لم يكن أحد يغني لنا: يا أطفال يا حلوين اشربوا الحليب
هذه القصة راقتني كثيرًا، وربما تروق للمعلمين أيضًا، ومع أنني لم أعد معلمًا إلا أنني ما زلت أحمل الهم التربوي ولكن..على طريقتي الخاصة!
هذه خرافة من خرافات إيسوب، ومن لم يقرأ هذه الخرافات التي يبلغ عددها 203 خرافات، فلا يتعب نفسه بالبحث عنها، فهو لابد قرأها يومًا، لأن جميع مقررات اللغة العربية تسرق منها بدم بارد، ودون أن تشير حتى إلى ذلك، وأنا الآن سأسرق هذه القصة أيضًا، ولكن على طريقتي الخاصة أيضًا!
«في يوم من الأيام سرق تلميذ كتابًا من أحد زملائه في المدرسة وجلبه إلى البيت. وبدلاً من معاقبته، شجعته أمه، واعتزت بفعلته.
وبمرور الأيام صار الولد شابًا، وراح يسرق أشياء ذات قيمة كبيرة، حتى قبض عليه متلبسًا بجرم السرقة، وحكم عليه بالموت.
وبينما هو في طريقة إلى حبل المشنقة، شاهد أمه تندب وتنوح بين الحشود، فرجا العسكر أن يسمحوا له أن يهمس لها بكلمة أخيرة. فلما وضع شفتيه عند أذنها عض على شحمة أذنها بكل قوة حتى قطعها!
صرخت الأم بكل قوتها، وأخذ الجميع يوبخون الابن العاق على تصرفه فرد عليهم: إنها سبب هلاكي.. لأنها لو ضربتني حين سرقت كتاب زميلي لما تماديت في السرقة!».
والآن بعد هذه الحكاية اقتربوا مني قليلا..لأهمس في آذانكم، ولا تخافوا..فلن أعض أذن أحد منكم، لأنني أولاً لست «مايك تايسون»، ولستم «هوليفيلد»، وثانيًا لأن طبيب الأسنان نصحني بالابتعاد مسافة قصر عن اللحوم الحمراء: يا جماعة.. الطفل يولد بلا ضمير. والضمير لا ينمو إلا بالعقاب.. أكرر..الضمير لا ينمو إلا بالعقاب!
• لا أتذكر أن والديّ كانا يقدمان لنا دروسًا ومواعظ حول الأخلاق الحميدة، عدا بعض الأساسيات مثل: «لا تأكلوا وأيديكم متسخة»، و«لا تدخلوا أصابعكم في أنوفكم»، و«لا تلعبوا في وقت المغرب» (حتى لا يدخلون فيكم أهل الأرض)، وأهل الأرض هم الجن طبعًا.
ومن النصائح أيضًا «لا تصفّروا (من الصفير) وقت المغرب حتى لا تأتيكم العقارب. ولم يكن أحد يغني لنا: يا أطفال يا حلوين..اشربوا الحليب»، ومع ذلك كنا نشرب حليب الماعز يوميًا، لدرجة أن «المهاتما غاندي» يبدو مصابًا بهشاشة العظام مقارنة بعظامنا!
• والآن يبدو لي أن أجل تربية قدمها والدي لنا هي تركنا نتعلم بأنفسنا، من الطبيعة، ومن الحياة. كنا نخرج من المنزل لساعات دون أن يسأل عنا أحد سوى في أوقات الأكل والنوم، وأحيانًا حين يتعطل الباص في أيام الدراسة كنا نذهب سيرًا على الأقدام إلى منزل أحد أقاربنا نظرًا لبعد منزلنا، ولم يكن لدينا حينها هاتف ولا جوال، وكنا نبقى عندهم إلى العصر دون أن يجزع أحد من سبب تأخرنا!
ومن أطرف ما أذكر أننا سمعنا يومًا عن مشروع سفلتة طريق جديد يبعد عن منزلنا عددًا من الأكيال، فحمل كل منا في جيبه بيضة دجاج، واتجهنا إلى موقع العمل، وبدأنا نحفر الإسفلت قبل أن يرصف، وندفن البيض فيه، وننتظر حتى ينضج سلقا، فنأكله بنكهة النفط!
ولم يكن والدي يمنع أصدقاءنا من زيارتنا، ولعب الكرة أحيانًا، أو العمل معنا في المزرعة، عدا شخص واحد وهو قريب لي كان يحب المرح واللعب والحديث، ويكره العمل مثل الجندب الذي في قصة الجندب والنملة، وكان يلهينا عن أعمال المزرعة، لدرجة أن والدي أطلق عليه لقب «ملهّي الرعيان» وهذا اسم طائر بري، عندما يراه الراعي يطارده ليصطاده، فيهرب إلى أقرب مكان ثم يتوقف، فيطمع الراعي بالإمساك به مرة أخرى، وهكذا حتى يضيع القطيع!
• في طفولتي كنت عينًا لوالدي أخبره بأخطاء الجميع، لدرجة أن إخوتي صاروا يلقبونني بـ«الرادو» أي المذياع، وأحيانًا كنت عن حسن نية أنقل أخطاء الجميع.
ومن ذلك أن أخي الأكبر تعلم قيادة السيارة حديثًا، وصرنا نذهب معه في سيارة والدي ونركب في حوض السيارة «الوانيت» وكان يسير بسرعة كبيرة كأي شاب جديد في القيادة. وفي يوم اكتشفت نظرية لم يسبقني أحد إليها، وهي شبيهة بالنظرية النسبية، وهي أن الأشجار وأعمدة الكهرباء، وجذوع النخل تمر بسرعة حين يقود أخي السيارة، ولكن حين يقود أبي تكون شبه ثابتة! وبالطبع أخبرت والدي باكتشافي الجديد، والذي بدوره جلد أخي عقابًا له على السرعة، وأخي بدوره وبدلاً من أن يسجل لي براءة اختراع سجل على جلدي براءة عشر جلدات!
• كل الآباء (وأنا منهم) يقولون لأبنائهم من باب التشجيع إنهم كانوا يحصلون على الترتيب الأول عندما كانوا في طفولتهم على مقاعد الدراسة، وباستطاعة أي طفل اكتشاف كذب والده بسؤال بسيط هو: إحم إحم.. طيب يا أذكى بابا في الدنيا.. من الذي كان يحصل على الترتيب الثاني؟!!
• بدأت حياتي العملية معلمًا، ومن أول يوم لي في التعليم (وهذه حال كثير من المعلمين الفاشلين مثلي)، فكرت جادًا بالهرب منه إلى شيء آخر، مع التمتع بميزات المعلمين من حيث الراتب والإجازة.
في البداية كانت جميع الشروط لا تنطبق علي وكأنني البطة السوداء القبيحة.. ليس لدي خدمة، ولا خبرة، ولا دورات، ولا واسطات، ولا يحزنون.
والآن كثير من الشروط لم تعد تنطبق علي لأنني تقدمت في العمر، وأقرب مثال على ذلك دراسة الماجستير التي لا يقبل فيها من تجاوز الأربعين!
يا عالم.. الأربعين التي يتغنى بها الشعراء، ويبعث عندها الأنبياء.. يا جماعة..كهل يريد أن يكمل تعليمه، ولم يأت ليخطب غانية ليكمل نصف دينه.. ماذا في ذلك؟! يا جماعة..لا تقولوا: «لما شاب دخّلوه الكتّاب» لأن هناك فرقا شاسعًا بين الكتّاب والدراسات العليا.
• يا لطيف..لم أصدق عيني حين رأيت نشيد «بلادي» في مقرر القراءة والكتابة والأناشيد للصف الأول الابتدائي.. والذي تقول كلماته:
«بلادي بلادي ما أحلاها
بلادي بلادي أنا أهواها»
ولا بد أنكم تذكرتم الباقي.
أذكر أنني حفظت هذا النشيد عن ظهر قلب أو عن ظهر عقل على الأصح لأن العقل ـ كما أفهم ـ هو مركز التفكير والذاكرة وليس القلب.. والخلط بينهما عائد إلى خلط أطباء اليونان قديمًا بينهما.
هذا النشيد حفظته من كتاب الهجاء عام ألف وثلاث مئة وخشبة..
ومع أنني أؤمن بمقولة: «من فات قديمه تاه»، ومقولة: «قديمك نديمك لو الجديد أغناك» والتي توجد عادة على علب الثقاب القديمة إلا أنني أؤمن بمقولة أخرى هي: «يعني ما في البلد إلا ها الولد؟!».
• أمي تطبخ الطعام، وأختي تساعد أمي. وضعت أمي الطعام على السفرة. وحين بدأنا الأكل قال أبي: باسم الله..
هذا الدرس في كتاب القراءة للصف الأول الابتدائي عنوانه «التعاون».
يبدو لي أن التعاون في هذه القصة لم يظهر إلا في الأكل فقط! وحتى لا أكون كاذبًا فقد تعاون الجميع على نقل الصحون إلى المطبخ وليس غسلها، لأن الطبخ والغسيل من عمل النساء فقط، والأكل من عمل الرجال!
تعزيز فكرة أن الرجل يكون متعاونًا حين يأكل فقط دون أن يطبخ أو يشارك في غسل الصحون أعتقد أنه ثقافة مجتمع لا يمكن تغييرها، وكثير منا حين جرب حياة العزوبية استطاع الاعتماد على نفسه في مسألة الطبخ، وجلي الصحون، والبعض فشل في هذه المهمة.. فترك الجامعة أو أدمن المطاعم، أو أصيب بسوء التغذية.
أذكر أن أحد زملائنا في الجامعة كان يعتمد على نفسه في إعداد الإفطار قبل الانطلاق إلى الكلية، فكان يصحو مبكرًا، ويغلي الماء في إبريق الشاي، وبالمرة.. يضع بداخله بيضتين طازجتين، وبينما يغلي ماء الشاي، تكون البيضتين قد استوتا، فيقوم بإخراجهما، ثم يضيف السكر والشاي إلى الماء الذي سلق فيه البيض، ويتناول البيض، ويحتسي الشاي هنيئًا مريئًا..
وكان يقول: لماذا الإسراف في الماء؟! ماء للبيض، وماء للشاي..كمية واحدة تكفي.
الطريف أنه كان يدرس في قسم الاقتصاد والعلوم الإدارية.
زميل آخر على عكس السابق، كنا نجبره أحيانًا على إقامة وليمة فول وشاي على شرفنا، فكان يشتري علب الفول المدمس، وبعد أن يطبخها، ونأكلها، وتنتهي الحفلة، يقوم برمي القدر في سلة النفايات بدلاً من غسله!
• تعودت عندما أجد حرف الدال قبل اسم أي شخص أن أسأل بفضول: هل حصل على هذا الحرف قبل المنصب أم بعده؟
لأن الحصول على الدال قبل المنصب أمر في غاية الصعوبة، أما بعد المنصب فالمسألة قطعة كعك أو كما يقولون: piece of cake أو كما يقول العوام: «شرب ماء».
لكن ما رأيك في شخص حصل على الدكتوراه قبل تخرجه من الجامعة، وتحديدًا في السنة الأولى ؟
هذا أحد زملاء الجامعة كان يحمل معه مخطوطات جده عالم النحو، كان قد ألفها قبل وفاته، وبعد دراستنا لمادة البحث والمصادر بدأ يحقق مخطوطات جده ويرسلها إلى إحدى الصحف، فيرسلون له المال عن طريق حوالة بنكية باسمه، ولكن زميلنا في السنة الأولى في قسم اللغة العربية، (والذي لم يربه والداه على الصدق ربما)، كان يفضل أن يكتب قبل اسمه حرفًا واحدًا صغيرًا جدًا جدًا هو حرف «د»، ولسوء حظه، ولأن «الله يمهل ولا يهمل»، فقد أخبر الصحيفة أنه يعمل أستاذًا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فقامت الصحيفة بإرسال رسالة إلى الدكتور المنتظر على عنوان الجامعة، ووقعت الرسالة في يد رئيس القسم، ولأنه كان يعرف الدكتور المزعوم تمام المعرفة فقد استدعاه، ووبخه على انتحاله شخصية دكتور وهو لا يزال في السنة الأولى، ودعا له بالشفاء العاجل!
• آآآه.. ثم آه.. لو كنت مسؤولاً عن اختيار المعلمين، واختبار كفاءات التدريس لجعلت من أهم شروط قبول المعلم أن يكون قد سبق له رعي الغنم! نعم الغنم..الخراف والشياه والمعز..
أما لماذا؟ فلأن رعي الغنم يعلم الصبر والأناة والتحمل، كما يعلمك أحدث النظريات التربوية، وهي تدور غالبا حول شيء واحد هو: كيف تسيطر على أفراد القطيع الذي يمثل مصدر رزقك، ومحور العملية الرعوية، بدون أن تعنف أيًا منهم؟
وكثير من الرسل رعوا الغنم، وكثير من الأدباء والشعراء قاموا بذلك، وليس ذلك عيبًا، وكثير من معلمينا رعوا الغنم، أو على الأقل ربوها في حظائرهم كما أذكر.
والأخطل الصغير (بشارة الخوري) كان يربي بقرة، ويعلفها، ويهتم بها، وقد كتب في مذكراته:
«بينما أنا أتفقد بقرة لي إذا بالروائي طانيوس عبده يطل علي ضاحكا وهو ينشد:
عهدتك من قبل ترعى البشر
فما بالك اليوم ترعى البقر؟!