1

 

- أ كذبت؟

- وأنت تعترفين بذلك ـ أنت الآن تعترفين بذلك ـ كنت قد كذبت!.

 

 

2

 

كانت تلك العائلة مؤلفة من أربعة أشخاص: مارغريت ليستر، وهي أرملة في السادسة والثلاثين، وابنتها هيلين وهي في السادسة عشر، ومن خالتيّ هيلين  التوأم غير المتزوجتين حنا وإستر غراي، وهما في سن السابعة والستين.

كانت النسوة الثلاث تُمضين أوقاتهن طوال الليل والنهار، هنّ نائمات وهنّ مستيقظات، بالتغزل بتلك الفتاة الشابة. وبالنظر إلى ما تعكسه روحها الطيبة على مرآة وجهها، وبإنعاش قلوبهن برؤية تفتح نضارتها وجمالها، والاستماع إلى موسيقى صوتها. وكنّ تعترفن بكل امتنان بقدر غنى وجمال العالم بوجودها فيه، وترتعدن خوفاً من مجرد التفكير بمقدار ما قد يكون العالم مقفراً لو غادره ذلك الضياء الذي تغمر به منزلهن.

الخالتان بفطرتهما وفي أعماقهما من النوع المُحب والطيب جداً، لكن تصرفهما بما يتعلق بموضوع الأخلاق كان متزمّتاً ومتشدّداً،  مما جعل مظهرهما الخارجي يبدو صارماً أيضاً، هذا إن لم نقل بأنه كان يبدو قاسياً. كان تأثيرهما شديد الفعالية في المنزل., وإلى الحدّ الذي جعل كل من الأم والابنة  تتكيفان بمتطلباتهما الأخلاقية والدينية، بكل سرور وسعادة ورضى ودون نقاش، وبحيث أصبح التزامهما بذلك طبيعة ثانية فيهما. لذا لم تكن في تلك الجنة الهادئة أية تصادمات أو توترات أو انتقادات أو مآسي.

لم يكن في حياتهن أي مكان للأكاذيب، كما لم يكن هناك حتى من قد يفكر بالكذب، كان الكلام في ذلك المنزل يقتصر على الحقيقة المُطلقة، الحقيقة ذات الحدّ الحديدي، الحقيقة التي لا يوجد فيه أي تسامح، الحقيقة التي لايوجد فيه أي تساهل، الحقيقة التي لا يوجد فيه أي حلّ وسط  مهما كانت النتائج التي قد تنجم عن ذلك.

لكن حبيبة المنزل كانت في آخر الأمر، وتحت ضغط الظروف، قد لطخت شفتيها ذات يوم بكذبة ـ ثم اعترفت بذلك، اعترفت بذلك وهي تزرف الدموع وتلوم نفسها بكل قسوة.

وليس هناك من كلمات قد ُتصوّر ما كانت فيه الخالتان من هلع. كان الأمر بالنسبة إليهما كما لو أن السماء قد تكوّمت وانهارت وكما لو أن ارتطام قوي قد حطم الأرض وحوّلها إلى خراب. جلستا جنباً إلى جنب شاحبتين صارمتين تُحدقان بصمت بتلك المذنبة التي كانت راكعة أمامهما، تدفن وجهها في حجر الواحدة ثم في حجر الأخرى، وهي تتأوه وتتشنج وتطلب التعاطف والغفران., ولكن دون أن تلقى منهما أي تجاوب، ثم تُقبل يدّ الواحدة وتُقبّل يدّ الأخرى بكل تذلّل،  لكي تجدها تسحبها من بين شفتيها وكأنها قد تتلوث بتلك الشفتين المُلطختين.

وكانت الخالة استر خلال ذلك قد قالت لها مرتين على التوالي بكل برود وبالكثير من الاستغراب:

-  أكذبت ؟

 

ثم أتبعت الخالة حنا ذلك مرّة بعد مرّة همهمة بكلام يُعبّر عن الدهشة:

- وأنت تعترفين بذلك، أنت تعترفين الآن بذلك، لقد كذبت!

كان ذلك كل ما بإمكانها أن تقولانه ذلك لأن الموقف كان جديداً عليهما.، لم يسبق أن سمعتا به، وهو أم غير قابل للتصديق , أمر لم يكن بإمكانهما أن تتفهمانه،  ولم يكن بإمكانهما أيضاً أن تجدا الأسلوب المناسب لمعالجته، مما جعل الحديث بينهما شبه مشلول.

ثم قررتا أخيراً بأن عليهما اصطحاب الطفلة الآثمة إلى والدتها المريضة التي يجب أن تأخذ علماً بما جرى.

توسلت إليهما هيلين وتضرّعت ورجتهما تجنيبها ذلك الخزي الإضافي، وتجنيب والدتها ما سوف يتسبب به ذلك من الأسى والحزن، ولكن دون جدوى. الواجب يتطلّب هذه التضحية., وللواجب أولويته على جميع الأمور الأخرى., وليس هناك ما يمكن أن  يُحلّ من أداء الواجب., ومن المستحيل المساومة على الواجب.

ظلت هيلين تتوسل، والت بأن الذنب كان ذنبها،  وبأنه لا يدّ  لوالدتها في ذلك ـ  ولِم سيكون على والدتها أن تُعاني بسبب ما ارتكبته هي؟

لكن الخالتين كانتا قاسيتين في استقامتهما، وقالتا بأن القانون يقول بأن الأخطاء تنتقل من الأهل إلى الأولاد وبالعكس، وبناء على ذلك فمن العدل أن تكون للأم حصتها العادلة من الحزن والألم والخزي التي هي من عواقب الإثم. وبذلك توجهت الثلاث نحو غرفة المريضة.

 

وفي ذلك الوقت كان الطبيب قد بدأ يقترب من المنزل، لكنه على أية حال، كان لا زال على مسافة بعيدة نسبياً عنه. هو طبيب جيّد ورجل صالح طيب القلب، إلا أن المرء قد يحتاج لمدة عام كامل للتغلب على كراهيته له، وإلى عامين لكي يتمكن من احتماله،  ولأربعة أو خمسة أعوام لكي يتعلّم كيف يحبه. وتلك هي دون شك عملية شاقّة لكنها تستحق المحاولة.

 

كان ذلك الطبيب من ذوي القامات الضخمة, له رأس أسد ووجه أسد، وله صوت خشن ونظرة تتغير وفق المزاج الذي يكون فيه، فهي تارة قد تشبه نظرة قرصان وتارة أخرى قد تشبه نظرة امرأة. لم يكن يعرف شيئاً عن آداب التعامل، ولم يكن يأبه لذلك على الإطلاق، سواء أكان ذلك في أسلوب حديثه أو في سلوكه أوفي مِشيته أوفي تصرفه الذي يُناقض تماماً  السلوك التقليدي المُتعارف عليه.  كان صريحاً إلى أبعد الحدود، وله آراءه الخاصة حول جميع الأمور.، وهو على استعداد دائم لأن يُصرّح بتلك الآراء دون أن يأبه على الإطلاق فيما إذا كان من يستمعون إليه سيتقبّلون تلك الآراء أم لا.

 

كان يُحب من يُحبهم ويُعبّر عن ذلك،  أما من لا يحبهم  فهو يكرههم ويصرّح بذلك على رؤوس الأشهاد. كان ذلك الطبيب أيام شبابه بحاراً عصفت به جميع رياح البحار المالحة، وكان قوي الإيمان، يعتقد بأنه الشخص الأفضل على الأرض، وبأنه الشخص الوحيد الذي كانت مسيحيته  صادقة، صائبة، ومنطقية تماماً، لا يوجد فيها ماهو بالٍ., لذا كان الأشخاص الذين لديهم بعض المصالح معه، وكذلك الأشخاص الذين  لديهم أية أسباب قد تجعلهم يرغبون بأن يكونوا معه في الجانب الجيّد، يُلقّبونه  " بالمسيحي" وهي عبارة المديح اللطيفة  التي كان لها وقع  الموسيقى على أذنيه، والتي كانت تسميته بها  من الأمور الفاتنة والحيوية بالنسبة إليه مما يجعله قد يشاهدها عندما تخرج من فم الشخص حتى لو كان ذلك في الظلام...

