كان (مارك توماس) طالباً مجداً بفضل تشجيع والديه المسنين له، ونتيجة معاناتهما مع أمراض الشيخوخة فقد قرر أن يتخصص في علم يفيد منه في مساعدتهما وغيرهما من المسنين.
درس الأحياء النباتية، وتخصص في دراسته في الأحياء المعمرة، وأثناء دراسته توفي والده، ورغم حزنه الشديد فقد أصر على إكمال بحوثه ومشاريعه حول الموضوع حتى عثر على ضالته في حيوان الميدوسا البحري المعمر الذي يتجدد شباب خلاياه كل فترة.
بدأت التجارب على الفئران ثم الحيوانات الأليفة من أجل إطالة أعمارها من أجل وفرة إنتاج الحليب لدى الأبقار وإنتاج البيض لدى الدواجن، وبعد نجاح كثير من التجارب قرر العلماء أن يدخلوا الإنسان في الموضوع.
**
كانت الفكرة مادة تحقن تحت الجلد تساهم في تجديد الخلايا وتعيد للإنسان شبابه، بعدها استطاع الناس وبتعاون مع الحكومات والدول العظمى والجمعيات الخيرية والهيئات والمنظمات الصحية أن يوفروا المصل لجميع سكان العالم في كل الدول النامية وغيرها، فصار جميع الناس يتمتعون بالشباب والنشاط منذ طفولتهم حتى يبلغوا مئات السنين دون تغير في أشكالهم نحو الشيخوخة ومظاهرها من صلع وشيب وضعف وغيره، واختفت أمراض الشيخوخة بشكل كامل.
كانت هذه نعمة عظمى للرجال والنساء ولكن مع تقدم السنوات تزايد عدد سكان الأرض بشكل مخيف ووصل إلى عشرة أضعاف عددهم الحالي، لم يكن أحد يموت نتيجة تقدم العمر، وكانت النساء يتمتعن بقدرة على الإنجاب بلا حدود، ما استدعى الحكومات إلى وضع حل لهذه المشكلة.
اجتمعت أعظم الهيئات العالمية لوضع حد للإنجاب، وتم إجبار الجميع رجالاً ونساءاً على استخدام حقن وأدوية منع الإنجاب التي تم تطويرها بحيث تبلغ قوتها أضعاف الموجودة حالياً.
وحينها بدأ عدد الأطفال في التناقص، وبعد سنوات ألغيت مرحلة رياض الأطفال لأنه لم يعد هناك أطفال، ثم ألغيت الصفوف الأولى من المدرسة حتى انتهت مراحل الدراسة العادية ولم يبق سوى الجامعة وطلابها.
لم يعد هناك طفل في الشوارع ولا الحدائق ولا البيوت، وصار إنجاب طفل مخالفة يعاقب عليها بالسجن والغرامة، وإجهاض الطفل وهو في بطن أمه.
واختفت برامج تعليم الطفل والكرتون من القنوات ودور السينما، وتوقفت مصانع الحلوى وخسر بعضها، وحتى مصانع ملابس الأطفال تحولت لصناعة ملابس الكبار، وأطباء الأطفال غيروا تخصصاتهم إلى أخرى، واختفت قصص الأطفال من على رفوف المكتبات، ومصانع الألعاب خسرت وأقفلت أبوابها.
مصانع حليب الأطفال والرضاعات اختفت تماما، ولم يعد أحد يراها سوى في المتاحف.
والبيوت صار يعيش بداخلها أجيال كبيرة من العائلة، الأب والجد وجد الجد والأم والجدة وجدتها، ولم يعد هناك من فوارق في طريقة التفكير بين الأب وابنه والأب وجده، فكثرت المشاجرات التي تدور داخل البيوت والشوارع وصارت الأعمار تتجاوز المائتي سنة، وكثرت حالات الانتحار نتيجة الملل من الحياة، ولم يعد أحد يتعجل الزواج من الرجال والنساء لأن العمر أمامهم مديد وقد يفكرون بالزواج بعد تجاوز المائتي عام.
بعد سنوات من التوقف عن الإنجاب بدأ عدد سكان العالم يقل تدريجياً، ونتيجة بعض الحروب والصراعات على الموارد المائية والغذائية فقد قتل العديد من الناس، ونتيجة بعض الأوبئة الجديدة التي انتشرت في بعض الدول النامية فقد مات عدد كبير أيضا وانتقل المرض إلى الدول المجاورة.
بدأ عدد السكان يقل تدريجياً، وأخذ الجنس البشري ينقرض تدريجياً، فقررت الهيئات العالمية والدول الكبرى وضع حد لهذا التناقص المستمر عن طريق السماح للنساء بالولادة دون عقاب مع إعطاء مكافآت مجزية للأم والطفل.
