من يطارد أرنبين لا يمسك أحدهما
أنا فاشل.. نعم أنا فاشل.. وأقولها بالفم الفارغ وليس المليان، لأن الفم المليان لا يستطيع التحدث أصلاً.. ولذلك يقولون: «في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟!»
وأكبر دليل على فشلي أني عجزت عن إرسال هذا الموضوع عن طريق الإيميل عدة مرات.. فاضطررت لإرساله عبر الفاكس الذي لا أجيد استخدامه. حاولت عدة مرات.. فكانت الورقة تدخل ثم تخرج لي مرة أخرى.. فأتصل برقم المجلة مرة أخرى، وأرسل الورقة فتدخل ثم تخرج.. «هاه.. عجيبة» كررت العملية عدة مرات إلى أن أخبرني أحد المختصين في شؤون «الفاكسات» أن خروج الورقة مرة أخرى لا يعني عدم وصول الرسالة.. وأخذ يضحك علي.. فضحكت على نفسي لأنني كنت أعتقد أن الرسالة ستدخل «الفاكس» وتخرج بشحمها ولحمها في المجلة مباشرة.. وتيقنت أنني فاشل فعلاً، ولكن من يدري فربما يخترع العلماء فاكسًا ينقل الورقة نفسها يومًا ما، وأحصل بذلك على براءة اختراع له!
أحيانًا أشعر أن حياتي مثل (القيوط) الذي يطارد «رود رنر ???? ??????» أو عداء الطريق، أو ما كنا نسميه صغارًا «بيب بيب». وهذا القيوط دائمًا ما تنتهي كل ابتكاراته الرائعة للقبض على بيب بيب بالفشل، ورغم أنه لا يألو جهدًا في سبيل تطويرها.. يريد أن يسقط صخرة على بيب بيب فتسقط على أم رأسه، يريد أن يمسك به فيصطدم بشاحنة، يريد أن يفجره فتنفجر القنبلة فيه!
والغريب أن هذا المسلسل الكرتوني ممنوع من البث في اليابان لأنه يسبب الإحباط لدى الأطفال، ويغرس فيهم الانهزامية لأنهم يرون أن الذي يخطط ويفكر وهو القيوط لا يخرج بنتيجة بل على العكس تنقلب خططه كلها ضده.
وقرأت يومًا أن أطفال أمريكا قدموا اعتراضًا أيضًا على هذا المسلسل.. واسم المسلسل بالإنجليزية to beeb or not to beeb» وهو مأخوذ من مقولة في مسرحية هاملت لشكسبير to be or not to be ومعناها أن أكون أولا أكون.. وأنا ليس بصفتي تربويًا ومعلمًا مخضرمًا فقط بل بوصفي أحمل في داخلي طفلاً كبيرًا، أطالب التلفزيون السعودي وقناتي المفضلة «سبيس تون» بعدم بث هذا المسلسل إلا بعد أن أكون أنا وابني الصغير وائل نائمين.
حتى الآن رغم تقدمي في العمر ما زلت أذكر قصة «القرد الفاشل والنجار» في مطالعة الصف الثاني الابتدائي، حين حاول القرد تقليد النجار فأطبقت الأخشاب على ذيله فبقي يصرخ مكانه حتى جاء النجار فضربه فكان ما لقيه من النجار أشد مما لقيه من الأخشاب. وأذكر أنني أصبت بخوف شديد من التعامل مع كثير من أدوات العمل في مزرعتنا بعد قراءة القصة.. وربما أنت حتى الآن تخاف استخدام بعض الآلات مثل المثقاب أو مفرمة اللحم أو المنشار الكهربائي بدون سبب مبرر، مما يعني أن المسألة هي مجرد «فوبيا» أي خوف غير منطقي سببه غالبًا حادث أو قصة أو خبر نسيته في مرحلة الطفولة المبكرة.
وقد عُدلت نهايات عدد من القصص التي وردت في كتاب المطالعة لتكون منسجمة مع روح العصر لأن أغلبها قصص قديمة موجهة للكبار من «كليلة ودمنة» أو من «خرافات أيسوب» وهو فيلسوف يوناني أو من قصص «لافونتين» الفرنسي والتي حول بعضها أحمد شوقي إلى أناشيد، وأشهرها الغراب صاحب الجبنة الدانماركية والثعلب. ومن بين تلك القصص قصة القرد والنجار.. وأصلها من «كليلة ودمنة» فقد غيرت نهايتها بحيث إن القرد قفز على الأخشاب وأخذ يعمل بجد فلما عاد النجار أعجب به، وأعطاه موزة من موز «الشربتلي» قال له: من الآن فصاعدًا ستكون مساعدي الأول يا قردي العزيز.
