على من تقع مسؤولية قضايا التعليم وأهدافه؟
يعاني التعليم في الوطن العربي على امتداده وتنوعه من مشكلتين أساسيتين وهما جمود المناهج التدريس وعدم قدرته على التكيف مع المستجدات واستيعاب اتجاهات التعليم الحديثة والاستفادة من وسائل التكنولوجيا الحديثة وتوطينها. التعليم الجيد يجب أن يبنى على أساس أنه ليس هناك شيء أبدي ومؤكد طوال الوقت وأن هناك جواب لكل سؤال. وهكذا فإن هدف التعليم هو تسليح المتعلم بالقدرة على التفكير المنطقي والتفكير الناقد والقدرة على استشراف المستقبل أي التعليم الإنساني الحق. فالمهم أن نتجه إلى التعليم الإنساني الذي يلبي احتياجات واهتمامات الأطفال والشباب الذي يركز وينصب على نمو وتطور الشخصية. وبذلك نضمن استمرارية التعلم والتعليم طيلة دورة الحياة بتوجيه ذاتي في بيئة صحية دون تهديد من أي اتجاه ومن أي نوع. لأول وهلة تبدو فكرة التخطيط لمناهج تعد الأجيال للمستقبل أنها محصنة من الانتقاد والتفنيد. وفي نهاية المطاف التعليم هو ليس للحاضر فقط. سيعيش الأطفال في عالم يختلف عن عالمنا في الوقت الراهن. وعلى المدرسة والنظم التعليمية أن تساعد الأطفال على التعامل بل التفاعل مع هذا العالم الجديد. ومع وجود مثل هذه الفكرة التي تبدو أنها محصنة كما يبدو للوهلة الأولى، هل هناك من أحد بين ظهرانينا يستطيع أن يتنبأ أو يخبرنا ما يحمله المستقبل لأجيالنا؟
فالتنبؤات حول أساليب الحياة والعوامل الاجتماعية والمشاكل التي تصادف الأطفال في المستقبل لهي عصيبة ومقلقة حقا. فمن كان يستطيع منذ عشرين سنة مثلا أن يتنبأ التحديات التي نواجهها نحن الكبار اليوم؟ وإذا كان المستقبل غير واضح ويصعب إدراكه أو فهمه فعلى أي أساس نخطط المناهج والتعليم؟ ومن منظور شخصي بحت نستطيع أن نعد الطلاب الإعداد الأمثل للمستقبل بمساعدتهم على التفاعل مع الحاضر. فالمناهج التي تؤسس على مفهوم الإعداد التربوي غالبا ما تكون غير ذات صلة من الناحية العقلية أو أنها لا تتعدى عن كونها أطواق قفز يتدرب الأطفال على القفز من خلالها كي يتقدموا إلى الأمام. إن أكثر ما نفعله نحن الآن في مدارسنا هو تدريب الأطفال على القفز من الأطواق المتعددة الألوان والمتنوعة الأحجام والألوان hula-hoops دونما إدراك لأهداف المستقبل التي تؤهلهم لدخول معترك الحياة وخضم المشاكل التي تنصب على الرؤوس من كل حدب وصوب في زمن العولمة المتوحشة. ولكنني كتربوي صاحب تجربة ممتدة في التعليم وفي تطوير المناهج أرغب في عملية تعليم حقيقية وأصيلة تعنى بحاضر الطلاب؛ تتحداهم بطرح المشاكل والمسائل والأفكار التي يجدون فيها متعة التعلم. أريد أن أُقَوٍّم هذه العملية بعمقها وبمدى ارتباطها بحياة الطلاب.
إن التعلم، في المقام الأول، نشاط داخلي. لا يقتصر على النظريات والمواضيع الأكاديمية. إنه يتصل بالعقل والجسم معا ويحتاج إلى دعوة الدارسين إلى اكتشاف أنفسهم ليبتكروا معنى جديدا للبناء الشخصي حيث يدفعهم ذلك إلى التساؤل يوميا. إن التعلم عملية دائمة الحياة. إنها تمس شغاف العقل والقلب معا. وبالتالي يمكن للمدرسة أن تخلق، من خلال التجارب التعليمية والتربوية والعاطفية والفلسفية والروحية، مجتمعا صحيا حيث يستطيع كل فرد أن يتعلم ويفكر وينمو ويتطور بحرية ودون خوف أو ألم. يتعلم الأطفال المعنى العميق والرغبة وحب كل شيء يقومون بعمله وبالتالي يمنحهم الثقة للتعبير على المستوى المطلوب في العلاقات الإنسانية. وعندما يتعلم الأطفال في بيئة ومناخ غير تنافسي يكتشفون الحافز الذاتي المتجدد ويظهر مع تنامي ذكائه العقلي والعاطفي أثناء تزويدهم بالمعرفة والمهارات اللازمة للحياة في عالم معقد ومتغير كعالمنا اليوم نكون نزودهم في نفس الوقت بمناخ مفعم بالمسؤولية التي تثير فيهم شعورا بالثقة بالنفس. وبالتالي يؤدي هذا إلى الشعور ببدايات الإنجاز الذاتي وفهم الطاقة غير المحدودة للإبداع لديهم. وبطريقة موازية للنمو الأكاديمي يتم التأكيد على النمو الشخصي للأفراد. يجب أن يتعلموا كيف يشعرون بمشاعر بالآخرين وكيف يهتمون بهم والتعاطف معهم ويعبرون عن ذلك بطرق مناسبة. وكي نستطيع تحقيق ذلك، علينا نحن الكبار أن نكون قدوة لهم ونمارس هذه الصفات بأنفسنا ونهيء البيئة المناسبة للتعلم من خلال تفاعلهم مع من حولهم. من بين مهارات التعليم الإنساني التي لا يختلف عليها اثنان في كل المجتمعات إذا ما أريد تنمية بشرية حقة لتشكيل أجيال تتمتع بكل إمكانيات مواجهة الحياة ومشاكلها ما يلي: الرؤية والتخيل يمتلك الفرد هذه المهارة عندما يشكل رؤى ويستطيع استخدامها في الطاقة التحليلية لديه لإيجاد حلول جديدة لمشاكل أو لإبداع أو ابتكار أفكار جديدة. فهذه المهارة أصبحت هامة جدا وذات علاقة واضحة وستستمر كذلك في طبيعة العالم الذي نعيشه اليوم وغدا. وعندما تكون بعض الأشياء ثابتة ودائمة والتغيير طريقة حياة فالقدرة على إيجاد اتجاهات جديدة تكون أصيلة ومرغوب فيها.
وهكذا تأتي أهمية هذه المهارة لأن الأفراد والجماعات يحتاجون إلى تشكيل طريقهم نحو المستقبل ولكي يستطيعوا ذلك يحتاجون إلى رؤية الأشياء الموجودة حاليا لاستشراف المستقبل. القدرة على إصدار الأحكام. إن من أفضل الطرق لإعداد الأطفال للمستقبل التركيز على الحاضر بطريقة تساعدهم على التعامل والتفاعل مع المشاكل التي تحتمل حلولا متعددة. فالمشاكل التي تهم المجتمع لا يمكن حلها بصيغة أو معادلة رياضية أو على قاعدة واحدة. إن ذلك يتطلب حشد معظم القدرات الإنسانية غير العادية التي يمكن تسميتها "القدرة على النقد وإصدار الحكم" Judgment إن هذه القدرة ليست مجرد امتياز أو تفضيل وإنما هي القدرة على تقديم الأسباب للاختيارات التي نصنعها. إن القدرة النقدية الجيدة تتطلب أسبابا جيدة. إن الرغبة والفطنة والحنكة من بين القدرات التي تجعل من القرار والحكم الصادر الجيد ممكنا والتي يمكن للمدرسة أن تغرسها عند الطلاب. ولغرس هذه القيمة، يحتاج المنهاج التعليمي إلى أن يشتمل على المشاكل والمسائل التي تسمح بالمحاورة لاتخاذ القرار أو الانتقاد أو إصدار الأحكام. ومثل هذه المسائل تتطلب تداولا وتسمح بإمكانية اتخاذ قرارات وإصدار أحكام متعددة. وهنا أشدد على اتخاذ "قرارات" وليس "حلولا". ومشاكل بهذا الحجم والضخامة تحتاج عادة إلى النظر إليها من زوايا متعددة ويمكن حلها فقط مؤقتا. لأنه إذا كان الحل مقبولا في فترة زمنية معينة فمن المحتمل ألا يكون مقبولا في زمن آخر. يجب أن نعلم أطفالنا على التحاور والتشاور وإبداء الرأي بحرية وبمسؤولية وعلى اتخاذ القرارات المناسبة وأن القرارات والتداول بشأنها متلازمان. التفكير الناقد Critical thinking أما المهارة الأخرى التي تحتاج المدرسة إلى تنميتها وتطويرها لدى الطلاب فهي القدرة على نقد الأفكار والاستمتاع بما يتم اكتشافه أو التوصل إلى ما يمكن تنفيذه من هذه الأفكار. ولتطوير وتنمية هذه القدرة، يجب أن يتم تقديم الأفكار الهامة للطلاب. فمنذ عقود خلت، لقد حدد (جيروم برونر) Jerome Bruner ثلاثة أسئلة تقود إلى تطوير المنهاج التعليمي في هذا الاتجاه أي التفكير الناقد: ما هو الإنسان الفرد؟ كيف وصل إلى ما هو عليه في هذا الاتجاه؟ وماذا يجعله أكثر إنسانية؟ ويمكن استكشاف هذه الأفكار الثلاثة ويتم مناقشتها في الصف في حدود ما يتطلبه المستوى العمري للطلاب.
ومن هذه الأفكار الكبيرة هي الأفكار المتحركة التي تنتقل بالطلاب إلى أماكن عديدة. فمثلا فكرة التبديل العشوائي والانتقاء الطبيعي والعلاقة بين الثقافة والشخصية وحماية حقوق الأقليات في بلاد تحكمها الأكثرية هي أمثلة لأفكار يمكن للطلاب أن يناقشوها ويتفحصوها ويوضحوها. وكل فكرة من هذه الأفكار لا تستهلك ولا تنتهي وهي مستمرة وعلى الطلاب أن يفككوا ويحللوا الاستنتاجات ويطبقوها اليوم وليس غدا. إنها القدرة على هضم المعلومات الكثيرة التي تفد علينا من كل اتجاه في عالم اليوم. مهارة التفكير الناقد تنصب على مقدرة الفرد على الحكم على المعلومات الواردة من حيث الجودة من عدمها. وهي توصف على أنها القدرة على تعلق الفرد بالأشياء من حوله إلى أن توجد دلائل أخرى مناسبة تجعله يحكم ويفكر من جديد. ولذا لا تصلح هذه المهارة إلاّ في المجتمعات الديموقراطية حيث يشارك الفرد في حكم مجتمعه وهذا واجب يتطلب درجة كبيرة من القدرة على التفكير الناقد لتمييز الحقائق من غيرها. وكذلك القدرة على تمييز الظاهر من الواقع الحقيقي من خلال المصادر المتاحة. وبما أن العالم يتجه الآن نحو الديموقراطية يجب أن ندخل مهارات التفكير النقدي في مناهج التعليم كي يستطيع أولادنا ممارسة التفكير النقدي بكل حرية ودون عقد الخوف في عالم يعج بالمتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية. القدرة على التكيف من المهارات التي يحتاجها عالم الغد مهارة القدرة على التكيف. وهي القدرة على الخروج من المواقف والمعتقدات والقدرات الثابتة والقدرة على التغيير واكتساب قدرات ومهارات جديدة. وهذه قدرة على تعلم أشياء جديدة وإيجاد طرق ووسائل للتكيف مع المتغيرات وغير المتوقع برصانة وهدوء واتزان دون تسرع وتهور.
على الأفراد والمجتمعات التعامل مع المفاجآت وغير المتوقع التي تظهر هنا وهناك في زمن العولمة وأن نكون قادرين على التصدي لها إما بالتكيف أو بإيجاد الحلول أو البدائل. فليس من المفيد في عالمنا اليوم أن يتمسك الشخص أو المجتمع بقوانين وقواعد ثابتة (مسبقة) التي يعتقد أنها تجد حلا لكل شيء في كل الظروف. ولكي يتم إنجاز ما سبق من الأهداف، نحتاج إلى مفهوم مختلف جذريا عما هو عليه الحال التعليم والمناهج حاليا. إن العلامات والدرجات والاختبارات لم تعد المعيار الصالح للحكم على الثقافة والتعليم وارتباطه بالمجتمعات. يجب أن تتراجع الدرجات والاختبارات إلى المقعد الخلفي عند الحديث عن تعليم عصري ينفع الحاضر والمستقبل ويجب أن تفتح المجال أمام تعليم أفضل ونتائج أفضل. وطالما المدرسة والمناهج تتعامل مع درجات الاختبارات على أنها الدليل الأهم على إنجاز الطالب وإنجاز التعليم النوعي، سنظل نعاني من عدم التفاتنا وانتباهنا للنواحي المهمة في التعليم وسنظل ندور في حلقة مفرغة. الكل منا مسؤول بدرجة ما عن قضية التعليم وأهدافه. ولكن السؤال هو كيف؟ نحتاج إلى وسيلة لتحمل المسؤولية التي تكون أوسع وأشمل من القياس والاختبار وأكثر حساسية لظلال ومعاني التعليم المفيد. ومثل هذه الوسييلة تحتاج إلى نظرة وتفكير مختلفين. فكيف السبيل إلى مثل هذه الوسيلة الناجعة في تعليم أبنائنا وبناتناا؟ وباختصار إن أكثر التعليم نفعا يوجد خارج أسوار المدرسة. إن الهدف الرئيس للمدرسة ليس هو مساعدة الطلاب على أن يجيدوا عملهم ولكن لمساعدتهم على أن يعملوا جيدا في الحياة التي سيمارسونها خارج المدرسة. إذن علينا أن نركز على ما يقوم به الطلاب عندما يختارون نشاطاتهم الخاصة بهم. نحتاج أيضا إلى تنقيح البرامج التعليمية كي تخاطب وتواكب القضايا المهمة التي ذكرناها آنفا. والكثير مما نفعله ونقوم به في مدارسنا حاليا هو انعكاس للعناصر التقليدية التي تعمل بآلية الانتقاء. يجب علينا مساءلة هذه التقاليد ومحاسبتها وتمحيصها. فكيف إذن نبرر الطلب من الدارسين أن يركزوا اهتمامهم على أشياء بالذات؟ فهل يحتاج الطلاب مثلا مقررا في التفاضل والتكامل؟ وهل يحتاجون إلى عدد معين من حصص التربية الدينية؟ هل نحن مقتنعون أننا ندرس التاريخ كما حصل؟ هل نحن متيقنون من أننا نقدم المواضيع للطلاب التي تساهم في تطوير عقول الطلاب؟ هل نحن متيقنون من أن المواضيع التي يدرسونها ذات علاقة بالحياة خارج المدرسة؟ هل نقوم بتدريس هذه المواضيع لأن أولادنا راضون ومقتنعون بها؟ إننا نحتاج إلى طرح مثل هذه الأسئلة وأكثر ونحتاج إلى إجابات منطقية ومعقولة. وعندما نجد الإجابات المناسبة لمثل هذه الأسئلة يمكننا مراجعة وتنقيح برامجنا بيسر وانفتاح. وعند المراجعة والتنقيح والتطوير للمناهج وأهدافها نحتاج إلى أن نتبنى نظرة أشمل للعقل وأعني بذلك نظرة شاملة للوسائل التي يتم بها التفكير. إن التفكير ليس محدودا بما تحمله الكلمات.
ليس هناك حدودا للمعرفة ولا يمكن تعريفها أو تحديدها بلغتنا. إننا نعرف أكثر مما نقول بكثير. إن الإعتراف بأن التفكير يحدث أو يتم في أي من الحواس المعروفة لدى الإنسان- البصر والسمع و واللمس والذوق والشم- يفتح الباب واسعا أمام تطوير برامج تناسب كل وسائل التفكير الإنساني. وقد لا نستطيع مخاطبة كل عنصر من عناصر العقل ولكن يمكننا أن نتنبه إلى خياراتنا وأن نختار ما نستطيع تبريره. وقد يقول قائل إن معظم الدول العربية ترصد الميزانيات الكبيرة في سبيل شراء التكنولوجيا الحديثة وتوفيرها في المدارس والجامعات. هذا صحيح ولكن المعضلة لا تكمن في توفير الوسائل الإليكترونية في حد ذاتها بقدر ما تكمن في استيعابها واستعمالها الجيد ولا تكون مجرد ديكور في المدرسة أو المعهد للتباهي أمام الزوار بأننا نوفرها للطلبة. وكم شاهدت بأم عيني مثل هذه المظاهر في المدارس الحكومية و الأهلية. فالمسألة ليست في تحديث المعدات وتوفيرها بقدر ما تتعلق باستخدامها الاستخدام الجيد وتوفير البرامج المناسبة للطلاب عند استعمالها. فالمسألة أوسع من ذلك. المسألة تتعلق بمحو أمية المعلوماتية والتقنية الحديثة ومواكبة الانفجار المعلوماتي في العالم.
إن مستقبل التعليم في عالم متغير بلا شك يتأثر كثيرا بتكنولوجيا المعلومات وثورة المعلومات. وبنفس القدر سيتأثر بطرق استخدام التكنولوجيا من قبل المدرسين والطلاب أنفسهم للإعداد لتعلم مستديم ومستمر لمواجهة التغير المستمر المتسارع، فنحن نعيش في عالم متغير في جميع مناحي الحياة وخصوصا من ناحية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. يعتقد أن المعلومات تتضاعف كل سنتين على الأقل في العالم بأسره. ولكي نفهم أهمية تأثير معدل سرعة تضاعف المعلومات فلنتخيل أن كمية المعلومات المتوافرة في العالم في هذه اللحظة تتمثل بخط مستقيم طوله سنتمتر واحد. فكم يا ترى سيبلغ هذا الخط عندما يدخل طفل صف التمهيدي ويتخرج من الثانوية العامة بعد 13 سنة؟ فلو حسبناها جيدا لاتضح لنا أن كمية المعلومات التي ستتوفر عندما ينهي ذلك الطفل الثانوية العامة تتمثل في خط طوله 64 سم. فماذا أعددنا نحن لذلك؟ ما هي خططنا التعليمية للمستقبل؟ قد يقول قائل أن كثرة هذه المعلومات حاليا غير صحية وغير مفيدة ففيها الغث والسمين وليست ذات فائدة وربما تفتقر إلى الدقة أيضا مما يجعل المهمة أكثر صعوبة وتصبح تحديا كبيرا. ففي عالم يتسارع فيه تدفق المعلومات، كيف لنا أن نصل إلى المعلومة الصحيحة والدقيقة وكيف نقرر دقتها وصحتها ومدى علاقتها بما نريد؟
هذه مهارة مهمة يحتاجها كل شخص وعليه أن يتعلمها ويستوعبها بأسرع ما يمكن. لقد اختصرت الثورة المعلوماتية عالمنا هذا وجعلته في متناول أيدينا على شاشة الكمبيوتر. فالمعلومات متاحة لكل من يريد. فمثلا الحصول على معلومات عن الأسواق والخدمات متاح للجميع دون تمييز لكل من يستطيع استخدام التكنولوجيا. وهذا يعني أن أي مؤسسة أو شركة لها حضور على شبكة الإنترنيت لديها القدرة على ممارسة العمل افتراضيا حول العالم. وهذا السوق العالمي متاح للأفراد كما هو متاح للشركات الكبيرة. وبالمثل إن تأثير شبكة الإنترنيت على عملية التعلم والتعليم عميق وكبير أيضا. وقد تم استخدام هذه الوسيلة بطرق جديدة ومختلفة مما أتاح للطلاب الحصول على آخر ما توصلت إليه البحوث والاكتشافات العلمية قبل توثيقها في الكتب والمراجع. وأكثر من ذلك يستطيع الطلاب أن يقوموا بأبحاثهم الخاصة بهم في مختلف المواضيع وينشروا نتائجها على شبكة الإنترنيت ليطلع عليها ويقيمها طلاب ومدرسون وباحثون آخرون. لقد قامت الإنترنيت بدمقرطة –إن صح التعبير_ نشر المعلومات بطرق لم يتوقعها أحد منذ بضع سنوات. فتغييرات بهذا الحجم تتطلب إعادة النظر في عملية التعلم والتعليم جذريا فيما يخص المناهج وطرق التدريس لكي نضمن لكل طالب تعلم كل المهارات المطلوبة والتي يحتاج إليها في عالم القرن الحادي والعشرين المتحرك الديناميكي. فبالإضافة إلى تعلم المهارات الأساسية المطلوبة كالحساب والقراءة والكتابة، على كل طالب أن يتقن المهارا ت الثلاث الرئيسة الضرورية لتكنولوجيا المعلومات ألا وهي: الاتصالات والتعاون والإبداع لإيجاد حلول للمشاكل الفنية. وهناك مهارات أخرى تساويها في الأهمية وهي معرفة استخدام الأرقام والبيانات في الحياة العملية، والقدرة على إيجاد وتطويع المعلومات المتعلقة بالمهمات المباشرة، وكذلك سهولة استعمال التكنولوجيا، والأهم من ذلك مهارة التفكير التي يحتاجها كل متعلم طوال حياته. إن سهولة التكنولوجيا خطوة بعد ما يسمى بمحو أمية التكنولوجيا. ولكي تكون ماهرا في استخدام التكنولوجيا يعني أنك تجلس إلى الكمبيوتر في مكتبك وتستخدمه بطلاقة ويسر تامين كأنك تقرأ كتابا بلغتك.
ومن التحديات العظمى التي تواجه التعليم هذه الأيام هي إعداد الطالب الإعداد الجيد بحيث يمتلك مهارة متطورة في استخدام تكنولوجيا الاتصالات والكمبيوتر. والفشل في التعامل مع هذه القضية فورا يديم الفجوة المتسعة أصلا ما بين الذي يملك المعلومات والذي لا يملكها. فإذا كانت مهمتنا مقتصرة على إعداد الأفراد لأنواع من الوظائف المتوافرة حاليا فمعنى ذلك أننا ما نزال في حاجة ماسة إلى عمل أكبر للمستقبل فالتحديات المفروضة علينا أكبر وأكبر كثيرا مما نتصور. فعلينا إيجاد واختراع وظائف المستقبل والإعداد لها الإعداد الجيد سلفا. ولنأخذ مثلا على ذلك: من الوظائف المطلوبة حاليا ما يطلق عليها (ويب ماستر) وهو الذي يقوم بتصميم وتطوير ومتابعة مواقع على شبكة الإنترنيت. فهذه الوظيفة لم تكن موجودة في سوق العمل قبل 15 سنة تقريبا. وهذا يعني أن الأشخاص الذين يعملون في هذا المجال قد اكتسبوا مهاراتهم وطوروها بمجهودهم الشخصي. ولكي نتقدم في هكذا عالم متغير، علينا تعلم المهارات الضرورية المواكبة للتغيير لنصبح متعلمين مواكبين لكل تغيير مستمر ودائم وعلينا أن نمرر هذه المهارات والتجارب لكل الطلاب.ولا شك أن توفر التكنولوجيا الرخيصة التكاليف وسهلة الاستعمال تتيح لنا فرص التعلم في أي مكان وأي زمان. وبلا شك أنه سيكون لهذه التكنولوجيا أكبر الأثر على الطلاب من كل الأعمار. فمثلا شارب اليابانيةSharp للإليكترونيات طورت كمبيوترا بحجم اليد بشاشة ملونة. وقد يتصل بهذا الجهاز كاميرا رقمية أو لوحة كتابية أو برنامج يمكن بواسطته تصفح شبكة الإنترنيت لاسلكيا دون توصيلات.
من المشروعات الرائدة في هذا الصدد والتي كان لها الأثر الكبير على عملية التعلم والتعليم مشروع بدأ في مدارس ولاية إنديانا الأمريكية في عام 1994 أطلق عليه النظام الرفيق Buddy System. لقد تم تزويد طلاب 80 مدرسة في الولاية بأجهزة كمبيوتر وأجهزة مودمModem لاستخدامها في البيوت. وتمت مراقبة المشروع على مدى تسع سنوات أي حتى عام 2003 وتمت متابعته من قبل باحثين متخصصين. كان لهذا النظام فوائد كبيرة حيث أضاف 30 يوما دراسيا دون أن يكلف المدرسة عناء تواجد الطلاب فيها ودونما أي تكلفة تذكر إذا علمنا أن تكلفة المشروع لا تعادل أكثر من عمل يوم إضافي في المدرسة. وهذه المعادلة (ثلاثين يوما مقابل يوم واحد) تحققت بحماس الطلاب للتعلم باستخدام التكنولوجيا التي تم توفيرها في بيوتهم. وعندما تصبح هذه التكنولوجيا رخيصة الثمن في متناول جميع الطلاب، سيصبح التعلم المستدام في متناول الجميع. والأهم من ذلك هو إشاعة فكرة التعلم المستدام على أنه مهارة بقاء واستمرار في هذا العالم. ولهذا يجب العناية والاهتمام بهذه الفكرة دونما انتظار اختراع تكنولوجيا جديدة.
إن النظام التعليمي الذي يتجاهل المستجدات والتغييرات التي تشكل الغد ينهي بذلك علاقته أو ارتباطه بحياة الطلاب وسيضمحل شيئا فشيئا. ولهذا يجب إعادة صياغة مؤسساتنا التعليمية من سنوات الروضة إلى الجامعة لنعد طلابنا الإعداد المناسب للمستقبل وليس للماضي.إذا أريد للشباب أن يتسلحوا لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين فمن الحكمة أن نفهم جيدا ما جاءت به الأبحاث العلمية حول ماهية وطبيعة تعلم الإنسان قبل أن نذهب بعيدا في أية إصلاحات لأنظمة التعليم الحالية في بلداننا العربية. وهنا تحضرني مقاربة مفادها أننا جميعا نستخدم أدمغتنا في التفكير كما نستخدم معداتنا في تغذية أجسامنا معتقدين بأننا نفهم كلتا العمليتين جيدا وكأنها من المسلمات. ولكن مع الاكتشافات الجديدة والدراسات والأبحاث التي ساعدت على فهم أفضل لنظم التغذية خلال الثلاثين عاما المنصرمة، أصبحنا نختار أطعمتنا وطرق تغذيتنا بصورة أفضل ولهذا صرنا نعيش أطول ونتمتع بحياة أفضل. وعند النظر إلى الدماغ نرى هذه المقاربة مفيدة حيث تتوفر الفرص لتطوير قدرات الدماغ لأننا في وضع أحسن لفهم وظائف الدماغ التي تتكيف مع التعلم.
لقد قدمت الدراسات والأبحاث في التسعينات من القرن السابق الدلائل الكثيرة المستقاة من العلوم المعرفية وعلوم الأحياء والأعصاب وعلم النفس التطوري وحتى من علم الآثار والعلوم الإنسانية الأخرى التي ترينا بالتفصيل كيف يتعلم الإنسان. ولهذا نستطيع الآن أن نفهم لماذا أنّ التعلم هو عملية أكبر بكثير من كونها مجرد الوجه الآخر من ثنائية التعلم والتعليم. والكثير من هذه الدلائل تؤكد ما يفكر فيه الناس والإلمام به بحدسهم وحواسهم. إن التعلم في الواقع يعني أكثر من المدرسة وما يدور فيها. ولا غرو أن كثيرا من الشخصيات المعروفة والمشهورة وبعض المخترعين كانوا فاشلين في المدرسة بل وانسحب بعضهم من الدراسة الرسمية في وقت مبكر. وبالعكس أيضا الكثير من الذين نجحوا في دراستهم الرسمية ونالوا الشهادات العليا ولكنهم ذابوا في مجتمعاتهم واختفوا ولم يكن لهم أي تأثير يذكر. فلماذا؟ ليس ذلك مفاجئا فالعديد من الدراسات الطويلة المدى أشارت إلى أن أهم العوامل التي تؤثر على نجاح الفرد في المستقبل هي:
1. كمية ونوعية النقاش وتبادل الأحاديث وإثارة المواضيع مع الأطفال في البيت قبل مراحل المدرسة الأولى.
2. كمية القراءة المستقلة بالاعتماد على النفس التي يقوم بها الطفل بغض النظر عن الموضوعات التي يختارها في قراءته.
3. وضوح نظام القيم الأخلاقية في العائلة على كلا المستويين: الفهم والممارسة.
4. التأثير الإيجابي القوي على الطفل من قبل أصدقائه.
5. تأثير السنوات الأولى في المرحلة الابتدائية على الطفل.
إن أبرز الفوارق التي لمستها من خلال خبرتي بين المعلم الغربي –في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، والمعلم العربي على الإطلاق هي لامركزية عملية التعلم والتعليم. فكل ولاية بل وكل مقاطعة لها أهدافها ومناهجها التي يجمع عليها أبناء المقاطعة. ومن الفوارق الهامة أيضا أن النظام التعليمي يركز على بناء الشخصية اجتماعيا ونفسيا ومعرفيا إلى جانب التحصيل الأكاديمي المطلوب. فلو أخذنا مثالا على أهداف لمدرسة أمريكية يكفي لمقارنتها بأهداف أي نظام تعليمي في أي بلد عربي. أولا وقبل كل شيء، ترتكز الأهداف على قاعدة تعليم وتربية الطفل في كل الجوانب كما سبق وذكرنا حيث يتم التركيز على بناء الشخصية المتكاملة من الناحية الاجتماعية والنفسية والأخلاقية والأكاديمية. ومن ثم تأتي التفصيلات في الأهداف التي يعتمد عليها المنهاج ومقرراته. فمثلا قد تتضمن قائمة الأهداف ما يلي:
• اكتساب المعرفة وتطوير مهارات التفكير النقدي والإبداعي مع التركيز على التفوق الشخصي.
• تشجيع الطلاب على أن يصبحوا متعلمين مستقلين وواثقين من أنفسهم.
• ترويج مفهوم التعلم على أساس أنها عملية متكاملة تدخل فيها الذاتية.
• تشجيع الانخراط النشط في خدمة المجتمع على المستويين المحلي والعالمي.
• المشاركة في تعلم الفنون وتقدير العناصر الجمالية في الحياة.
• تفهم واحترام اللغات والثقافات المختلفة.
• استيعاب الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة في المدرسة وتوفير ما يحتاجونه من برامج خاصة.
• استيعاب أنظمة المعلومات والتكنولوجيا في المناهج والتعليم.
• تطوير المهارات التعاونية من خلال النشاطات التعليمية.
• تشجيع احترام الذات والآخرين واحترام الطبيعة والبيئة المحيطة.
• تنمية الإحساس بالكرامة والمسؤولية الشخصية.
• تعليم القيم المتعلقة بالعيش الصحي السليم وتشجيع النشاطات الرياضية.
• توفير الفرص للنمو الاجتماعي والعاطفي.
• تشجيع الطلاب على أن يصبحوا أصحاب مسؤولية ومواطنين صالحين في المدرسة وفي المجتمع وفي العالم.
• إعداد الطلاب للنجاح في المرحلة التالية من التعليم الرسمي بما في ذلك الحصول على قبول في جامعات معروفة في العالم.
هذه قائمة من الأهداف ذاتها قد تتخذها منطقة تعليمية في ولاية ما أو مدرسة ما. وتعطى الحرية للمدرسة والمدرس في اختيار المقررات أو الكتاب الذي يناسب هذه الأهداف ويقوم بتدريسه وكذلك الحرية في اختيار الإستراتيجية والأسلوب الذي ينتهجه المدرس في الصف. وأخيرا هناك فارق كبير وهام في نظري ألا وهو عملية اختيار المدرس. ففي معظم بلداننا العربية يكفي أن يحصل المتقدم للتدريس أن يكون متخرجا من كلية ما ويتم تعيينه مدرسا في المادة التي يتم اختياره من أجلها. أما في النظام التعليمي في الولايات الأمريكية فيجب أن يكون المتقدم لمهنة التعليم أن يكون حاصلا على رخصة الولاية License إلى جانب تخرجه من كلية التربية واجتياز المقابلة.