كان العرض مغرياً فتوقف عدد كبير من النساء والرجال عن تعاطي موانع الحمل، واستمر التوقف سنوات طويلة دون جدوى ما جعل البشرية تدق ناقوس الخطر بالفعل لأن الجنس البشري لم يعد قادراً على الإنجاب بعد توقف طويل وتعاطي الموانع القوية، وربما تغير في الصفات الوراثية لدى عدد كبير من الناس بالإضافة إلى أن الكثير من النساء لم يعدن يقدسن الحياة الزوجية ولم يعد الإنجاب من أولوياتهن الحياتية.
خضع عدد كبير من الرجال والنساء للفحوصات الطبية وتنشيط الحيوانات المنوية لدى الرجال وعمليات إخصاب اصطناعية دون جدوى.
اكتشف العلماء بعد فحوصات مخبرية أن حقنة إطالة العمر لها أعراض جانبية من ضمنها العقم لدى الرجال والنساء بعد مرور خمسين سنة على استعمالها.
أخذ السؤال يطرح في القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت والصحف:
ما مصير الأرض بعد انقراض الإنسان؟
ومن سيكون المتبقي الأخير على سطح الأرض رجل أم امرأة؟
استضيف عدد من الفلاسفة والعلماء للإجابة على هذه الأسئلة ودارت حوارات ونقاشات وأعدت تقارير وألفت كتب وروايات حول الموضوع.
**
وفي أحد الأيام نقلت وكالات الأنباء والقنوات الفضائية ومواقع النت خبر ولادة طفل جديد داخل أحد السجون لامرأة سمراء اللون تقضي حكماً بالسجن في أحد سجون نيجيريا بتهمة قتل زوجها.
نزل الخبر كالعيد على الجميع كون هذا الطفل سيكون خليفة الجنس البشري، وصارت القضية عالمية، وصار السؤال الجديد هو: من أين سنأتي بزوجة قادرة على الإنجاب لهذا الطفل الجديد؟
وما مصير أمه وهل سيحكم عليها بالإعدام في حال ثبوت التهمة؟
ومن سيربي الطفل في حال بقاء أمه في السجن، وهل سيبقى معها أم تخرج لأجله؟
كل العالم اهتم بهذا الموضوع ودارت النقاشات وجلسات الحوار من أجله، وفي الوقت ذاته كان هناك من يفكر في عقاب للعالم (مارك توماس) الذي جر البشرية لهذا المصير.
انبرى عدد من المحامين للدفاع عن الأم وتقدم عدد من الرجال بطلب الزواج منها، وانطلقت المظاهرات في أرجاء العالم لمحاولة ثني الحكومة النيجيرية عن تنفيذ حكم الإعدام فيها ومطالبتها بالإفراج عنها.
**
تعرض (مارك توماس) للتهديد بالقتل ومحاولة الاغتيال عدة مرات وفكر في الانتحار نتيجة الضغوط والتهديدات وتأنيب الضمير.
**
أخذ الطفل النيجيري الأسمر يكبر يوما بعد يوم، وبعد أن بلغ عمره ثلاث سنوات نشرت القنوات الفضائية الصينية مفاجأة جديدة تمثلت في إجراء تخصيب صناعي لامرأة صينية هي الآن حامل في شهرها الأخير والجنين الذي بداخلها أنثى.
**
أجمع العالم على أن يزوج الطفل النيجيري بالفتاة الصينية ليكون أطفالهما بداية جدية على سطح الأرض للمخلوق البشري، ودار الخلاف مرة أخرى هل سيعطى الأطفال الجدد حقنة إطالة العمر أم لا؟
وبعد نقاشات طويلة اتفق الجميع على أن يبقى الإنسان الجديد بعمره الطبيعي ليكمل دورته في الحياة ويموت مثل غيره من الكائنات وكما كان أسلافه من قبل.
نبذة عن المؤلف:
بلد الجنسية: السعودية
سيرة ذاتية:
سعيد الدوسري. حاصل على شهادة بكالوريوس لغة عربية لعام 1416 هـ من جامعة الإمام محمد بن سعود.
أدرس حاليا ماجستير إعلام موازي في جامعة الملك سعود، وأعمل أمينا لمصادر التعلم في التعليم العام.
سبق لي العمل سكرتيرا للتحرير في المجلة العربية. صدر لي كتاب ورقي وآخر إلكتروني، ولدي كتاب ثالث لم ينشر بعد. ونشرت عددا من المقالات والقصص والقصائد في عدد من المطبوعات والمواقع الإلكترونية.