هموم أمين مصادر التعلم لا أحد يسرق الكتب هذه الأيام!

على أغلفة الكتب المغبرة أخط خطوطًا متعرجة بسبابتي.. خطوطًا لا معنى لها، سوى أنني أتسلى مع الغبار بدلاً من الوحدة..
حين استلمت العمل أمينًا لمصادر التعلم كانت المكتبة شبه مهجورة لمدة طويلة، لدرجة أني توقعت أن أجد فيها عددًا من الجرذان، وكم تمنيت لو أن الجرذان قرضت جميع الكتب لأسجلها تالفة وأرتاح من هم تسجيلها، وتصنيفها على نظام ديوي العشري، وختمها بختم الملكية، والرقم العام وتكعيبها بالرقم الخاص!
رأيت في المنام ذات يوم أني أحرق بعض الكتب، لأتخلص منها ومن جردها، وتصنيفها، وترتيبها، وتسجيلها في برنامج اليسير الخاص بإدارة المكتبات.
كانت فكرة حلم جنونية، ولكنها أعجبتني، وملكت علي تفكيري، خصوصًا أنه لن يفتقدها أحد، وأنني قد قرأتها، ولا أحب أن أعيد قراءة كتاب قد قرأته من قبل، وأستغرب ممن يعيدون قراءة الكتاب عدة مرات بينما المطابع تلفظ كل يوم آلاف الكتب الجديدة..
ألم يقل إمرسن: كل كتاب يحرق ينير العالم؟؟
إذن سأحرق عددًا من الكتب، وأنير العالم!!
بعض الكتب مزوقة ومنمقة ومذهبة تشبه إلى حد كبير الطفل الصغير..يعجبك من بعيد، ولكن حين تقترب منه تشم رائحة حفاظه، فتصم أنفك، وتصيح: إفففف!!
أعترف لك أنني كنت أحب الكتب، كنت أقرأ، وأستمتع، وأشتري الكتاب بأي ثمن، ولا أعده خسارة، أما الآن فصارت الكتب مجرد وظيفة، مهنة، لا أكثر ولا أقل، أتعامل مع الكتب لأعيش، لئلا أموت، فصرت كشهرزاد التي يبقى بعيدًا عن رقبتها سيف مسرور السياف طالما استمرت في سرد القصص التي تسلي شهريار.
وأخوف ما أخافه أن تكون نهايتي تحت أنقاض الكتب كما حدث مع الجاحظ الذي لم يشفع له أنه كتب يومًا: الكتاب نعم الذخر والعقدة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الجليس لساعة الوحدة!!
غرفة المكتبة أو ما يسمى الآن بمصادر التعلم تتكون من غرفتين.. الأولى للعرض..وفيها أجهزة الداتاشو والسبورة الإلكترونية والفيديو والتلفزيون والكاميرا الوثائقية، والكمبيوتر والأوفر هيد بروجكتور.. والثانية فيها الكتب، وشبكة الكمبيوتر والخرائط والأوعية الإلكترونية.
تسمية موظف مصادر التعلم بأمين تجعل على عاتقه أمانة كبيرة بالفعل، ورغم الخلاف الدائر بخصوص هذه التسمية إلا أنه يجب أن يكون أمينًا لتتناسب معه هذه التسمية..
في إحدى المدارس بحث أمين مصادر التعلم عن جهاز التلفزيون في جميع أرجاء المدرسة، فلم يجده، وكأنه «فص ملح وداب»، وبعد بحث وتقص شديد مارس صاحبنا فيه دور المحقق كونان الذي أحبه كثيرا، اكتشف أن التلفزيون في غرفة العامل البنغالي، وبعد التحقيق معه اعترف بأن مدير المدرسة أعطاه إياها هدية مقابل أن يغسل سيارته طوال العام مجانًا!!
وفي مدرسة أخرى لم يعثر أمين مركز المصادر على أجهزة الكمبيوتر ولا على جهاز الداتا شو.. سأل عنه، وفتش، فلم يعثر على أثر.. سأل مدير المدرسة فأنكر أي معرفة له به.. ولأن حبل الكذب قصيّر كما يقولون في الأمثال، فقد أقام مدير المدرسة «عزيمة» في استراحته العامرة، وبالصدفة وجد صاحبنا جهاز الداتاشو معلقا في بيت الشعر في صورة رائعة للجمع بين الحضارة والأصالة!!
قال إيه؟؟ يحب سعادة المدير أن يتفرج على الدوري الأوربي على الجهاز!! صحيح اللي اختشوا ماتوا!!
وفي مدرسة أخرى بحث أمين مصادر التعلم عن خط الهاتف الخاص بمصادر التعلم من أجل تشغيل شبكة الإنترنت فلم يجده، وبعد بحث مضن اتضح له أن مدير المدرسة قد جعل خط هاتف المصادر خطًا ساخنًا لتتصل به زوجته في أي وقت دون أن تجد الخط مشغولاً لأن هناك أشياء جوهرية تهم الأمة لا يمكن تأجيلها مثل طلبات الغداء!!