بدأت حياتي مع الفشل مع أولى محاولاتي لدخول عالم المال والأعمال أو «البزنس» عن طريق بيع الدوم.. نعم الدوم ما غيره، أو العبري أو الكين.. أو ثمرة شجرة السدر. كنت أحمل معي كمية الدوم التي أجمعها من مزرعتنا إلى المدرسة الابتدائية بناء على طلب بعض رفاق الصف، الذين يشترون الكيس الصغير بريال، والكبير بخمسة. بدأ الجميع يطلب.. ونجح المشروع.. حتى دخل ذات يوم الأستاذ عبدالله (الله يعطيه طولة العمر) الصف فشم رائحة الدوم.. وشاهد بذوره ملقاة على أرض الصف، فسأل بغضب: من الذي يجلب الدوم في المدرسة؟
فأشارت أصابع الجبناء - عليهم من الله ما يستحقون - إلى الوكيل الوحيد المعتمد للدوم في مدرسة تحفيظ القرآن الكريم، ضربني الأستاذ حتى كاد يغمى علي، وتوقف المشروع بدون خسائر والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!
فشلت ولكني تعلمت درسًا من هذه التجربة تعلمت أن المكاسب غير المشروعة لا تثمر، وتعلمت أن الأخبار السيئة تنتشر بسرعة، وتعلمت أن التاجر يولد من رحم أمه تاجرًا.
قررت أن أنتقل إلى تربية الطيور، فعملت في تربية الحمام، وكسبت مكاسب جيدة. وكنت أبيع الزوج بعشرين ريالاً، ولكن الحظ السيئ لا يترك أصحابه، فقد تعرفت القطط الضالة (بمزيد من الأسى والحزن) على موقع تربية الحمام، فبدأت بافتراسه ورغم أنني اقتصصت من هذه القطط لتكون عظة وعبرة لكل من تسول له نفسه الاقتراب من طيوري المدللة، إلا أن قيمة مبيعات الحمام (مع الأسف) لم تعد تغطي قيمة مصاريف إعاشته ففشل المشروع طبعًا!
فشلت ولكني تعلمت أن للقطة تسع أرواح، وأن من لا يفشل لا يفعل شيئًا، وأنه لولا الأمل لانفطر الفؤاد.
دائمًا يردد رجال الاقتصاد والمال والأعمال هذه المقولة: Don't Put all your eggs in one basket? أي لا تضع كل البيض في سلة واحدة وأما أنا فكنت أردد: إذا كانت الدجاجة الواحدة تبيض بيضة واحدة، فمعنى ذلك أن عشر دجاجات سيبضن بلاشك عشر بيضات.. طبعًا بوجود ديك حتى لا تنشأ (الفراخ) يتيمة الأب!
اشتريت بنقود الحمام قطيعًا من الدجاج البلدي، وبدأت أجمع البيض وأبيعه، وأحيانًا كنت أقنع الدجاجة أو الديك (بحب المناقير) بالبقاء فوقه حتى يفقس، فازداد القطيع، وبدأت أبيع الدجاج أيضًا، وشعرت بأنني يومًا ما سأنافس دواجن «الأخوين» وبيض «سهباء» ولأن الديوك عديمة النفع، فقد كنت أبيعها لأول مشتر. وغالبًا ما يكون من الفلبينيين أو كما كنا نسميهم «الكوريين» هواة مصارعة الديوك الحرة، ومن خلال هذه الفترة حللت معضلة الجدل البيزنطي المشهورة وعرفت أيهما أسبق الدجاجة أم البيضة.
بالطبع، لم أخبر أحدًا حفاظًا على أسرار المهنة، ولم يكتشف العلماء أن الدجاجة تسبق البيضة إلا قبل سنة تقريبًا، ولكنهم حتى الآن لم يعرفوا أيهما أسبق: الدجاجة أم الديك؟
وأنا وحدي عرفت ذلك قبل عقود من خلال التجربة العملية. تود معرفة التجربة؟ بسيطة؛أحضرت ديكًا ودجاجة وقمت بمطاردتهما فتمكنت من الإمساك بالديك أولاً، وبذلك اكتشفت أن الدجاجة أسبق من الديك!
وذات ليلة سوداء قضى كلب متوحش واحد على قطيعي الصغير ومزقه شذر مذر!