كان الكثيرون ممن يحبونه يخالفون ضمائرهم ويُلقبونه عادة وبكل جرأة بذلك اللقب الكبير، وكان من دواعي سرورهم أن يفعلوا كل ما من شأنه أن يُرضيه في هذا العالم.، بينما قامت الجماعة الكبيرة من أعدائه ومن حسّاده قد موّهت تلك العبارة بخبث ووسعتها إلى عبارة  "المسيحي الأوحد".  وكان اللقب الأخير من بين هذين اللقبين، هو اللقب الأكثر تداولاً وانتشاراً  ذلك لأن غالبية من حوله كانوا من الأعداء...

كان ذلك الطبيب صادقاً بكل بما يؤمن به، وكان على استعداد لأن يكافح لأجله كلما سنحت له الفرصة لذلك.، ولو تباعدت الفترات الزمنية بين تلك الفرص.، لكان ذلك الطبيب سيختلق تلك الفرص بنفسه.. كان حيّ الضمير ولكن بشكل مُتعنّت بحيث يتوقف ذلك على آرائه الشخصية المُستقلة فقط ., وبذلك كان يقوم بكل ما يعتقد بأن من واجبه القيام به، سواء أكان ذلك متوافقاً مع أحكام علماء الأخلاق، أو حتى لو كان في ذلك ما قد يناقض آراءهم.

كان عندما عمل في الملاحة في فترة شبابه ، يتحدث بلغة البحارة، لكنه بعد أن اهتدى كان قد التزم بقاعدة واحدة وتقيّد بها وهي بألا يستخدم إطلاقا تلك اللغة. كما كان يشرب بإفراط، لكنه بعد أن اهتدى أصبح الشخص الذي يمتنع بكل ثبات عن جميع المُسكّرات لكي يصبح مثالاً يُقتدى به لجميع الشبان. لذا فمن الطبيعي أن يكون مثل ذلك الرجل من النوع الانفعالي، المندفع والعاطفي، وهذا ما كان عليه.....

لم تكن لديه موهبة إخفاء مشاعره. أو أنه لم يكن  بالأحرى يبذل أي جهد لإخفاء مشاعره أو للتعبير عنها حتى لو كانت لديه بعض المشاعر، وإنما كان كل ما يشعر به يظهر بوضوح على سِمات وجهه. لذا فلو دخل ذلك الطبيب إلى إحدى الغرف، فإما أن ترتفع فيها المظلات الواقية من المطر، أوأن ترتفع فيها المظلات الواقية من الشمس وذلك بما يتوافق مع انعكاس مشاعره في تلك اللحظة. ولو أشرق ذلك الضوء المريح في عينيه فسوف يعني ذلك الرضى والتأييد , وسوف يوحي بمنح البركة، وأما عندما كانت تعلو جبينه تقطيبه فهذا ما سوف يجعل الحرارة تنخفض على الفور وبمعدل العشر درجات. كان محبوباً جداً في عائلته وبين أصدقائه، لكنه مع ذلك قد يكون في بعض الأحيان من الأشخاص المُفزعين.

كان ذلك الطبيب يُكن عاطفة عميقة لعائلة ليستر, كما كان العديد من أفراد تلك العائلة يُبادلونه ذات الشعور، رغم أنهم كانوا يأسفون لأسلوب تفكيره بالنسبة للأمور الدينية.,وكان من جهته يهزأ وبكل صراحة من أسلوب تفكيرهم، ولكن لم يكن كل ذلك من شأنه التأثير على ما يتبادله الطرفان من ذات مشاعر المحبة.

كان الطبيب قد أصبح بالقرب المنزل في الوقت الذي كانت فيه الخالتان والمذنبة تتوجهان إلى غرفة المريضة.

 

 

3

 

وقفت الثلاث اللاتي ورد ذكرهن بجانب سرير المريضة. كانت الآثمة تبكي برفق، بينما كانت علامات الصرامة تبدو على الخالتين. وعندما استدارت الأم البائسة برأسها على الوسادة وشاهدت طفلتها, اتقدت عيناها المتعبتان بتعاطف ومحبة الأمومة وفتحت لها على الفور حِمى ومَلاذ ذراعيها.

لكن حنا مدت يدها وانتزعت الفتاة من بين ذراعي والدتها وقالت: - انتظري.

ثم قالت الخالة الأخرى على نحو مؤثر:

- هيلين، اروي لوالدتك كل شيء. طهري روحك. اعترفي بكل شيء ولا تُغفلي أي أمر.

وقفت الفتاة البائسة مشدوهة أمام قُضاتها  وسردت لوالدتها قصتها الحزينة  إلى نهايتها  ثم بدأت تناشدها بحرارة :

- آه ! أمي أليس بإمكانك أن تسامحيني؟ ألن تسامحينني؟ ـ أنا بائسة للغاية !

قالت الأم: - حبيبتي، أتسألين فيما إذا كنت أسامحك؟   تعالي إلى ذراعي! ضعي رأسك هنا على صدري  واهدئي حتى ولو كنت قد رويت آلاف الأكاذيب !.

وفي تلك اللحظة، سُمع صوت من مدخل الغرفة ـ صوت تحذيري ـ صوت تنظيف حنجرة. رفعت الخالتان نظريهما وعندما شاهدتا ذلك الطبيب ارتجفتا داخل ملابسهما (تعبير مجازي) ـ  كان الطبيب واقفاً هناك  تكسو وجهه غيمة غضب، بينما ظلّت الأم والابنة اللتان لم تشعرا بعد بوجود الطبيب، متعانقتين قلباً تجاه قلب، مستغرقتين باطمئنان لا حدود له وغافلتين عن جميع الأشياء الأخرى.

وقف الطبيب للحظات مُحملقاً بكآبة بالمشهد الذي كان يراه أمامه, وكأنه يدرس الموقف ويحلّله ويفتش عن أسباب حدوثه. ثم رفع يده وأشار إلى الخالتين. أتت إليه الخالتان وهما ترتجفان ووقفتا أمامه بكل استكانة, تنتظران. انحنى الطبيب نحوهما وهمس:

- ألم أكن قد أعلمتكما بأنه يجب تجنيب هذه المريضة جميع الانفعالات ؟ ما الذي قمتما به الآن بحق الجحيم ؟ أخليا المكان على الفور!.

أطاعتاه. وعندما ظهر الطبيب في البهو بعد نصف ساعة، كان هادئاً مبتهجاً ويبدو عليه الحبور. كان يقود هيلين وقد أحاط خصرها بذراعه وهو يُربت عليها ويتحدث معها  بلطف ويُمازحها., كما كانت هيلين أيضاً  قد عادت من جديد إلى إشراقها وسعادتها ثم قال:

- وداعاً الآن حبيبتي، اذهبي إلى غرفتك، ابتعدي عن والدتك وتصرّفي بشكل لائق. ولكن انتظري ـ أخرجي لسانك. هوذا، سوف تسير الأمور جيّداً فأنت سليمة كالبندقة.

ثم رَبت على خدها وأضاف:

 

- اذهبي الآن وبسرعة، أريد التحدث مع هاتين الخالتين.

 

بعد أن اختفت هيلين عن ناظريه.، اكفهّر وجه الطبيب من جديد وعلى الفور ثم جلس وقال:

- لقد تسببتما بتصرفكما الجنوني ذاك بضرر كبير. ولكن قد تكونا قد تسببتما أيضاً بما هو جيّد. نعم، ربما تسببتما بشيء جيّد ومفيد . هذا هو الأمر: تلك المرأة مريضة بالحمى التيفية  (التيفوس)، على ما أعتقد وقد تسببتما بتصرفكما في الكشف الآن عن ذلك، يُعتبر هذا الأمر بحدّ ذاته من المساعدة، فلم يكن بإمكاني في السابق أن أحدّد ماهية المرض.