السبورة الإلكترونية أو السبورة الذكية وهي ذكية بالفعل هي أروع شيء رأيته في غرفة المصادر، وتعطي لشرح الدرس جمالاً وسهولة لا يمكن وصفها، وتستطيع تسجيل الدرس والاحتفاظ به لعرضه مرة أخرى فيما بعد، ومع أن سعرها مرتفع قد يصل إلى أكثر من سبعة آلاف ريال إلا أن الوزارة وفرتها مشكورة لتعطي المعلمين مزيدًا من المرونة في الشرح وبعدًا عن الطريقة التقليدية باستخدام الأقلام والمساحة.
وجدت في مكتبة المدرسة في حدود خمس مئة كتاب، وهو عدد قليل جدا بالنسبة لمكتبة في مدرسة ثانوية، وكانت أولى مهماتي أن أدخل هذه الكتب في برنامج اليسير من أجل تصنيفها، وطباعة ملصقات تصنيف ديوي وملصقات الباركود من أجل تسهيل الجرد فيما بعد، وكنت في حاجة إلى إنشاء جماعة لمصادر التعلم من الطلاب الذين لديهم رغبة كبيرة في العمل من الصفر، وهذا ما كان بالفعل.
مشكلة ملصقات تصنيف ديوي أنها تشبه أرقام لوحات السيارات، حروف وأرقام، وكان البحث عن الحروف الخاصة بكل كتاب يستنزف وقتًا كبيرًا وجهدًا أكبر من أجل انتزاع الملصق من مكانه ووضعه على الكتاب. كنت في حاجة إلى أظفار طويلة، وإدارة المدرسة تحرص على تقليم أظفار الطلاب بشكل دوري لا تتمكن معه من النمو، وكنا نظل نردد طوال الوقت حروفًا مبهمة ج ع ف 210، ب ي م 883، ح م م 009وهكذا حتى انتهينا من الكتب الموجودة، فشعرنا بفراغ كبير، ولشد ما كانت فرحتنا حين طلب مدير المدرسة من الشؤون الثقافية بوزارة الإعلام تزويدنا بمجموعة من الكتب الوثائقية والتاريخية.
جدول إشغال المركز كان أسهل مهمة واجهتني خاصة أن كثيرًا من الزملاء المعلمين حريصون على تسجيل حصصهم قبل موعدها بأسبوع، ولم يكونوا يتخلفون عن مواعيدهم، ما جعل التأخر في التسجيل يعني أن الحصة قد تحجز من قبل معلم آخر.
أحد زملائي القدامى يعمل أمين مكتبة مدرسية قال لي متذمرا: زارني المدير في المكتبة، فقال لي: إن مواقع الأدراج والرفوف والخلوات وطاولات أجهزة الحاسب غير مناسبة، وأفضّل أن تغير أماكنها، فتضع طاولات الحاسب هنا، ورفوف الكتب هناك.
يقول صاحبي: قلت للمدير: سم طال عمرك. وحين بدأت العمل، عجزت عن تحريك طاولات الحاسب الضخمة- ومن جرب تحريكها على الطبيعة يعرف ما أعني- فناديت عمال المدرسة، ومنحت كلا منهم مبلغا من المال، فعجزوا عن تحريكها إلا بمساعدتي. وبعد أن رتبتها كما قال المدير زارني المشرف، فقال لي: الأفضل أن تضع الرفوف هنا، والطاولات هناك. وكان يشير إلى موضعها الأول قبل تدخل المدير. فوقعت بين حانا ومانا!!
وحانا ومانا هما امرأتان لهما قصة طريفة، تنطبق كثيرًا في المجال التربوي، وفي تعدد الزوجات وزواج المسيار أيضًا!!
عمال المدرسة الآسيويون الجدد يصلحون في أي مكان سوى المدرسة، لا يتحدثون العربية، ولا يجيدون أي نوع من أنواع التنظيف لا الكنس، ولا مسح الطاولات ولا الزجاج، ولا تنظيف الكتب من الغبار، ومع ذلك فبعد كل تنظيف لغرفة المصادر يطلبون مني مبلغًا من المال، وكأنهم نظفوا بيتي أو سيارتي مع أن هذا هو طبيعة عملهم.
مشكلة أمين مركز المصادر أنه لا يمكن التحقق من هويته فلا هو مدرس ولا هو إداري ومع ذلك فهو أشبه بالمراسل الذي يذهب بشكل شبه أسبوعي إلى المستودعات ليصرف ما هو جديد، وكأنه خفاش فلا هو بطير ولا هو بفأر. وكثير من مديري المدارس يظنونه موظفًا زائدًا، ولا يرتاحون حين يرونه جالسًا في مكتبه البائس بين الكتب والغبار بحجة أن « الإيد البطالة نجسة» وكل شخص في المدرسة يريد أن يستغل هذا الموظف لصالحه، والغريب أنه حتى عمال تحميل الأجهزة في المستودعات يطلبون « بقشيشا» مني كل مرة، وكأننا في إحدى الدول العربية وليس في السعودية، وكل مرة أعجز عن إفهامهم أن هذه الأجهزة ليست لي بل للمدرسة فأضطر إلى إعطائهم مبلغًا من المال، ويبدو أني سأسجل هذه المبالغ على حساب المدرسة!!
رزقت بمدير مدرسة متفهم ويحب العمل والتجديد ويهتم بتفعيل مركز المصادر لدرجة أنه أعطاني ميزانية مفتوحة لأشتري ما أشاء ويحاسبني على الفواتير لدرجة أني فكرت في أن أشتري سيارة جديدة وأحضر له فواتيرها.
يقول أحد أمناء مصادر التعلم: أقنعت عددًا من المعلمين بزيارة مركز المصادر واستخدام السبورة الإلكترونية، وبالفعل في اليوم التالي زارني أحد المعلمين واستخدم السبورة الإلكترونية في الشرح، ولكن بطريقة غريبة..فقد كتب عليها بقلم السبورة البيضاء العادي، وظللت لمدة نصف ساعة وأنا أمسحها!!
وروى أحدهم هذه القصة التي حدثت معه: زارني معلم عدة مرات ومعه أحد الصفوف، وفي كل مرة كان يترك طلابه في المكتبة عندي، ويقول لي: سأذهب لأحضر شاحن الجوال من السيارة، ثم يذهب ولا يعود، فعرفت نوع جواله واشتريت على حسابي شاحنا له حتى لا يبقى له عذر، وانتظرت بفارغ الصبر حتى زارني وطلابه، وحين وجدته بدأ يتململ أخرجت الشاحن له وقلت: أعتقد أنك تبحث عن الشاحن. فقال: لا ولكني نسيت جوالي في السيارة، وسأذهب لإحضاره!! وخرج ولم يعد!!
أفضل ما في العمل مع الكتب أنه لا أحد يفكر في سرقتها، فلو تركت باب المكتبة مفتوحا لعدة أيام فلن تجد كتابا ناقصا لأنه لا أحد يرغب في سرقة كتاب هذه الأيام.
في إحدى المرات نسي أحد زملائي أمناء مصادر التعلم باب غرفة المصادر مفتوحًا، وفي اليوم التالي اكتشف سرقة جهاز العرض الداتاشو!! ألم أقل لكم لا أحد يسرق الكتب هذه الأيام؟!
أكبر مشكلة تواجه أمناء المصادر هي خلافات الزملاء في شغل حصص المركز، فأحيانا يطلب اثنان أو ثلاثة زيارة المركز في نفس الحصة، وهنا لا بد أن يتنازل أحدهما للآخر أو تجرى القرعة بينهما.
مشكلة أخرى تواجه أمناء المصادر وهي التهميش، فكثير من المعلمين لا يعرفون اسمه، ولا عمله، والطلاب كذلك، وتفوته كثير من الدورات والتعاميم الصادرة عن إدارة التعليم لأنه لا يجلس غالبا مع المعلمين، بل حتى كثير من اللقاءات التعريفية في مركز تقنيات التعليم لا يخطر بها، وهذه مشكلة يعاني آثارها مشرفو تقنيات التعليم أيضًا. أضف إلى ذلك مشكلة أخرى وهي أن موظف المصادر لا يستطيع أن يعمل في المدارس الليلية، مع أن المدارس الليلية في حاجة ماسة لتوظيف غرفة مصادر التعلم من أجل تسهيل شرح الدرس بالنسبة لكبار السن. أحد الزملاء يقول: أجد غرفة المصادر وقد اختلف ترتيبها في الصباح عنه بالأمس، وحين سألت المدير أخبرني أن بعض معلمي الفترة المسائية يأخذون منه المفتاح ويستخدمون غرفة المصادر ليلاً، وهذه فكرة رائعة للغاية، ولكن ينقصها أن يفتح المجال لأمناء مصادر التعلم بالعمل مساء لتفعيل مركز المصادر في الفترة المسائية أيضًا في المدارس التي بها دراسة مسائية.
جاءني أحد الطلاب ذات يوم فقال: أستاذ..هل يوجد إعارة؟ قلت: نعم. فقال: أريد أن أستعير جهاز الداتا شو لأشاهد عليه فيلما أمريكيا!!
وفي إحدى المكتبات أخذ أحد الأطفال المزعجين يرفع صوته مزعجا رواد المكتبة، فقال له أمين المكتبة: لو سمحت اخفض صوتك فالجميع لا يعرفون القراءة!!
فقال: إذا كانوا لا يعرفون القراءة فلماذا يأتون إلى المكتبة؟!
ختامًا.. فلا زلت أحلم باليوم الذي أجد فيه في كل مركز مصادر تعلم خط دي إس إل وشبكة إنترنت هوائية مفتوحة، وكل ما على الطالب وأيضًا المعلم أن يحضر جهازه المحمول، ويجلس في أي ركن من المدرسة أو حتى في صفه، ويصله الإرسال وهو هناك، ولن يظل ذلك حلمًا لأن بوادره بدأت تتحقق الآن على أرض الواقع خاصة أن الوزارة تهتم كثيرا بنشر التعليم الإلكتروني في ظل مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية