف القوّة بما يكفي لأن نُجازف بنزع القناع عن ويكلو. ثم أرسلت في طلبه كما أرسلت لجلب الرسالة التي كان ويكلو قد كتبها بحبر سرّي. لكن الرقيب الذي جلبها قال بأنها استعصت على جميع الاختبارات التي أجراها، إلا أن هناك وسائل أخرى بإمكانه أن يستخدمها فيما إذا تم تخويله بذلك (أي الحصول على المعلومات بالقوّة).
عندما دخل ويكلو إلى الغرفة، كانت تبدو عليه بعض الشيء علامات التعب والقلق، لكنه كان مع ذلك متماسكاً ولم يرتبك، وحتى لو كانت لديه أية فكرة عن الأمر، فلم يكن ذلك قد ظهر على ملامح وجهه أو في طريقة تصرفه. سمحت له بالوقوف للحظة أو لحظتين ثم قلت له بلطف:
- بُني، لِم تذهب كثيراً إلى ذلك الإصطبل القديم ؟
أجابني دون مبالاة أو ارتباك:
- الحقيقة أنني لست أدري تماماً لِم أفعل ذلك., ليس لدي سبب معين لذلك، سوى لكي أكون بمفردي ولكي أتسلى هناك.
- أنت تتسلى هناك، أليس كذلك ؟.
أجاب بذات الأسلوب البريء البسيط :
- نعم سيدي.
- أهذا كل ما تفعله هناك؟
أجاب وهو ينظر إلي بعينيه الواسعتين الصافيتين بتساؤل طفولي:
- نعم سيدي.
- أأنت متأكد من ذلك؟
- نعم أنا متأكد.
ثم قلت بعد فترة توقف قصيرة:
- ويكلو، لماذا تكتب كثيراً
- أنا، سيدي؟ أنا لا أكتب كثيراً.ً
- ألست تفعل ذلك؟
- لا سيدي، إلا إذا كنت تقصد تلك الخربشة. فأنا أخربش لكي أتسلى.
- وما الذي تفعله بتلك الخربشة؟
- لاشيء سيدي، أرميها.
- ألا ترسلها لأي شخص على الإطلاق؟
- لا، سيدي.
ثم عرضت عليه فجأة الرسالة الموجهة إلى الكولونيل. جفل ويكلو قليلاً لكنه تمالك نفسه على الفور وانتشرت حمرة خفيفة على خديه.
- فكيف حدث إذن أن قمت بإرسال هذه القطعة من الورق؟
- لماذا؟ لا، أبداً ـ لم أكن أقصد أبداً أية إساءة سيدي.
- لم تكن تقصد أبداً الإساءة! أنت تخون الجيش وأن تستغل موقعك، وأنت لاتقصد بذلك الإساءة ؟
أحنى رأسه وظل صامتاً.
- والآن، عليك أن تتكلم ولتتوقف عن الكذب.لمن كنت تنوي إرسالها ؟
بدت عليه مظاهر الأسى لكنه تمالك نفسه وأجاب بلهجة جدّية:
- سوف أقول الحقيقة، سيدي، كل الحقيقة، لم أكن أنوي إرسال تلك الرسالة لأحد على الإطلاق. وإنما كتبتها لكي أتسلى فقط. أنا أدرك الآن ما تسببت به من أخطاء بحماقتي. كانت تلك عبارة عن مخالفة غير مقصودة، وهذه كلمة شرف سيدي.
- أنا سعيد بذلك. فمن الخطر أن تكتب مثل تلك الرسائل. أرجو أن تكون متأكداً من أنها الرسالة الوحيدة التي كتبتها.
- نعم سيدي، أنا متأكد تماماً.
كانت شجاعته مُذهلة. فقد نطق بتلك الكذبة بكل صدق وبسيماء وجه لم أكن قد شاهدت مثلها من قبل.
انتظرت فترة إلى تهدأ ثورة غضبي ثم قلت:
- ويكلو، نبّه ذاكرتك الآن، ولنرى فيما إذا كان بإمكانك أن تساعدني بأمرين أو بثلاثة أمور صغيرة أود الاستفسار منك عنها.
- سوف أبذل كل ما بإمكاني سيدي.
- فلنبدأ إذاً، من هو الأستاذ ؟
كان لذلك أثره في الكشف عن مشاعره، بحيث ألقى على وجوهنا نظرة تنم عن الفزع. لكن ذلك كان كل شيء. وكان خلال لحظة قد عاد إلى صفائه وأجاب بهدوء:
- لا أعرف سيدي.
- ألا تعرف ؟
- لا أعرف.
- أأنت متأكد من أنك لا تعرف؟
حاول بصعوبة أن يُثبّت نظره في عينيّ، لكن الضغط كان عليه كبيراً. وبذلك كان قد أحنى ذقنه ببطء نحو صدره. ولاذ بالصمت ووقف هناك يتحسّس أزراره بعصبية. كان في ذلك ما يُثير الشفقة عليه رغم تصرفاته الدنيئة. ثم قمت بخرق الصمت بسؤال:
- ومن هو الحلف المقدس ؟
ارتجف جسمه بوضوح، وحرّك يديه حركة خفيفة عشوائية لاإرادية. وكانت تلك النظرة بالنسبة إلي أشبه بنداء من مخلوق يائس بحاجة إلى الرأفة. لم يصدر عنه أي صوت. وإنما ظلّ واقفاً مُحنياً رأسه نحو الأرض. وبينما كنا جالسين نحدق به بانتظار أن يتكلم، رأينا بأن دموع غزيرة بدأت تسيل على خدّيه، لكنه ظلّ صامتاً. ثم قلت بعد برهة:
- بُني، يجب أن تجيبني، عليك أن تُعلمني بالحقيقة من هو الحلف المقدس؟
بدأ يبكي بصمت ثم قلت بشيء من العنف:
- أجب على السؤال!
حاول السيطرة على صوته ثم نظر إلينا بتوسل، ثم بدأت الكلمات تخرج من فمه يرافقها نشيجه:
- سيدي، أرجو أن ترأف بحالي، ليس بإمكاني أن أجيب لأنني لا أعلم.
- ألا تعلم من هو؟
- أنا بالفعل، سيدي، أنا بالفعل أقول الحقيقة. لم أكن قد سمعت قط وحتى هذه اللحظة باسم الحلف المقدس. أقسم بشرفي سيدي هذا هو الأمر.
- يا ربّ الكون ! انظر إلى الرسالة الثانية التي كتبتها، ألا ترى هذه الكلمات " الحلف المقدس" ما الذي تقوله الآن؟
رفع رأسه ونظر إلي نظرة الشخص الذي جُرحت مشاعره نتيجة خطأ كبير تم إيقاعه به ثم قال بيأس:
- هذه مزحة قاسية سيدي! كيف بإمكانهم أن يلعبوها معي؟ وأنا الذي بذلت كل ما بوسعي لكي أتصرف باستقامة وبأن لا أتسبب لأحد بالأذى؟ لابد أن أحدهم قام بتزوير خطيّ، فأنا لم أكتب على الإطلاق، ولو حتى سطر واحد من كل هذا، كما لم يسبق لي أن شاهدت هذه الرسالة من قبل!
- أووه.. أنت أيها الكاذب الذي لا نظير له! ما الذي تقوله في هذا؟
ثم انتزعت من جيبي الرسالة المكتوبة بالحبرالسرّي ودفعتها أمام عينيه. شحب وجهه بحيث أصبح أشبه بوجه شخص ميت. ترنح قليلاً في مكانه، ووضع يده على الجدار لكي يتمالك نفسه. ثم سألني بعد لحظة بصوت ضعيف إلى درجة جعلتني أجد صعوبة في سماعه:
- هل، هل, قرأتها ؟
لابد أن وجهينا كانا قد أجاباه بالحقيقة قبل أن تنطق شفاهنا بكلمة نعم الكاذبة، فقد لمحت بوضوح الشجاعة التي بدت في عيني الفتى. انتظرت أن يقول شيئاً لكنه ظل صامتاً وبذلك قلت له أخيراً:
- حسناً، هل لديك ما تقوله حول ما تم الإفشاء به في هذه الرسالة ؟
أجابني بكل رباطة جأش:
- لا شيء، ما عدا أنها رسالة غير مسيئة وبأنها رسالة بريئة لا يمكن أن تتسبب لأحد بالأذى.
شعرت بأنني قد أصبحت في ذلك الوقت محصوراً في زاوية لأنه لم يكن بإمكاني أن أناقض ما قام بجزمه كما لم يكن بإمكاني أيضاً أن أصّرعليه.
لم أكن أعلم كيف سأستمر. ومع ذلك جاءني الفرج بأن خطرت ببالي فكرة وقلت:
- أأنت متأكد بأنك لا تعلم شيئاً عن الرئيس ولاعن الحلف المقدس وبأنك لم تكتب تلك الرسالة التي قلت بأنها ليست سوى شيء مزوّر؟.
- نعم سيدي، أنا متأكد.
سحبت من جيبي ببطء ذلك السلك المفتول دون أن أتكلم. حدّق ويكلو به دون مبالاة ونظر إلي بتساؤل. وكان صبري هنا قد نفذ إلى حدّ كبير إلا أنني كنت مع ذلك قد كبحت انفعالاتي وقلت بلهجة عادية:
- ويكلو هل ترى هذه؟
- نعم سيدي.
- ماهي؟
- يبدو وكأنها قطعة سلك.
- هل تبدو كأنها قطعة سلك؟ ألا تعرفها؟
أجاب بكل هدوء وكأنه يهمس بالكلمات: - لا، سيدي.
كان بروده بالفعل رائعاً! توقفت لعدة ثوان ٍ لكي يكون صمتي مُؤثراً، ثم نهضت ووضعت يدي على كتفه وقلت بجديّة:
- لن يفيدك هذا أيها الفتى البائس. ولن يُفيدك أي شيء في هذا العالم. فهذه هي الإشارة المتفق عليها مع الرئيس الأستاذ، أليس كذلك؟ وهذا هو السلك المفتول الذي تم العثور عليه في مدفع في الجبهة المائية.
- هل تم العثور عليه في المدفع؟ ! لا، لا، لا، لا تقل في المدفع، وإنما في شِق في سطام البندقية، يجب أن يكون كذلك. ثم ركع على ركبتيه وأطبق يديه ورفع إلي وجهاً يدعو للرأفة., وكان هائجاً وشديد الشحوب لشدة الرعب.
- لا، لا، لا أكان في المدفع ؟
- يا إلهي، لقد ضعت، ضعت للأبد، لابد أن هناك خطأ ما. ثم قفز من مكانه وشقّ طريقه بين الأيادي التي كانت تحاول الإمساك به محاولاً الهرب من المكان، لكن هربه كان بالطبع مستحيلاً. وبذلك ارتمى من جديد على ركبتيه وهو يبكي بكل جوارحه وأحاط بركبتي والتصق بها. وبدأ يستعطفني ويتوسل إلي قائلاً:
- ارحمني، كن رؤوفاً بي ! لا تُفشي سرّي، لا تشي بي. لن يتركوني حياً ولو للحظة ! ارحمني ! أنقذني! سوف أعترف بكل شيء!.
كنا قد احتجنا لبعض الوقت لكي نجعله يهدأ ولكي نُخفف من خوفه، ولكي نُعيده إلى بعض العقلانية، ثم بدأت باستجوابه. كان يُجيب بتذلل وبعينين مُطرقتين إلى الأرض، وكان من وقت لآخر يمسح الدموع التي كانت تسيل من عينيه دون توقف:
- فإذن أنت في قلبك من المتمردين؟
- نعم سيدي.
- وأنت جاسوس؟
- نعم سيدي.
- وأنت تُمثّل هذا الدور بموجب أوامر من الخارج ؟
- نعم سيدي.
- وبمحض إرادتك؟
- نعم سيدي.
- وربما بكل سرور؟
- نعم سيدي.، لن يفيدني الإنكار. الجنوب وطني. قلبي مع الجنوب، وهذا كلّه لأجل قضية الجنوب !.
- كانت القصة التي رويتها لي عما عانيته من ظلم ومن اضطهاد لعائلتك قصة مُلفقة لهذا الغرض ؟
- سيدي، قالوا لي أن علي أن أروي ذلك.
- وسوف تخون وتحطم من أشفقوا عليك ومن قدموا إليك الحماية. أتدرك كم أنت حقير؟ أنت أيها الشيء البائس المُضللّ.
أجاب بمجرد المزيد من البكاء الشديد.
- حسناً، دعنا نتغاضى عن كل ذلك، وبالنسبة للموضوع من هو القائد الكولونيل وأين هو؟
بدأ يبكي وحاول أن يرجوني أن أعفيه من الإجابة. وقال بأنه سوف يُقتل لو قال لي. هدّدته بوضعه في الزنزانة المظلمة وبحبسه إن لم يكشف لي عن تلك المعلومات. كما وعدته بذات الوقت بحمايته من أي أذى لو صرّح بوضوح بما لديه. وكان كل ما أجاب به هو أن أقفل فمه بحزم، واتخذ موقفاً عنيداً لم أتمكن من إثنائه عنه. وكنت في آخر الأمر قد اصطحبته إلى الزنزانة المظلمة، وكان بمجرد النظر إليها قد اهتاج وانفجر بعاصفة من البكاء ومن التوسل وقال بأنه سوف يروي لي كل شيء.
وبذلك، كنت قد أعدّته معي. ثم قام بإعلامي باسم الشخص الذي يُلقب بالكولونيل، ووصفه لي بالتفصيل وبشكل مُحدّد. وقال بأن بالإمكان العثور عليه في الفندق الرئيسي في البلدة وهو يرتدي ثياباً مدنية. وكان علي أن أهددّه من جديد لكي يُدلي باسم وبأوصاف ذلك الأستاذ. قال لي بأن بالإمكان العثور عليه في نيويورك وفي الشارع رقم (15) تحت اسم مستعار هو ر. ف. غاليورد. اتصلت على الفور برئيس شرطة العاصمة وأعلمته باسم وبأوصاف ذلك الرجل وطلبت منه توقيفه واحتجازه إلى أن أتمكن من إحضاره.
ثم قلت له:
- والآن ويكلو، يبدو لي أن هناك العديد من المتآمرين الآخرين في الخارج، ومن المتحمل أن يكون ذلك في نيو لندن، وعليك أن تُسميهم وتُدلي لي بأوصافهم.
قام بتسميتهم حيث أدلى بأوصاف ثلاثة رجال وسيدتين، يقيم جميعهم في الفندق الرئيسي في البلدة. وبذلك قمت بتوقيفهم وبتوقيف الكولونيل وبحبسهم في الحصن.
ثم سألته: أريد أن أعرف كل شيء عن المتآمرين الثلاثة المحتجزين حالياً في الحصن.
وكان كما أعتقد على وشك المراوغة لكي يتفادى ذلك بأسلوب من النفاق. إلا أنني كنت قد أخرجت قطع الورق الصغيرة الغامضة التي تم العثور عليها معهم, وكان لذلك أثره المفيد عليه. ثم قلت له بأننا قبضنا على الرجلين، وبأن عليه أن يُشير إلى مكان الرجل الثالث وهذا ما جعله يشعر بفزع شديد حيث صاح:
- أرجوك، لا ترغمني على ذلك. سوف يقتلني على الفور!
قلت له: بأن كل ذلك هراء. وأعلمته بأنني سوف أكلف من سيبقى بجانبه لكي يتولى حمايته، وبأننا سنقوم، بالإضافة إلى ذلك، بمواجهته بجميع الرجال بعد تجريدهم من السلاح وأمرت جميع المجندين الجُدد بالتجمع.
خرج ذلك البائس التعيس بين صفوف الجنود وهو يرتجف. كان يحاول قدر الإمكان أن يُظهر عدم مبالاته بالأمر. ثم كان أخيراً قد تكلم كلمة واحدة مع أحد الرجال. وهذا ما جعلنا نعتقل ذلك الرجل قبل أن يكون قد ابتعد عنه خمس خطوات.
وكنت على الفور من إعادة ويكلو إلى الغرفة ثانية، قد أمرت بإحضار الرجال الثلاثة معاً. أوقفت أحدهم أمامي وقلت:
- والآن ويكلو عليك ألا تخفي عني أية تفاصيل صغيرة عن الحقيقة. من هو هذا الرجل ؟ وما الذي تعرفه عنه ؟
وبما أنه بذلك كان قد أصبح في صِلب الموضوع فقد تغاضى عن النتائج ثم ثبّت نظره على وجه الرجل وبدأ يتكلم في الحال دون أي تردد بما فحواه:
- اسمه الحقيقي جورج بريستو وهو من نيو أورلينز.،كان قبل سنتين يشغل وظيفة وكيل ربان في سفينة صغيرة تدعى" الكابيتول". يتصف هذا الرجل بالتهور، وكان قد تم حبسه مرتين بجريمة القتل غير العَمد ـ إحداهما لأنه قتل أحد مساعديه الذي يدعى هايد بواسطة قضيب حديدي. و الأخرى لأنه قتل أحد الرجال لرفضه رفع صفيحة من الرصاص رغم أن ذلك كان من مهامه. هو جاسوس تم إرساله إلى هنا من قبل الكولونيل لكي يقوم بهذه المهمة. كان يشغل وظيفة الربان الثالث في "سانت نيكولاس" عندما انفجرت بجوار "ممفيس" عام 1885، كما أنه كاد يُعدم بدون محاكمة لقيامه بسرقة الموتى والجرحى عندما تم نقلهم إلى الشاطئ على ظهر مركب خشبي فارغ، وهلم جراً. ثم أعطانا سرداً كاملاً للمراجع الكاملة عن ذلك الرجل.
وعندما أنهى حديثه قلت للرجل:
- ما الذي تقوله حول هذا ؟
أجاب: - مع احترامي لك سيدي، إن كل ما قاله عبارة عن كذبة شيطانية لم يتم تلفيق مثلها في أي وقت مضى.
أرسلته إلى الحجز، واستدعيت الآخرين على التوالي. ذات النتيجة. كان الفتى قد أعطاني تاريخ حياتهما بالتفصيل، دون أن يتردد بأية كلمة أو واقعة، إلا أن كل ما استطعت أن أحصل عليه من كل من الوغدين كان تأكيدهما بكل ثورة غضب بأن كل ما قاله الفتى كان كذباً ولم يعترفوا بأي شيء. لذا أعدتهم إلى الحجز ثم قمت بإحضار باقي السجناء الواحد تلو الآخر. وكان ويكلو قد أعلمني كذلك بكل شيء حولهم، ومن أية مدن هم في الجنوب. وبجميع التفاصيل حول علاقتهم بالمؤامرة الخ.
لكن الجميع أنكروا الوقائع التي رواها لي، ولم يعترف أي منهم بشيء. نظرت إلى تلك العصابة باشمئزاز والتفتت إلى اعترافات ويكلو مرة أخرى وسألته:
- أين هو الرقم (166 ) ومن هو( ب. ب) ؟
لكنه كان قد قرّر عدم التلفظ بحرف واحد.، ولم يؤثر فيه لا التهديد ولا الوعيد ولا الترغيب. كان الوقت يمرّ بسرعة وكان من الضروري اتخاذ إجراءات سريعة. لذا كنت قد أوثقته من قدميه على دولاب. وعندما تزايد الألم، بدأت تصدرعنه تلك الصرخات التي كانت أكثر مما كان بإمكاني احتماله. إلا أنني كنت قد ظللت مُتماسكاً، ثم صرخ بعد فترة قصيرة:
- أرجوك أنزلني وسوف أعترف!.
- لا، سوف تعترف قبل أن أنزلك.
والحقيقة أن كل لحظة من ذلك الوقت كانت بالنسبة إليّ ما يُشبه الاحتضار. ثم بدأ يتكلم:
- الرقم (166) هو فندق "إيغل".
ثم قام بذكر اسم حانة حقيرة بجانب ضفة النهر هي عبارة عن مسكن للعمال العادين الذين يعملون على طول الشاطئ ولغيرهم من الأشخاص الرديئي السمعة. وبذلك اعتقلته وأمرته أن يُطلعني على هدف المؤامرة.
قال وهو ينشج ويبكي:
- الهدف منها الاستيلاء على الحصن الليلة !
- هل تم القبض على جميع المشاركين في المؤامرة؟
- لا، لقد قبضتم على الجميع ما عدا من سوف يجتمعون في الرقم (166).
- وما معنى " تذكّروا إكس، إكس، إكس" ؟
لكنه لم يجب.
- ما هي كلمة السرّ للرقم 166 ؟
لم يجب.
- ما معنى تلك المجموعة من الحروف: ف، ف، ف، ف و حروف: م، م، م، م أجبني ! وإلا فسوف يتم وضعك على الدولاب من جديد.
- لن أجيب ! سوف أموت قبل أن أجيب. ولتفعل الآن ما تريد.
- فكّر بما تقوله ويكلو. هل هذا هو جوابك النهائي؟
أجاب بتصميم دون أية رعشة في صوته:
- نعم هذا هو جوابي النهائي. وأنا متأكد من ذلك كما أنني متأكد بأنني أحب موطني وأكره الشمس التي تسطع على الشمال. سوف أموت قبل أن اكشف عن كل هذه الأمور.
ربطته مجدداً على الدولاب، وكنت أشعر، وأنا أستمع إلى صرخات ذلك الصغير البائس، بأن قلبي ينفطر. لكنّا لم نكن قد حصلنا منه مع ذلك على أية معلومات. وكان على كل سؤال يُوجّه إليه يصرخ بذات الإجابة :
- أستطيع أن أموت، وسوف أموت، لكنني لن أكشف عن ذلك أبداً.
حسناً. كان علينا أن نَدع الأمور كذلك. لأننا كنا على يقين بأنه سوف يموت دون أن يعترف، وبذلك كنا قد أنزلناه من على الدولاب، وقمنا بحبسه تحت الحراسة المشددة.
ثم انشغلنا لبضع ساعات بإرسال البرقيات إلى هيئة أركان الحرب وباتخاذ التحضيرات اللازمة لأجل الإنزال في الرقم(166).
وكانت تلك الليلة المظلمة القاسية من أكثر الأوقات العصيبة التي مررنا بها فقد تسرّب الموضوع وبذلك أصبح الحصن بكامله في حالة هياج. تمت مضاعفة الحراسة، بحيث لم يكن بإمكان أحد أن يتحرك من الداخل أومن الخارج دون أن يتم توقيفه وعلى رأسه عقب بندقية. ومع ذلك كنت ,وهذا ما كان عليه ويب أيضاَ ,أقل قلقاً مما كنا عليه من قبل لأن المؤامرة لابد أن تكون قد أصبحت في الوقت الحاضر بوضع الشلل، بما أن ذلك العدد الكبير من المسؤولين الرئيسيين عنها كان قد أصبح في قبضتنا.
قررت أن أتواجد في الرقم (166) في الوقت المناسب وأن أقبض على (ب، ب) وأن أكمّ فمه وأن أكون على استعداد عندما سيصل الآخرون. تسللت إلى خارج الحصن حوالي الواحدة والنصف صباحاً، وبرفقتي مجموعة من الجنود النظاميين الأقوياء البنية ومن المقاتلين الشجعان، كما كان الفتى ويكلو خلفنا وهو موثق اليدين. قلت له بأننا ذاهبون إلى الرقم (166) وبأنه لو تبيّن لنا بأنه كان قد كذب علينا مرة أخرى وبأنه يخدعنا، فسوف يكون عليه أن يتحمل النتائج.
اقتربنا خلسة من ذلك الفندق لكي نستطلع الأمر. كان هناك ضوء واحد في الحانة بينما كان باقي الفندق مظلماً. حاولت اقتحام الباب الأمامي وتمكنت من ذلك. ثم دخلنا بهدوء وأقفلنا الباب وراءنا. خلعنا أحذيتنا وتقدمنا نحو باب الحانة حيث كان المالك الألماني نائماً على كرسيه. أيقظته بهدوء وطلبت منه أن يخلع حذائه وأن يتقدمنا. وحذرته بذات الوقت من أن يصدر أي صوت. أطاعني دون أن يهمس بكلمة واحدة، وكان من الجلّي أنه كان خائفاً جداً. طلبت منه أن يرشدني إلى الرقم (166)., ثم صعدنا ثلاثة أو أربعة طوابق بهدوء، هدوء أشبه برتل من القطط، وعندما وصلنا إلى أبعد نقطة في ذلك البهو الطويل كنا قد وصلنا إلى باب كانت وراء عارضة زجاجية، بحيث كان بإمكاننا أن نتبيّن بداخله توهجاً لضوء خفيف. تحسّس المالك يدي وهمس لي بأن تلك هي الغرفة الرقم (166). حاولت فتح الباب، لكنه كان مقفلاً من الداخل. همست لأحد أضخم الجنود، وكنا قد وضعنا أكتافنا العريضة على الباب، وبذلك استطعنا بدفعة واحدة أن نخلعه من مفصليه بدفعة واحدة.
وكنت بنظرة سريعة على السرير قد لمحت شكلاً لشخص ما، وشاهدت رأسه يتحرك بسرعة نحو المصباح ثم انطفأ الضوء، وبذلك كنا قد أصبحنا في ظلام دامس. ثم كنت بوثبة كبيرة قد أصبحت على حافة السرير., ضربت الشخص الذي كان فيه بركبتي., قاوم السجين بضراوة لكنني كنت قد قبضت على صدره بيدي اليسرى، وكانت تلك مساعدة لركبتّي في الإمساك به ثم سحبت مسدسي على الفور، لقمته وألصقت ماسورته الباردة بخده تحذيراً له. قلت:
"والآن فليشعل أحدكم المصباح، ها قد قبضت عليه حيّاً."
تم المطلوب.
ولكن عندما لمع لهب المصباح ونظرت إلى وجه الأسير أدركت بأنه كان امرأة شابة!
وبذلك كنت قد تركتها على الفور تفلت من قبضتي ونهضت من على السرير وأنا أشعر بالجبن والخجل والارتباك. حدّق الجميع بدهشة في الشخص الذي كان بجانبي، وكانوا قد فقدوا تقريباً كل إبخنوع:دراك...وكانت تلك مفاجأة مدهشة وساحقة!.. كانت المرأة الشابة قد غطّت وجهها بالملاءات وبدأت تبكي، ثم قال لي المالك بخنوع:
- هل كانت ابنتي تتصرف بأسلوب غيرسويّ ؟
- ابنتك ؟ أهي ابنتك ؟
- نعم، هي ابنتي! عادت اليوم فقط من سيسيناتا، كانت مريضة قليلاً.
- ادحض ذلك!... كان ذلك الفتى قد كذب علينا مرة أخرى فلم تكن تلك هي الغرفة ذات الرقم الحقيقي (166) وليس هذا (ب، ب)!
قلت :
- ويكلو. سوف تعثر على الرقم (166) الصحيح أو... ولكن أين الفتى؟؟
كان ويكلو قد خرج بسرعة المدفع ! والأكثر من ذلك هو أننا كنا قد فقدنا كل أثر له. كانت تلك بالطبع ورطة لعينة. لعنتُ بلاهتي لأنني لم أكن قد قيّدته بيد أحد رجالي، ولكن لم تكن هناك أية فائدة من الاهتمام بذلك الأمر في ذلك الوقت. لكن السؤال كان لايزال مع ذلك:
لابد وأن تلك الفتاة هي (ب، ب ) فما الذي كان علي أن أقوم به في مثل هذه الظروف؟ لم أصدق ذلك! ولكن وبالتأكيد لم يكن هناك من بإمكانه أن يُجيبني على ذلك التساؤل. وبذلك وضعت رجالي في غرفة فارغة أمام بهو الغرفة (166) وطلبت منهم إلقاء القبض على أي شخص وعلى كل شخص قد يقترب من غرفة الفتاة، كما طلبت منهم أيضاً أن يحتجزوا المالك معهم تحت المراقبة الشديدة إلى أن تصدر عني أوامر أخرى. ثم أسرعت بالعودة إلى الحصن لكي أتأكّد من أن الأمور هناك لاتزال تسير بشكل جيّد.
نعم، كان كل شيء على ما يرام، كما ظلّ كل شيء على ما يرام. مكثت هناك طوال الليل لكي أتأكد من ذلك ولم يحدث شيء... كنت أشعر بسرور لا يوصف وأنا أنتظر بزوغ الفجر، لكي يكون بإمكاني أن أرسل برقية إلى هيئة الأركان بأن النجوم والبيارق لا تزال تلمع فوق حصن ترومبل.
كان قد انقشع عن قلبي ضغط كبير، ولم أكن مع ذلك أشعر بالراحة تماماً، فقد كان علينا التزام الحذر وبذل كل جهد لأن القضية كانت أكبر من ذلك. ثم قمت باستدعاء سجنائي الواحد تلو الآخر وأنهكتهم بالاستجواب محاولاً جعلهم يعترفون لي إلا أنني كنت قد أخفقت في ذلك. كان كل ما فعلونه هو أنهم كانوا يَصرّون بأسنانهم ويَشدّون شعورهم دون أن يكشفوا لي عن أي أمر.
وكانت الأنباء عن ذلك الفتى المفقود قد وردتني قرب الظهيرة. فقد شوهد على بعد ثمانية أميال متوجّهاً نحو الشرق وسيراً على الأقدام. وبذلك كنت في الساعة السادسة صباحاً قد أرسلت أحد الفرسان مع رجل تحرّي لكي يتتبع أثر ويكلو على الفور. وكانوا قد شاهدوه على بعد عشرين ميلاً...كان يسحب نفسه بصعوبة عبر حقل موحل ثم تسلق سياجاً ودخل عبره إلى شقة قديمة واسعة على طرف القرية. امتطى الفرسان ركوبتهم وتوجهوا عبر الغابات., انعطفوا عن الطريق واقتربوا من المنزل من الجهة المعاكسة، ثم ترجّلوا وانطلقوا بسرعة نحو المطبخ.
لم يكن هناك أحد. تسللوا إلى الغرفة المجاورة التي لم يكن يشغلها أحد. كان باب تلك الغرفة الذي يؤدي إلى الغرفة المواجهة أو إلى غرفة الجلوس مفتوحاً. وعندما كانوا على وشك الولوج إلى داخلها سمعوا صوتاً خافتاً. كان هناك من يُصلي! وبذلك توقفوا احتراماً للموقف. ثم مدّ الملازم رأسه إلى الداخل، وبذلك شاهد رجلاً وامرأة مُسنين راكعين في زاوية من الغرفة. كان الرجل العجوز يُصلي, وعندما كان على وشك الانتهاء من صلاته، فتح ويكلو الباب الأمامي وولج إلى الداخل، حينئذ وثب الاثنان وغمراه بقبلاتهما وهما يهتفان:
- ولدنا! حبيبنا! شكراً لله! ها قد عثرنا على الولد الضائع! عاد الولد الذي كان ميتاً إلى الحياة من جديد !...
- حسنا!.. سيدي، والآن ما الذي سيتوارد إلى ذهنك بعد كل ما سمعته؟ كان ذلك العفريت الصغير ولدهم بالفعل وكان قد نشأ في ذلك المكان، ولم يكن طوال حياته قبل الخمسة عشر يوماً التي تسكع خلالها في المنطقة , قد ابتعد عن ذلك المكان حتى لمسافة الخمسة أميال، وكان ما فعله هو أنه خدعني بتلك الرواية العاطفية التي تُثير الشفقة...
- هذا صحيح وهذه القصّة حقيقية كحقيقة الكتب المقدسة. نعم كان ذلك الرجل والده وكانت تلك المرأة العجوز والدته.
دعني الآن أدلي بكلمة أو كلمتين أشرح بها الموضوع المتعلق بذلك الفتى وبتلك المسرحية التي ابتدعها.
تبيّن لنا بأن ويكلو كان من النوع المُحب والتوّاق جداً إلى قراءة الروايات الغامضة وإلى قراءة قصص الإثارة. وبأنه كان يهتم بالروايات البوليسية الغامضة وبالبطولات المُنمقة. ثم كان أن قرأ الأنباء التي كانت قد نشرتها الصحف عن التحركات التي يقوم بها الجواسيس والمتمردون خِلسة، وعن أهدافهم الرهيبة المفزعة، وعن اثنين أو ثلاثة من انجازاتهم المروعة إلى أن اهتاجت مُخيلته حول كل ذلك.
وكان من أحد الأصدقاء الملازمين له منذ عدة شهور شاب من أبناء شمال الولايات المتحدة. كان لذلك الشاب مُخيلة مثيرة كما أنه يتمتع بلسان طليق، وكان قد عمل لعدة سنوات ككاتب وكضابط حسابات في بعض السفن التي تُبحر باستمرار بين نيوأورليانز وبعض المناطق التي تبعد مسافة مائتين أو ثلاثمائة ألف ميل عن الميسيسيبي، وبذلك كانت لديه إمكانية وسهولة في الحصول على تلك الأسماء وعلى جميع تلك التفاصيل الأخرى عن المنطقة، لأنه كان قد أمضى شهرين أو ثلاثة أشهر فيها قبل الحرب. وأنا أعلم تماماً بأنه كان من السهل أن يحصل منه ذلك الفتى الذي كان قد ولد في لوازيانا على كل تلك المعلومات التي أعلمني بها ، ولابد وأنه كان قد حصل عليها منه بسرعة وخلال خمس عشرة دقيقة فقط.
أتعلم ما هو السبب الذي جعله يُفضل أن يموت على أن يشرح بعض ما كان في تلك الأحجية المتعلقة بخيانته؟ كان هذا ببساطة لأنه لم يكن بإمكانه أن يشرحها لعدم وجود أي معنى محدّد لها، ولأنها كانت قد انطلقت من مخيلته بشكل عفوي مفاجئ دون تدبّر أو توقّع، لذا لم يكن بإمكانه أن يُلفق تفسيراً لها. فعلى سبيل المثال: لم يكن بإمكانه أن يُفسّر ما كان قد أخفاه في تلك الرسالة المكتوبة بالحبر السرّي لسبب حقيقي هو عدم وجود ما هو مكتوب في تلك الرسالة. ولأنها كانت عبارة عن ورقة بيضاء فقط . كما لم يكن قد وضع أي شيء في البندقية، ولم يكن ينوي ذلك لأن جميع رسائله كانت قد كُتبت لأشخاص خياليين!.
وعندما كان يقوم بإخفاء إحدى الرسائل في الإصطبل، كان في اليوم التالي يزيل دوماً ما كان قد وضعه فيه في اليوم السابق. كما لم يكن لديه أي علم بذلك السلك المعقود، الذي كان قد رآه ربما لأول مرّة عندما كنت قد عرضته عليه. إلا أنني عندما أعلمته من أين أتى، قام على الفور، بموجب خياله الأدبي قد تظاهر بأنه الشخص الذي كان قد قام بذلك. وكان بما قام به قد حقق ما كان يرغب به من التأثير علينا. كما أنه كان قد لفّق اسم "غاليورلد".، كما لم يكن هناك أي شارع باسم "بوند" لأن ذلك الشارع كان قد ألغي منذ ثلاثة أشهر. كما كان قد لفّق اسم الكولونيل وجميع تلك القصص المتعلقة بهؤلاء البؤساء الذين قمت بالقبض عليهم والذين كنت قد قابلتهم به. ولفق( ب، ب) والرقم (166)الخ..
وبإمكاننا أيضاً أن نقول بأنه لم يكن يعلم بأن هناك مثل ذلك الرقم في فندق "إيغل" إلى أن أصبح هناك . كان ذلك الفتى على استعداد لأن يلفق أي شيء، وكلما رغب بذلك، وحتى لو أنك كنت قد أشرت إلى جواسيس من الخارج، لكان سيقوم بسرعة بوصفهم على شاكلة أولائك الغرباء الذين شاهدهم في الفندق والذين كان قد علم بأسمائهم بالصدفة.
كان ويكلو أثناء تلك الأيام العصيبة يعيش في عالم كبير غامض، وأعتقد بأن ما حدث كان بمثابة العالم الحقيقي بالنسبة إليه.
كان بالطبع قد تسبب لنا بما يكفي من الاضطراب وبإذلال لا حدود له. فكما ترى، كنا بسببه قد أوقفنا وقمنا باحتجاز خمسة عشر إلى عشرين رجلاً في الحصن تحت حراسة الجنود. وبما أن العديد ممن تم القبض عليهم كانوا من المجندين، فلم يكن عليّ أن أعتذر إليهم. لكن الباقون كانوا من مواطني الدرجة الأولى من مختلف مناطق الدولة. وبذلك لم يكن هناك ما يكفي مما قد يُرضيهم من الاعتذارات وكانوا قد ثاروا وغضبوا وخلقوا لنا إشكالات لا تنتهي! أما بالنسبة للسيدتين فكانت إحداهما زوجة لأحد أعضاء مجلس النواب في أوهايو، وكانت الثانية شقيقة أحد أساقفة المنطقة الشرقية. وبذلك كان الازدراء والغضب والدموع التي زرفتاها أمامي تذكاراً كان عليّ على الأرجح أن أظل أذكره لفترة لا بأس بها وسوف أفعل ذلك. وأما بالنسبة لذلك الرجل العجوز الأعرج الذي كان يرتدي النظارات، فهو مدير مدرسة في فيلادلفيا كان قد جاء لكي يشارك في تشييع ابن شقيقه، ولم يكن قد سبق له بالطبع معرفة ويكلو. لكن ويكلو كان قد وقف أمامي ووصفه بالشخص المزوّر، وبتاجر الزنوج، وبسارق الخيول، وبعامل مطافئ في جماعة من أكثر الجماعات وَضاعة ورداءة سمعة في "غالفيستون ". وكان ذلك بالذات هو الأمر الذي لم يكن بإمكان ذلك الرجل النبيل أن يتقبّله على الإطلاق.
أما بالنسبة إلى هيئة الأركان وإلى وزارة الحربية!.. يا إلهي! دعنا نُسدل الستار على هذا الجزء من الموضوع!..
ملاحظة: كنت قد عرضت تلك الرسالة على الرائد وكان ما قاله لي هو التالي:
- كان السبب في التغرير بك وفي وقوعك بتلك الأخطاء البسيطة عدم معرفتك بالشؤون العسكرية. ومع ذلك فهذه من الأخطاء الرائعة. دعها تمرّ. فسوف يضحك رجال الجيش لدى سماعها، ولن يكتشفوا الباقي فلديك العناصر الأساسية للقصة الحقيقية.
وها قد رويت لك هذه القصة كما حدثت تماماً.