وثبت السيدتان معاً بردّة فعل عفوية وهما ترتجفان لشدة الخوف.

- اجلسا، ما الذي تنويان القيام به؟

- أتسألنا عما سنقوم به ؟ علينا أن نًسرع إليها، وعلينا أن...أن...

- لن تقوما بشيء من هذا القبيل، فقد تسببتما خلال يوم واحد بما يكفي من ضرر. هل تريدان تبديد كل ما لديكما من رأسمال الجرائم والجنون دفعة واحدة ؟ اجلسا. اعلما بأنني عملت الآن على أن تنام فهي تحتاج إلى ذلك. ولو تسببتما بإزعاجها دون توجيهات مني، فسوف أسحق جمجمتيكما (تعبير مجازي) هذا لو كان لديكما فيها بعض العناصر.

كانت الخالتان أمام ذلك القسر قد جلستا بإذعان وهما في حالة من اليأس والسخط، لكنهما أطاعتاه. تابع الطبيب كلامه: - والآن، أريد منكما أن توضحا لي كِنهَ القضية. كانت هيلين ووالدتها قد رغبتا بشرحها لي، كما لو أن ليس لديهما ما يكفيهما من توتر وانفعال . سبق وأعطيتكما تعليماتي، فكيف تجرأتما على الذهاب إلى هناك وعلى إحداث ذلك الشَغب؟

نظرت إستر إلى حنا  لكي تستشهد بها، وقابلتها حنا بنظرة تضرّع، فلم تكن إحداهما ترغب في الرقص على أنغام الفرقة الموسيقية لمزاجه غير الملائم (تعبير مجازي)، ثم بادر الطبيب إلى مساعدتهما بالقول: - ابدئي إستر !

 

قالت إستر بحياء وهي تلعب بأصابعها بشرا شيب شالها :

- لم نكن لنخالف التعليمات لسبب عادي، لكن الأمر كان حيوياً. وكان ما قمنا به من الواجب. لا خيار للمرء أمام الواجب. على المرء أن يضع جميع الاعتبارات الأقلّ أهمية جانباً وأن يؤدي الواجب.لذا كنا قد  اضطررنا إلى استدعاء هيلين واستجوابها أمام والدتها لأنها كذبت.

حَملق الطبيب  بتلك المرأة للحظة. كان يبدو كما لو أنه يحاول استيعاب المعنى الكامل لتلك العبارة غير المفهومة، ثم انفجر بالقول:

- أكذبت؟ هل فعلت ذلك؟ فليسامحني الله! فأنا أقول مليون كذبة في اليوم الواحد! وهذا ما يفعله كل طبيب. وهذا ما يفعله الجميع ـ بما فيهم أنتما ـ أكان تصرفكما لمثل ذلك الأمر؟ أهذا هو الموضوع الذي سمحتما لنفسيكما لأجله بالمجازفة بعصيان أوامري وبتعريض حياة تلك المرأة للخطر؟... إسترغراي! انظري إلي، هذه هي الحماقة بعينها، لايمكن أن تكون تلك الفتاة قد كذبت بقصد الإساءة لأحد. هذا أمر مستحيل، مستحيل تماماً، وأنتما تعرفان ذلك ، كل منكما تعرف ذلك جيداً.

بادرت حنا إلى نجدة شقيقتها:

- لم تقصد إستر بأنها تلك الكذبة  كانت من ذلك النوع من الكذب، وهي لم تكن كذلك بالفعل. لكنها كانت كذبة.

- جيّد، أقسم بشرفي، بأنه لم يسبق لي أن سمعت بمثل هذا الهراء!  أليس لديكما ما يكفي من منطق للتمييز بين الكذبة التي تُساعد والكذبة التي تؤذي؟

قالت حنا وكانت قد زمّت شفتيها بأسلوب المرأة الحكيمة:

- جميع الأكاذيب خطيئة. جميع الأكاذيب محظورة.

تململ ذلك "المسيحي الأوحد" في كرسيه بضجر. كان يرغب بالتحامل على تلك العبارة، لكنه لم يتمكن من معرفة لا كيف ولا من أين عليه أن يبدأ بذلك على وجه التحديد، ثم جازف أخيراً بالقول:

- إستر، ألن تكذبي لأجل حماية شخص سوف يتعرض للأذى أو للعار؟

- لا

- ولا حتى لأجل أحد الأصدقاء؟

- لا

- ولا حتى لأجل أعز الأصدقاء؟

- لا، لا، لن أقوم بذلك.

 

حاول الطبيب بصمت ولفترة قصيرة أن يتأقلم مع الموقف ثم سأل:

- ولا حتى لإنقاذه من ألم مرير ومن شقاء وحزن؟

- لا، ولا حتى لإنقاذ حياته؟

 

ثم تلا ذلك فترة توفق قصيرة أخرى قال الطبيب بعدها:

- ولا حتى لإنقاذ روحه؟

كانت هناك فترة صمت دام لفترة قياسية. أجابت بعدها إستر بصوت خافت ولكن بتصميم:

- ولا حتى لإنقاذ روحه.

لم يتكلم أحد لفترة. ثم قال الطبيب :

- وهل الأمر كذلك بالنسبة إليك حنا ؟

أجابت:

- نعم

- أريد أن أسأ لكما معاً لماذا؟

- لأن التفوّه بمثل تلك الكذبة، ولأن أية كذبة خطيئة  بإمكانها أن تتسبب خسارتنا لأنفسنا، وسوف يكون الأمر كذلك بالفعل لو متنا قبل أن يكون لدينا ما يكفي من وقت للتوبة.

- غريب... غريب... هذه معتقدات بالية.

 

قال الطبيب بفظاظة:

- ألا تستحق مثل تلك الروح الإنقاذ؟ ثم نهض ثم توجّه نحو الباب وهو يتعثر ويُتمتم، إلا أنه كان قد استدار أمام عتبة الباب, وتفوّه بكل اندفاع بهذا التحذير:

- أصلحا نفسيكما!.. تخلّيا عن هذا التكريس الدنيء الأناني والوضيع في إنقاذ روحيكما الوضيعتين، وابحثا عن أمر آخر تقومان به قد يكون له بعض الرِفعة !  جازفا بروحيكما، عرّضاهما للخطر لأجل القضايا الإنسانية، ولِم سيكون عليكما أن تهتما لو حدث وخسرتما نفسيكما لأجل ذلك! أصلحا  نفسيكما!..

جلست السيدتان المُسنتان الطيبتان بعد خروجه مشلولتي الحركة، مسحوقتين، مُهانتين، تُطيلان التفكير بمرارة وسخط بذلك الكلام الذي تسبب بجرح في قلبيهما، والذي يعتبر بمثابة الكفر بالله. ثم قالتا بأنه لن يكون بإمكانهما أبداً أن تغفرا لذلك الطبيب تلك الإهانات.

"أن تُصلحا نفسيهما!..."

واستمرتا في ترديد تلك الكلمة بامتعاض " أن يكون عليهما أن تُصلحا نفسيهما بأن تتعلما الكذب!..."

إلا أن التغيير كان قد حدث في نفسيهما مع ذلك وفي الوقت المناسب., وذلك بعد أن أنجزتا الواجب الإنساني الأول للمرء, وهو الواجب الذي يَكمن في تفكير المرء في نفسه إلى أن يكون قد استنفذ الموضوع، بحيث يصبح بالوضع الذي يُتيح له التفكير بالمصالح الثانوية الأخرى، وبالتفكير بالآخرين.