نعم، أعترف بأنني فشلت في تربية الدجاج، ولكنني تعلمت من هذه التجربة أشياء كثيرة، تعلمت أن دجاجة الشخص سيئ الحظ مثلي تصبح ديكًا، وأن ديك الشخص المحظوظ يبيض! تعلمت أن الديك الذي يستيقظ مبكرًا يفوز بالدجاج، وأن الدجاجة التي تستيقظ مبكرًا تفوز بالدودة، وتعلمت أن بيضة في اليد خير من عشر بيضات في مؤخرة الدجاجة. وأن الدجاجة تقيق في مكان وتبيض في آخر، وأن العاقل لا يعد فراخه قبل أن يفقس بيضها. وتعلمت أيضًا أن الكلب يبقى كلبًا.. وخاصة حين يأكل دجاجك.. وتعلمت ألا أستل سلاحي لأقتل كلبًا.. وتعلمت أن بيضة اليوم خير من بقرة البارحة.. وتعلمت الكثير الكثير.. والحقيقة أنني صرت حينها فيلسوفًا صغيرًا أمارس فعل التفلسف، لأن الفلسفة هي البيضة الذهبية التي تخرج من رحم الدجاج.. عفوًا أقصد المعاناة، ولا علاقة للفلسفة بالعمر لأنه كما يقال: «الشوارب لا تصنع فيلسوفًا!».
وذات يوم عرفت من عامل المزرعة «صبري محمد أحمد سليم موسى بحيري» أنهم في مصر يسمون المليون جنيه أرنب.. ولأنني أحلم أن أكون من أصحاب الأرانب.. انتقلت إلى مهنة تربية الأرانب!
الأرانب تتوالد بسرعة كما تعلمون. بدأت بما كسبته من تربية الدجاج وثمن ديك صغير وجدته مختبئًا بعد أن كسر الكلب ساقه فأخذ يعرج، واشتريت زوجين من الأرانب وماهي إلا أيام حتى بدأت بالحفر والتوالد.. و«هات يا أرانب» و«هاتك يا فلووووس» تكاثر وبيع وشراء.. على طريقة متوالية الأرانب أو متوالية «فيبوناسشي». والذين خسروا في الأسهم يعرفون هذه المتوالية جيدًا!
وهي بهذا الشكل: في الشهر الأول زوج واحد، وفي الثاني زوجين، وفي الثالث ثلاثة ثم خمسة ثم الشهر الذي يليه ثمانية ثم 13 ثم 21 ثم 43... وأنا لم أبدأ بزوج بل بزوجين، ولذلك اضرب في اثنين وعليك الحساب.
أشهر قليلة حتى جاء التصحيح الحاد أو الانهيار العظيم في فصل الصيف، ونتيجة الحر والمرض انتقلت جميع الأرانب في يوم واحد إلى بارئها، وكدت في ذلك اليوم أدخل مصحة نفسية.. لولا أنه - ولله الحمد - لا يوجد عندنا أصلاً مصحات نفسية في قريتنا!
نعم فشلت بكل أسف، ولكني بكل فخر تعلمت من تجربة الأرانب أن من يطارد أرنبين لا يمسك أحدهما، وتعلمت أن نصف رغيف خير من فقدان الخبز كله، وتعلمت أن الذين يضحكون في الصباح هم أنفسهم الذين يبكون في المساء، وتعلمت أيضًا (وهذا هو الأهم) أن الثروة تقبل زاحفة كالسلحفاة، ولكنها تفر قفزًا كالغزال!
وانتقلت إلى تجربة أخرى.. هي مدرسة بحد ذاتها! بعد وفاة والدي انتقلت إلى حرفة أخرى وهي بيع البرسيم في سوق «هايبرماركت» مخصص للبرسيم، حقيقة إنه لم يكن «هايبرماركت» بل كان مجرد برحة.
المهم.. أوقفت السيارة «هايلكس 79 غمارة» وبدأت بيع الربطة الواحدة بثلاثة ريالات، وما هي إلا دقائق حتى وصل معلمنا في المرحلة الابتدائية الأستاذ «حسن» معلم اللغة العربية - أمد الله في عمره - الذي أكن له كل احترام وتقدير، طلب مني أن أقدم له خصمًا، فقلت له: «يا الله عشانك.. بريالين.. ومن علمني حرفًا قدمت له خصمًا».
فأخذ الأستاذ حسن يصيح.. بأعلى صوته على جميع زبائن السوق: «تعالوا اشتروا من الطيب.. من مزرعة المرحوم.. بريالين بس!».
تقافز الجميع.. وانتهت البضاعة ولكن بثمن بخس (مع الأسف) وعدت إلى المنزل فجلدني أخي الأكبر على تصرفي الأرعن، ولم يعد يسمح لي بالبيع!
تعلمت من هذه التجربة أن البيع والشراء لا يعرفان والديهما، وأن مهنة جيدة أفضل من ميراث وفير، وأن من لا يعلم ولده مهنة فهو يعلمه السرقة، وتعلمت أنه حتى أمهر الحدادين يصيب إصبعه أحيانًا، وأن من يتردد بين مسجدين يرجع بدون صلاة!
وأخيرًا، هذه فلسفة بحد ذاتها تغني عن الفلسفة السقراطية، الديكارتية، والبراجماتية، والماركسية، والهيجلية، والأنطولوجية، والفنومنولوجية.. تعلمت أن حفنة من الحظ خير من كيس مملوء حكمة وفلسفة وسفسطة!