وكان هذا ما أدى إلى تغيير تام وشامل في أسلوب تفكيرهما. وبذلك وجّهتا تفكيرهما من جديد إلى ابنة شقيقتهما، وإلى ذلك المرض المُفزع الذي ابتليت به. نسَيتا على الفور ما كان قد جرح كرامتهما، وتصاعدت في قلبيهما الرغبة الملحّة في مساعدة تلك المتألمة، وفي محاولة تعزيتها بمحبتهما، وفي مد يدّ العون إليها وفي القيام  بكل ما بإمكان أن تُقدمه أيديهما الضعيفة. كانتا على استعداد لأن تُنهكا جسميهما الهرمِين في خدمتها بكل سرور وبكل محبة، فيما لو تم منحهما ذلك الامتياز.

حيث قالت إستر والدموع تسيل على خديها :

- سوف يكون بإمكاننا القيام بذلك، فليس هناك من بين الممرضات من يمكن أن تُقارن بنا. ليس هناك من لديهن الاستعداد  للوقوف بجانب سرير المريضة ولرعايتها بمحبتهّن حتى لو كنّ ستسقطن من شدة التعب وتموتن، ويعلم الله بأننا سوف نفعل ذلك.

قالت حنا وهي تبتسم من خلال الغشاوة التي غطت نظارتها، إشعاراً بالموافقة وبالمصادقة على كلام شقيقتها:

- آمين، هذا الطبيب يعرفنا وهو يعلم بأننا لن نخالفه مرة أخرى، وبذلك لن يستدعي أشخاصاً آخرين، لن يجرؤ على ذلك.

قالت إستر بانفعال وهي تمسح دموعها بسرعة :

- ألن يجرؤ على ذلك ؟ بلى، ذلك الشيطان سيجرؤ على فعل أي شيء! وهناك القوانين!اولة لن تفيده هذه المرّة. وهناك  القوانين!

قالت حنا:

- على الرغم من كل ما قاله وكل ما فعله هو طبيب موهوب وحكيم  وطيّب القلب، ولن يخطر بباله مثل ذلك الأمر. لابد بأن الوقت قد حان لأن تذهب إحدانا إلى الغرفة. ما الذي يستبقيه هناك؟ ولِم لا يأت إلينا ويقول لنا ذلك؟

ثم وصل إلى مسامعهما فجأة صوت اقتراب وقع أقدامه. دخل وجلس وبدأ يتحدث:

- مارغريت امرأة مريضة وهي لاتزال نائمة، لكنها سوف تستيقظ الآن. لذا يجب أن تذهب إحداكما إليها. سوف تسوء حالتها  قبل أن تتحسن وسوف يكون ذلك عن قريب جداً مما سيستوجب اتخاذ الترتيبات للمناوبة في السهر عليها ليلاً ونهاراً. ما هو مقدار ما سيكون بإمكان كل منكما أن تأخذه على عاتقها؟

انفجرتا معاً وعلى الفور بكلمة " كل شيء !"

 

لمعت عينا الطبيب  وقال بحماس:

- يبدو عليكما الصدق والإقدام. وبأنكما ستقدمان لها كل ما سيكون بإمكانكما تقديمه من رعاية طبية. وأنا أعلم بأن بإمكانكما القيام بذلك، وبعدم وجود من بإمكانه أن يجاريكما في هذا الأمر في ذلك المكتب الرائع في البلدة (سخرية مُبطنة). ولكن لن يكون بإمكانكما القيام بكل شيء، لذا سوف يكون من الإجرام أن نترككما تقومان بمفردكما بكل شيء.

كان ذلك بالنسبة إليهما, بما أنه جاء من ذلك المصدر، مديحاً رفيعاً, مديحاً رائعاً من شأنه أن يمسح تقريباً كل ما كان في قلب التوأمين العجوزين من استياء.  ثم استطرد الطبيب قائلاً:

- سوف تقوم خادمتكم تيلي ونانسي العجوز التي تعمل لدي بباقي الأمور. ـ كمارضات الجيّدات، قلوب بيضاء في بشرة سوداء،هنّ يقظات مُحبات وعطوفات ـ ممرضات مثاليات تماماً! ـ  كما أنهن كاذبات مؤهلات منذ المهد! أما أنتما فسوف يكون عليكما الاستمرار برعاية هيلين قليلاً.، هي مريضة وسوف تكون كذلك.

بَدت بعض الدهشة على السيدتين، لكن السذاجة لا تعني سرعة التصديق. لذا قالت له إستر:

- كيف حدث ذلك ؟ لم تمر بعد ساعة واحدة على ما قلته لنا بأنها تبدو سليمة الجسم كالبندقة.

أجاب الطبيب بهدوء:

- كانت تلك كذبة!...

 

استدارت السيدتان إليه بسخط. ثم قالت حنا:

- كيف بإمكانك أن تُدلي بمثل هذا الاعتراف، بهذه الطريقة، وبهذه اللهجة غير المُبالية، وأنت تعلم كيف نشعر حول جميع أشكال ال "......."

- اصمتا! لستما سوى قطتين جاهلتين. أنتما لا تُدركان عما تتحدثان عنه. أنتما مثل باقي حيوانات الخُلد الأخلاقية. أنتما تكذبان من الصباح إلى المساء،  ولكن لأنكما لا تفعلا  ذلك بأفواهكما وإنما بعينيكما الكاذبتين, فأنتما بأكاذيبكما الملتوية وتشكيكما المُضلّل وإيماءتكما الخدّاعة التي هي في غير محلها، تُديران أنفيكما  برضى، وتتظاهران بالورع والعفّة أمام الله وأمام العالم  وبأنكما "المتحدثتان بالحقيقة" وبأن قلبيكما قد يتجمدا إلى درجة الموت لو دخلتهما  كذبة واحدة!  لِم عليكما أن تخدعا نفسيكما بمثل ذلك المفهوم الجنوني؟ بأن الكذبة لن تكون كذبة إن لم يتم التلفّظ بها؟ وما هو الفارق بين الكذب بالعينين والكذب بالفم؟  لايوجد أي فارق بينهما...

لو فكرتما للحظة واحدة لوجدتما بأن الأمر يتم هكذا. فليس هناك من بين البشر من لم يتحدث أثناء حياته بعدد هائل من الأكاذيب. وأنتما ـ في الحقيقة- تقولان فيما بينكما ثلاثين ألف كذبة،  ومع ذلك فأنتما تنفجران هنا برعب زائف منافق لأنني كذبت على تلك الطفلة  كذبة غير آثمة  بقصد فعل الخير، لكي أحميها  من الهواجس ومن مخيلتها التي قد تبدأ بالعمل مما سوف يُلهب دماغها خلال ساعة واحدة إلى درجة الحمّى. فلو كنت قد خنت واجبي بما يكفي لأن أفعل ذلك., فهذا ما سوف أفعله دون شك لو كنت أهتم بإنقاذ روح بمثل تلك الأساليب التي تعتبرانها سيئة.

- تعاليا، دعونا نفكر معاً بعقلانية، دعونا نتمعن في التفاصيل. ما الذي كنتما ستفعلانه لو علمتما بأنني قادم في الوقت الذي كنتما فيه تُثيران ذلك الشغب في غرفة المريضة؟

- حسناً، ماذا؟

- كنتما ستتسللان وتصطحبان معكما هيلين. ألن تفعلا ذلك؟

 

صمتت السيدتان وتابع الطبيب: - وما الذي سيكون هدفكما ونيّتكما من القيام بذلك؟

- حسناً، ماذا؟

- كنتما ستهدفان إلى منعي من الاطلاع على ذنبيكما، كنتما تريدان تضليلي لكي أعتقد بأن سبب توتر مارغريت قد نتج عن سبب آخر لا علم لكما به. وبكلمة واحدة كنتما  قد كذبتما ـ كذبة صامتة.- ولكنها قد تكون مع ذلك كذبة مؤذية.

تلوّن وجه التوأمين لكنهما لم تتكلما.

أنتما لا تتفوّهان فقط بعدد ضخم من الأكاذيب الصامتة، وإنما تكذبان أيضاً بأفواهكما.

- ليس الأمر كذلك.

- الأمر كذلك، ولكن ما تقولانه في مثل تلك الأكاذيب هو من الأكاذيب غير المؤذية وإنما هي من الأكاذيب التي قد تكون أحياناً بهدف فعل الخير أو لإنقاذ روح فأنتما لا تنويان بالطبع وعلى الإطلاق التفوّه بأية كذبة مؤذية. أتعلمان بأن كل ذلك عبارة عن تنازل وبأنه شيء مُسلّم به وبأنه بمثابة الاعتراف؟

- ما الذي تقصده؟

- هذا يدلّ على تنازل غير مقصود منكما دون وعي، بأن الكذب غير المؤذي ليس بجريمة,  وهو اعتراف دائم تقومان به وباستمرار بوجوب التمييز بين نوعي الكذب.

فعلى سبيل المثال، كنتما في الأسبوع الماضي قد رفضتما دعوة العجوز السيدة  فورستر لكي تستقبلا تلك الصديقات البغيضات  "هيجبنز" على العشاء.  فعلتما ذلك بموجب ملاحظة صغيرة عبرّتما بموجبها عن أسفكما لعدم إمكانية مجيئكما. تلك كانت أشبه بكذبة كاملة حتى لو لم يتم التلفظ بها، فلتنكري ذلك الآن إستر بكذبة أخرى!..

أجابت إستر بهزّة من رأسها.

- هذا غير مقبول، أجيبي، هل كانت كذبة أم لم تكن كذبة؟

هرب اللون من خدي المرأتين، لكنهما بعد جهد جهيد اعترفتا بذلك بأن قالتا:

- نعم , كانت تلك كذبة ! "

- جيّد، جيّد، ها قد بدأ التحوّل أو لنقل ها قد بدأ الإصلاح، هناك أمل بالنسبة لكليكما. فأنتما لن تكذبان لإنقاذ نفس أعز أصدقائكما لكنكما ستكذبان دون تردد لإنقاذ نفسيكما من مشقة قولكما أية حقيقة بغيضة " ثم نهض.

قالت إستر ببرود وهي تتكلم عن الاثنتين:

- نعم, كنا قد كذبنا ونحن ندرك ذلك، لكن هذا الأمر لن يحدث ثانية. الكذب خطيئة.، ولن نكذب كذبة أخرى ومن أي نوع كانت من الأكاذيب ومهما كان، حتى لو كانت تلك  كذبة مجاملة، أو كذبة بسبب النزعة إلى الخير، أو كذبة لإنقاذ شخص من الألم أومن حزن قد يبتليه به الله.

- أووه..، كم ستقعان في الخطأ بسرعة ؟ ها أنتما قد وقعتما  الآن بالفعل في الخطأ ذلك لأن ما تفوهتما به الآن بالذات عبارة عن  كذبة أيضاً. وداعاً،  أصلحا نفسيكما ! ولتذهب إحداكما الآن إلى غرفة المريضة.

 

 

 

 

4

 

بعد اثنا عشر يوماً.

كانت الأم والابنة تعيشان في قبضة ذلك المرض الشنيع. ولم يعد هناك بالنسبة لكليتهما سوى القليل جداً من الأمل . كما كانت علامات الإرهاق والشحوب تبدو على الشقيقتين المُسنتين، لكنهما لم تتخليا عن مهامهما. كان قلبيهما ينفطران لكنهما كانتا تعملان بعزيمة وإخلاص ودون توانٍ.

كانت الأم طوال تلك الفترة تتوق إلى رؤية الطفلة، كما كانت الطفلة تتوق إلى رؤية الأم.  لكن كل منهما كانت قد أُعلمت بأن ليس لتلك الرغبات المُلحّة أن تتحقق.  كما أن الأم كانت منذ اليوم الأول الذي أعلمت فيه بأن مرضها هو الحمى التيفية (التيفوس)، قد سألت فيما إذا كانت هناك خطورة من أن تكون العدوى قد انتقلت إلى هيلين في اليوم السابق عندما كانت في غرفتها أثناء زيارة الاعتراف. وكانت إستر قد قالت لها بأن الطبيب قد نفى الفكرة . كان ذلك ما جعلها تشعر حينذاك ببعض الاضطراب لما أقدمت على قوله، رغم أنها كانت الحقيقة، ذلك لأنها  لم تكن في الواقع قد صدّقت ذلك الطبيب.إلا أن ما شعرت به من عذاب الضمير كان قد تضاءل عندما شاهدت فرحة الأم بتلك الأنباء ـ وكانت تلك النتيجة قد جعلتها تخجل من الكذبة التي لفقتها، لكنها لم تكن دون ريب تشعر بما يكفي من خجل قد يجعلها تمتنع عن تكرار ذلك.

كانت المرأة المريضة منذ اللحظة التي علمت بها  بأن على ابنتها أن تبقى بعيدة عنها، قد قالت بأنها سوف تعُزّي نفسها  قدر الإمكان، فهي تفضّل أن تموت على أن يُهدد الموت حياة ابنتها.

إلا أن الحقيقة كانت أن هيلين  كان عليها بعد ظهر ذلك اليوم أن تأوي إلى فراشها مريضة، كما أن حالتها كانت قد ساءت أكثر أثناء الليل.

كانت الأم في صباح اليوم التالي قد سألت عن ابنتها:

- أهي بخير؟

 

حينئذ سَرت برودة في إستر وفتحت شفتيها، لكن الكلمات لم تكن لتخرج منها... وظلت الأم التي كانت مستلقية على فراشها، واهنة، مُستغرقة في أفكارها، تنتظر الإجابة.، ثم شحب وجهها  فجأة واستدارت نحو خالتها وقالت وهي تلهث:

- يا إلهي، ما الأمر أهي مريضة ؟

تصاعد العصيان في القلب المعذب للخالة المسكينة، ثم جاءت الكلمات التالية:

- ل.. لا ـ فلتشعري بالراحة، هي بوضع جيّد.

 

حينئذ قالت الأم المريضة بكل ما كان في قلبها  السعيد من امتنان:

- شكراً لله على هذه الكلمات الغالية!  قبليني خالتي. كم أقدّرك لك ما قلت لي.

وعندما روت إستر تلك الواقعة  إلى شقيقتها حنا كانت قد استقبلتها بنظرة لوم وقالت لها ببرود:

- أختي, هذه كذبة!.

 

ارتجفت شفتا إستر لشدة الإشفاق وكتمت نشيجها وهي تقول:

- آه ! حنا أنا أعلم بأنها خطيئة، لكنني لم أتمكن من منع نفسي من ذلك., فلم يكن بإمكاني أن أحتمل نظرة الخوف والشقاء التي كانت على وجهه تلك المريضة البائسة.

- هذا لا يهم.، كانت كذبة وسوف يحاسبك الله على ذلك.

 

صاحت إستر وهي تعتصر يديها:

- نعم، نعم, أنا أعلم ذلك، أعلم ذلك، ولكن حتى لو كانت كذلك فلم يكن بإمكاني أن أمتنع عنها، كما أنني أعلم بأنني سوف أعيد الكرّة.

- إذن, فلتأخذي مكاني في الصباح بجانب هيلين ، وسوف أقدم إلى والدتها التقرير بنفسي، سوف أقول لها الحقيقة.

أمسكت إستر بيدّ بشقيقتها وأخذت تُناشدها وتتوسل إليها قائلة:

- لا تفعلي هذا حنا، أرجوكِ، لا تفعلي هذا ـ سوف تقتلينها إن فعلت ذلك.

قالت حنا:

- سوف أكون على الأقل قد قلت الحقيقة.

 

كان على حنا في الصباح أن تُقدم تقريراً قاسياً لتلك الأم، وكانت تستعد لتلك المحنة. إلا أنها عندما عادت من مهمتها كانت إستر التي كانت تنتظرها في الردهة شاحبة مرتجفة قد همست لها:

- ياإلهي، كيف تقبّلت تلك الأم البائسة الأمر؟

لكن عينا حنا كانتا تسبحان بالدموع وقالت:

- فليسامحني الله، قلت لها أن الطفلة بخير!

 

حينئذ ضمتها إستر إلى صدرها بامتنان وقالت " فليباركك الله حنا !" ثم أخذت تُغدق عليها عبارات الشكر وتُغرقها بعبارات المديح.

 

وهكذا كانت كل منهما قد أدركت حدود مقدرتها وتقبّلت قَدَرها. استسلمتا بتواضع، وسلّمتا نفسيهما للمتطلبات القاسية لذلك الوضع الإنساني.

كانتا تُكرّران يومياً كذبة الصباح تلك للأم البائسة، ثم تعترفان بذنبيهما أثناء الصلاة، ولكن دون أن تجرؤا على طلب المغفرة لأنهما لا تستحقانها. وإنما كانتا ترجوان الله فقط أن يُحتسب لهما ما كانتا فيه من إدراك واعتراف بذنبيهما، كما لم تعد لديهما أية رغبة في إخفاء ذلك أوفي تبريره.

وفي الوقت الذي كانت فيه صحّة محبوبة المنزل تتراجع بشكل يومي، كانت الخالتان الحزينتان، تحت تأثير ما تمنحانه لتلك الأم البائسة من نشوة السرور والامتنان، ترسمان لها كل صباح صورة متألقة عن نضارة وجمال الشابة.

كانت الطفلة في الأيام الأولى من مرضها لاتزال قادرة على الإمساك بالقلم، وبذلك كانت تكتب لوالدتها بعض الحواشي الصغيرة التي تعبّر بها لها عن حبها والتي تُخفي فيها عنها كل ما يتعلق بمرضها. وكانت والدتها تقرأ تلك الرسائل الصغيرة  وتعيد قراءتها مرات ومرات بعينيها اللتين تملآنهما دموع العرفان والسعادة، وكانت بعد أن تقبّلها تحتفظ بها بحرص تحت وسادتها كما يتم الاحتفاظ بالأشياء الثمينة.

ثم جاء اليوم الذي ضعفت فيه مقدرة هيلين على الكتابة، والذي بدأ فيه ذهنها يتشتت، اليوم الذي أخذ فيه لسانها ينطق بكلام مُتناقض ومحزن... وكانت تلك هي المُعضلة المؤلمة الأكبر بالنسبة للخالتين، فلم تعد هناك أية رسائل محبة تحملها إستر إلى الأم. ومع ذلك كان عليهما إيجاد المخرج لهذا الأمر., ولكن لم يكن بإمكانهما معرفة كيفية القيام بذلك. كانت إستر في البداية تُقدّم يومياً للأم المريضة تفسيراً مدروساً بكل عناية وجديراً بالتصديق، إلا أنها ذات يوم كانت قد ارتبكت وبدأت تفقد مسار الحديث. وبذلك كانت الشكوك قد بدأت تبدو على وجه الأم كما بدأ يظهر عليها ما ينذر بالخطر. لاحظت إستر ذلك وأدركت بأن الخطر أصبح وشيكاً، وكان عليها أن تتحوّل إلى وضع الطوارئ. ثم استجمعت شجاعتها بعزم واستطاعت أن تخرج من فكّ الهزيمة بالنصر حيث قالت لها بصوت مُقنع وبرباطة جأش:

- كنت أعتقد  بأنه قد يُحزنك معرفة ذلك، الحقيقة أن هيلين أمضت ليلة الأمس في سولا نيس.، كانت هناك حفلة صغيرة. لم تكن هيلين في الحقيقة ترغب في الذهاب إلى تلك الحفلة وأنت مريضة، لكنّا أقنعناها بذلك.، فهي شابة  وبحاجة إلى أن تمضي بعض الوقت بتسلية برئيه أسوة بغيرها من الفتيات الشابات. اعتقدنا بأنك سوف توافقين على ذلك لذا كنا قد أقنعناها بالذهاب، تأكّدي بأنها سوف تكتب إليك فور عودتها.

قالت الأم " كم أنت طيبة خالتي، وكم أنت مُحبة لنا، وكم تراعين مشاعرنا نحن الاثنتين!..أنا بالطبع أوافق على ذلك؟  لِم لا؟  أشكركما من كل قلبي! صغيرتي الغالية المنفية ! فلتقولا  لها بأنني أريدها أن  تحصل على كل ما بإمكانها أن تحصل عليه من المتع ! لن أحرمها من أي شيء، عليها فقط أن تراعي صحتها، وهذا كل ما أطلبه منها. لا تتركوها تتعذب فليس بإمكاني أن أحتمل ذلك. كم أنا سعيدة لأنها نجت من خطر العدوى! كم كانت قد تعرضت إلى خطر قريب.خالتي إستر!  تخيّلي لو أن ذلك الوجه الجميل أصبح باهتاً وملتهباً بالحمى، لست أحتمل حتى التفكير بذلك! أرجوكما أن تُحافظا لها على صحتها وأن تحافظا لها على إشراقها! بإمكاني أن أراها وكأنها أمامي الآن  تلك المخلوقة الوسيمة بعينيها الزرقاوين الجادتين، وبرقتها. آه!.. كم هي رقيقة، لطيفة وفاتنة ! عزيزتي إستر، هل لازالت جميلة كما كانت دوماً؟

أجابتها إستر:

- بل هي أكثر جمالاً وإشراقاً  وسحراً مما كانت عليه في أي وقت مضى، هذا لو كان ذلك ممكنناً.

ثم استدارت  وتظاهرت بالبحث عن زجاجات الدواء لكي تُخفي عنها حزنها وخجلها...

 

 

5

 

بعد فترة قصيرة، كانت الخالتان في غرفة هيلين تحاولان بأصابعهما المتشنّجة، وبكل ما لديهما من مقدرة وأناة وصبر، القيام بعمل مُجهد وذلك بمُحاكاة ما كانت تكتبه هيلين لوالدتها من حواشٍ صغيرة. أخفقتا مرّة بعد أخرى، لكن, ومع التكرار, كان التحسن قد بدأ يظهر فشيئاً فشيئاً. لكن ما يثير الشفقة في كل ذلك،  وما كان من الدعابة المحزنة، وما لم تدركانه بالذات هو أنه لم يعد هناك ما يمكن مشاهدته.,ذلك لأن دموعهما كانت في كثير من الأحيان، تسقط على تلك الرسائل وتتلفها. كان أي خطأ في صياغة أية كلمة ، كلمة واحدة قد يُعرّض الرسالة لأن تكون محفوفة بالخطر.ثم استطاعت حنا آخر الأمر محاكاة أحد الخطوط التي تشبه خطّ ما تكتبه هيلين، وبالشكل الذي  يؤدي إلى أن تفلت من نظر أي عين قد تنزع إلى الشك فيها. وكانت قد أغنت الرسالة بسخاء  بجمل الدعابة وبعبارات الحب التي كانت هيلين تقولها عادة لوالدتها منذ طفولتها. ثم حملتها إلى الأم التي استلمتها بحماس ., قبلتها وأخذت تُربت عليها وتقرأ ما ورد فيها من كلمات عزيزة على النفس, مرّة بعد مرّة وهي تتمعّن بكل غبطة بما ورد بشكل خاص في فقرتها الأخيرة:

 

"حبيبتي موسي!  ليت بإمكاني على الأقل أن أراك وأن أجتمع بك، وأن أقبلك وأن أشعر بذراعيك وأنت تضمينني إلى صدرك الحنون! أنا سعيدة لأن غيابي لا يقلقك. تماثلي للشفاء بسرعة. يعاملني الجميع هنا بشكل جيّد، لكنني وحيدة بدونك يا أمي الحبيبة".

قالت الأم " يا للطفلة البائسة!... أنا أعرف جيداً  كيف تشعر، فليس بإمكانها أن تكون سعيدة تماماً بدوني، آه... أنا أعيش في نور عينيها ! أعلموها بأن بإمكانها أن تقوم بكل ما ترغب به... خالتي حنا!  قولي لها بأنه لم يعد بإمكاني أن أسمع من بعيد عزفها على البيانو وصوتها الحبيب وهي تغني. يعلم الله بأنني أتمنى ذلك. لاأحد يعلم مقدار عذوبة ذلك الصوت بالنسبة إلي - عندما يخطر ببالي أنه قد يصمت في أحد الأيام...!  لم تبكين خالتي ؟"

 

- لأنني...لأنني... هذا فقط...لأنني...بسبب... كان ذلك  لمجرد ذكرى خطرت ببالي، ذلك لأنها عندما جئت إليك كانت تنشد "لوش لومون" ( أغنية حزينة جداً)  لذا بكيت لما في ذلك اللحن من شجن يُحرك العواطف!... فهو يُحرك مشاعري عندما تغنيه.

 

- وأنا أيضاً أشعر بذلك. خالتي حنا!.. كم هو جميل . ما يتسبب بالأسى ويسحق القلب هو أن يحتضن قلبها الفتي كل ذلك الحزن، فهي تنشده لما قد يجلبه ذلك من شفاء صوفي لروحها؟... أنا مريضة جداً . يخطر ببالي أحيانا بأنني لن أسمع ذلك الصوت مرة أخرى.

- آه ! مارغريت لا تقولي هذا، لا تقولي هذا، فليس بإمكاني احتمال ذلك!

 

كانت مارغريت مضطربة يائسة وقالت بلطف:

-  تعالي إلي، دعيني أطوّقك بذراعي، لا تبكي، تعالي، ضعي خدك على خدي ولتشعري بالعزاء، أريد أن أعيش، سوف أعيش هذا لو كان بإمكاني ذلك. آه!... وما الذي بإمكانها أن تفعله بدوني!..  هل تتحدث عني كثيراً؟ أنا أعلم بأنها تفعل ذلك.

- إنها تحدث عنك طوال الوقت، طوال الوقت !

- طفلتي العزيزة ! هل كتبت إليّ تلك الرسالة فور عودتها إلى المنزل؟.

- نعم، في اللحظة الأولى من وصولها، وحتى أنها لم تنتظر إلى أن تخلع ملابسها.

- كنت أعلم ذلك، هذا هو أسلوبها المندفع العاطفي. كنت أعرف ذلك دون أن أسأل، إلا أنني أردت أن أسمعك تقولين ذلك. فالزوجة المدلّلة تعلم دوماً بأنها محبوبة لكنها ترغب بسماع ذلك يومياً لما يجلبه سماعها ذلك من سرور. كنت سأحزن لو أنها لم تكن كتبت إلي فور عودتها. هل استخدمت الريشة للكتابة هذه المرة، هذا أفضل، لأن آثار قلم الرصاص يمكن أن تًمحى.، هل كنت أنت من اقترح عليها أن تستخدم ريشة الكتابة ؟

- نعم، لا، كانت تلك فكرتها.

 

بَدت الأم مسرورة وقالت :

- كنت آمل أن تقولي ذلك، لايوجد على الإطلاق مثل تلك الطفلة المحبة التي تراعي المشاعر. خالتي حنا, أليس كذلك ؟

- عزيزتي مارغريت!

- قولي لها بأنني أفكر بها طوال الوقت وبأنني أحبها جداً. لم تبكين من جديد ؟ لا تقلقي علي فليس هناك بعد ما يُقلق.

 

نقلت المُراسِلة الحزينة رسالة تلك الأم البائسة إلى الفتاة، أوصلتها بورع إلى الأذنين الغافلتين. لكن الفتاة التي كانت في ذلك الوقت تهذي كانت غافلة عن كل ما حولها., وكانت تنظر إليها بتساؤل وباستغراب بعينين ألهبتهما الحمى. عينان لا يبدو فيهما ما يشير إلى أي ضوء يدلّ على الإدراك:

 

- هل أنت؟ لا، أنت لست أمي!.. أريد أمي!.. أريد أمي!..  كانت هنا من دقيقة، لم أرها تغادر، هل ستأتي؟ هل ستأتي بسرعة؟ هل ستأتي الآن؟.... هناك الكثير من المنازل...وهي تضغط علي صدري كثيراً... كل شيء يلف يدور ويلف... آه!  رأسي... رأسي!

 

وهكذا كانت تلك الفتاة البائسة تهذي وتهذي لشدة الأم، وتتنقّل من خيال مُضنٍ إلى خيال مُضنِ آخر، وهي تُقاذف ساعديها باستمرار من جهة لأخرى بضجر وضيق واضطراب...بينما كانت العجوز البائسة حنا في ذلك الوقت تُبلّل لها شفتيها وتمرّر يدها برفق على جبينها الملتهب، وهي تهمس بعبارات العزاء والإشفاق وتشكر الله على أن والدتها سعيدة لأنها لا تعرف شيئاً عن كل ذلك.

 

6

كانت الطفلة تتردّى يوماً بعد يوم وتنحدر باستمرار نحو النهاية. كانت كل من الحارستين العجوزين الحزينتين تحملان يومياً إلى الأم السعيدة التي كانت في ذات الوقت تدنو أيضاً من نهايتها،  تلك الأنباء المَطلية بالذهب حول صحة وتألّق وفتنة ابنتها. كانتا تُزوّران باسم الطفلة تلك الرسائل الصغيرة الحنونة والمُبهجة، وُتواجهان بعد ذلك عذاب الضمير بقلبيهما الداميين، وتبكيان وهما تشاهدان مدى ما كانت تشعر به تلك الأم  من الامتنان، ومقدار ما تهيم بتلك الرسائل، ومقدار ما تُثمنها أسوة بأغلى الكنوز التي لايمكن تقديرها بثمن لمصدرها العذب الذي تُقدّسه ولأن يدّ ابنتها كانت قد لمستها.

 

ثم جاء أخيراً ذلك الصديق الطيب الذي يحمل معه الشفاء والأمان للجميع... كانت الأضواء تضيء المكان بشكل خافت. وكانت الأشكال الغامضة تتنقل بسكون في البهو المعتم في ذلك الصمت المَهيب الجليل الذي يسبق الفجر, وتجتمع بصمت وخوف في غرفة هيلين وحول سريرها، ذلك لأن الإنذار كان قد سبق. ولأنهما كانتا تعرفان ذلك...

كانت الفتاة المُحتضرة مُستلقية فاقدة الوعي بأجفان مُغلقة، وكانت الملاءات ترتفع وتنخفض فوق صدرها أسوة بحياتها الضائعة التي كانت تنحسر شيئاً فشيئاً. ومن حين لآخر كان يشقّ السكون هنا وهناك صوت تنهيدة ونشيج مكتوم  ذلك لأن ذات الفكرة كانت تدور بذات الوقت في أذهان الجميع:

رحمة الموت، الرحيل إلى الظلام الكبير، الأم التي ليست هنا لكي تُساعد وتشدّ العزيمة ولكي تواسي وتُبارك...

ثم اهتاجت هيلين وأخذت يداها  تتلمسان ما حولها وكأنها تبحث عن شيء، ذلك لأنها كانت منذ ساعات قد أصيبت بالعمى... لقد حلّت النهاية.، وكان الجميع يعرفون ذلك. ضمتها إستر إلى صدرها  وهي تبكي بنشيج مرتفع  "آه..! يا طفلتي، يا حبيبتي !"

 

حينئذ, كان ضوء جذل قد لمع على وجه الفتاة المُحتضرة، وكان من الرحمة الأبدية التي جاءت إليها من الله وهي تحتضر أن الله منّ عليها بأن تعتقد خطأً أن الذراعين الحاميتين هما لشخص آخر وبأنهما لوالدتها. وبذلك ذهبت إلى الراحة الأبدية وهي تمتم:

" آه...  أماه!... أنا سعيدة جداً، كنت أتمنى كثيراً رؤيتك، أستطيع الآن أن أموت".

 

وكانت الأم بعد ساعتين قد سألت إستر عندما قدمت إليها التقرير اليومي:

- كيف تسير الأمور مع الطفلة ؟

- إنها بوضع جيّد.

 

 

7

 

تم تعليق حزمة من القماش الرقيق الأبيض والأسود على باب المنزل, كانت تتمايل هناك وتُصدر حفيفاً يهمس في الهواء بالأنباء. كانت جميع التحضيرات لأجل المتوفاة قد انتهت مساءً.

كان جسم الشابة الجميلة التي كان وجهها العذب الجميل في سلام كبير، ممدداً في ذلك النعش.  وبينما جلست بجانبها المفجعتان حنا والخادمة السوداء تيلي تتلوان الصلوات بأسى، جاءت إليهما إستر وهي ترتجف. ذلك لأنها كانت تواجه مشكلة كبيرة وقالت:

- سألتني عن رسالة.

شحب وجه حنا فلم تكن قد فكرّت في ذلك.، كان قد خيل إليها بأن تلك المهمّة المحزنة قد انتهت، لكنها أدركت الآن بأن هذا لايمكن أن يكون. ظلت المرأتان للحظة تحدقان ببعضهما بعيون خلت من أي تعبير ثم قالت حنا:

- لايمكن تفادي  ذلك، يجب أن تحصل على ما تريد  وإلا فسوف تشكّ في الأمر.

- نعم، وسوف يسحق ذلك قلبها،  ثم نظرت إلى وجه المتوفاة، واغرورقت عيناها بالدموع وقالت:

- سوف أكتبها.

 

حملت إستر الرسالة إلى الأم البائسة،. تلك الرسالة التي كان السطر الأخير فيها:

" حبيبتي، فأرتي الصغيرة، سوف نكون معاً من جديد عما قريب. أليست هذه من الأنباء الجيّدة؟ يقول الجميع بأنها الحقيقة".

قالت الأم بأسى:

- طفلتي المسكينة كيف سيكون بإمكانها الاحتمال عندما ستعلم  بأنني لن أراها  ثانية أثناء الحياة ؟... لا، هذا مؤلم، مؤلم جداً، هي لا تشك بشيء؟ سوف تحميانها أليس كذلك؟

- تعتقد هيلين بأنك سوف تتعافين عما قريب.

- خالتي العزيزة إستر! كم أنت طيبة وحريصة عليها! أليس هناك من يمكن أن ينقل إليها العدوى؟

- سوف تكون تلك جريمة.

- ولكنك ترينها؟

-  نعم عن مسافة بعيدة.

- هذا جيّد، فليس بالإمكان أن نثق بالآخرين، وإنما أنتما بمثابة الملاكين الحارسين لها ـ فحتى الفولاذ  ليس بذات قوّة صدقكما. لا، لا يمكن الثقة بالآخرين، فسوف يخدعها الآخرون ويكذبون عليها.

 

أطرقت إستر بنظرها  وبدأت جفونها ترتجف.

 

- خالتي إستر ! دعيني أقبلك لأجلها وبعد أن أموت ويكون الخطر قد زال،  ضعي هذه القبلة على شفتيها ولتقولي لها بأن أمك كانت قد أرسلتها إليك، وسوف يكون فيها كل ما في قلب الأم المُحطّم!

 

بعد ساعة  من الزمن كانت إستر تزرف الدموع على الوجه الميت بعد أن كانت قد أدّت مهمتها المحزنة.

 

 

8

 

أشرق يوم أخر. استمر وانتشر ضوء الشمس على الأرض... حملت الخالة حنا كعادتها الأنباء المُعزيّة لتلك الأم، التي كانت تتراجع، بواسطة حاشية صغيرة تقول فيها ثانية:

- أمي الحبيبة، لم يعد علينا أن ننتظر سوى القليل من الوقت، وسوف نجتمع معاً بعد ذلك.

 

في تلك اللحظة وصل إلى مسامعهما لحن حزين لجرس يندب مع هبوب الرياح.

قالت مارغريت - خالتي حنا!  الناقوس يقرع. لابد أن إحدى الأرواح البائسة حصلت الآن على الراحة الأبدية كما سوف أفعل أنا عما قريب. لن تنسيني أليس كذلك؟
- بحق الله، يعلم الله بأن هذا لن يحدث أبداً!

- خالتي حنا ! ألا تسمعين بعض الأصوات الغريبة،  يبدو الأمر وكأن هناك وقع لأقدام عديدة.

- عزيزتي , كنا نأمل ألا تسمعي ذلك،  فهناك تجمّع لبعض الأشخاص...لأجل... لأجل هيلين فتلك السجينة الصغيرة سوف تعزف الموسيقى ., وهي تحب ذلك كثيراً، لذا خطر ببالنا بأنك لن تُمانعي في ذلك.

- أمانع؟ لا، لا، لا أبداً، امنحا حبيبتي كل ما يمكن أن يتمناه قلبها. كم أنت طيبة معها وطيبة معي، ليباركك الله على الدوام!

 

ثم قالت بعد فترة من الإصغاء:

- كم هذا جميل ؟ إنه صوت الأرغن، هل تعتقدين بأنها هي التي تعزف على الأرغن؟

 

كانت النغمات الموسيقية تصل إلى أسماعهما من خلال الهواء الساكن ضعيفة، عميقة ومُلهمة.


- نعم، هذه هي اللمسة الفنية لحبيبة قلبي فأنا أعرفها تماماً. إنهم ينشدون. ماذا ؟  إنها ترتيله! الترتيل الأكثر قدسية من جميع التراتيل والأكثر تأثيراً والأكثر مواساة... تبدو وكأنها تفتح لي أبواب الجنان ... بإمكاني الآن أن أموت..."

كانت الكلمات تتصاعد من بعيد من خلال السكون.

 

أقرب إليك يا إلهي

أقرب إليك

هذه هي الرحلة التي ترفعني إليك

 

ومع نهاية تلك النغمات، كانت روح أخرى قد انتقلت إلى الراحة الأبدية، وبذلك لم تكن من لم تنفصلا أثناء الحياة قد انفصلتا في الموت. قالت الشقيقتان بحزن وببهجة وبذات الوقت:

" كم كانت رحمة الله كبيرة  بألا تكون قد عرفت أبداً  بموت ابنتها !"

 

 

9

 

وفي منتصف الليل,  وبينما جلست الخالتان بأسى وحزن، ظهر ملاك الله وسط هالة من الجلال وحدّثهما قائلاً:

هناك مكان في الجحيم خصّصه الله للكاذبات وسوف يتم إحراقهن فيه إلى الأبد، توبا إلى الله!

سقطت المحرومتان أمامه على ركبتيهما، ضمتا أياديهما وأحنيتا رأسيهما وهما تبتهلان وتطلبان المغفرة. لكن ألسنتهما التصقتا في فوهيهما وفقدتا النطق.

 

- تكلما!.. لكي يكون  بإمكاني أن أحمل الرسالة إلى محكمة السماء،  ولكي أحمل منها إليكما ثانية القرار غير القابل للنقض.

أحنيتا رأسيهما أكثر فأكثر، وقالت إحداهما:

 

- خطايانا كثيرة ونحن نعاني من الندم ولكن ألا تُزيل توبة أخيرة وصادقة جميع الخطايا؟. نحن مخلوقتان بائستان، وقد أدركنا تماماً مقدار ضعفنا الإنساني، وبأننا لو كنا في مثل تلك الظروف الصعبة ثانية  فسوف تخطئ نفوسنا الضعيفة كما أخطأت سابقاً.  بإمكان القوي أن يفوز وبذلك ينجو، لكننا ضعنا.

 

ثم رفعتا رأسيهما بتضرّع. وبينما كانتا تبكيان وتتضرعان إلى الله وتطلبا المغفرة والرحمة، كان ملاك الله قد عاد من جديد، وانحنى إلى الأسفل وهمس لهما بالقرار...

فهل كان ذلك الجنة ؟ أم الجحيم...؟

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية