(1)
"لماذا أنا..كان ينبغي أن أرفض"
كانت هذه الكلمات تتردد في عقل حمزة عندما بدأت وحدة المناورة التي يحملها فوق ظهره في نفث النيتروجين المضغوط، فعبر جسده كوة مكوك الفضاء "جمشيد-5" مغادراً إلى رحابة الفضاء البارد.
"لماذا وافقت؟ كان ينبغي أن أدع "وضاح" أو أي من الآخرين يقومون بهذا السير في الفضاء بدلاً مني".
لكنهم في القاعدة الأرضية في "أسوان" أقترحوا أن يقوم هو بالمهمة، ولم يكن ليرفض ما لم تكن لديه حجة مقنعة.
"إنها مجرد جثة..لا شيء لأخافه". هكذا همس ليشجع نفسه.
مرة واحدة فقط شاهد فيها حمزة جثة ميت، كان والده، وكان هو طفلا في السابعة، لا يكاد يفهم ما الموت وما الحياة، أمسك عمه يده وأخذه إلى غرفة نوم والده ليلقى عليه نظرة أخيرة قبل أن يبدأوا إجراءات الغسل والكفن، لكنه لم يلاحظ أي شيء مختلف في والده، كان راقداً مغمض العينين كعادته عندما ينام.
هناك ثمة شعور مخيف بالبرد يجتاحه، للحظات شعر أنه يرتجف، نظر إلى شاشة الحاسوب المثبتة إلى ساعده الأيسر يبحث عن عداد الضغط، كان الضغط قد أنخفض، نقر بأنامله فوق لوحة مفاتيح الحاسوب ليعيد ضبط الضغط.
"أنا الآن خارج المكوك"
انتقلت هذه العبارة عبر جهاز الأتصالات المثبت داخل خوذة حمزة إلى زميله وضاح في غرفة قيادة المكوك "جمشيد-5". ومن الطرف الثاني سمع صوت وضاح يقول:"حظاً موفقاً".
كان في الفضاء الآن، جسده يطفو إلى جانب المكوك، أستخدم الذراع الأيمن لوحدة المناورة ليدفع بجسده إلى أعلى، إلى فوق مستوى المكوك، ثم راح يستخدم الذراع الأيسر بدقة ليدور ببطء حول نفسه ليواجه النصف الآخر من الفضاء. كانت الأرض تزحف على المشهد بألوانها المبهجة، كرة يختلط فيها الأزرق والأبيض والأخضر فوق رداء كوني من الظلام الأسود السرمدي، وبينه وبين الأرض كانت هناك محطة الفضاء الهندية "فيكرام سارابهاي"، كأنها ثلاثة دواليب مثبتة إلى محور وتدور حوله ببطء محسوب في عظمة وهيبة.
"محطة الفضاء فيكرام سارابهاي في مرمى بصري" نطق بهذه العبارة ليسمعها زملاءه في جمشيد-5، ثم ابتلع ريقه وقال "والآن سوف أبدأ السير في اتجاه المحطة".
كان يشعر في داخله بشيء من النشوة يخالط الخوف، كان يتذكر إطلاق الهند هذه المحطة إلى الفضاء في العام 2035، العام الذي أتم عامه التاسع فيه، والعام الذي بدأ فيه السباق إلى الفضاء، في الأعوام التالية راحت مختلف أمم العالم الناشئة والتي لا تزال تنفض عنها غبار الحرب المدمرة التي أجتاحت العالم لسبع سنوات طوال تدشن برامجها الفضائية الطموح. الكبار قرروا أن يبنون أول مستوطنة على سطح المريخ، بينما راحت الصين تنشأ مرصداً فلكياً للإشعاع الكهرومغناطيسي فوق القمر، الهنود كانوا أكثر عملية فكثفوا برامج التصنيع الفضائي، أما الاتحاد العربي فأختار أن تكون حلبته استكشاف الكواكب. كانت أعواماً مليئة بالإنجازات العظيمة، وراحت الأمم تتسابق لأرتياد الفضاء بحثاً عن المجد والكبرياء.
كانت نفثات النيتروجين الخارجة من وحدة المناورة المثبتة فوق ظهره تدفعه ببطء ناحية المحطة الفضائية، بينما أفكاره تتشوش وتتضح في أطوار متتابعة تنخلها الذكريات. كان شاهد مع أمه أول الأفلام التي بثها الهنود عن محطتهم التي أسموها بإسم مؤسس برنامجهم الفضائي – فيكرام سارابهاي – قال لأمه:
"عندما أكبر سوف أذهب إلى هناك.. سوف أتجول في محطتهم" ضحكت أمه وقالت "أتريد أن تصبح رائد فضاء؟؟" رد بكل عزم "سوف أكون رائدا فضاء".
ببطء راح يقترب من المحطة الفضائية، أنه ذاهب إلى المحطة التي أخبر والدته في طفولته أنه سوف يذهب إليها.
ذاهب لجلب جثة.
(2)
"لقد حصلت على مشرط" سمع العبارة جميع من غرفة التحكم في قاعدة عمليات برنامج الفضاء الهندي "آندرا براديش" "وسوف أفعل ذلك الآن".
انحنى "باناش" مدير القاعدة على مكبر الصوت المثبت إلى طاولة العمليات التي يجلس إليها وقال: "لا..لا.. لا تفعل يا نواب.. إنك تخطئ في تقديرك" ثم تتطلع إلى شاشتين كبيرتين مثبتتين إلى الجدار، الأولى تظهر موضع محطة الفضاء "فيكرام سارابهاي" في المدار والبيانات المتعلقة بعمل أنظمتها، أما الثانية فيفترض أن تنقل ما يدور داخل المحطة لكنها كانت سوداء تماماً.
"نواب .. دعنا نساعدك.. لماذا لا تدع الكاميرات تعمل حتى نراك" كان باناش يتمنى أن يستجيب له نواب، لكن نواب أجابه بهدوء "أنتم تعرفون جيداً أنه لا يمكنني أن أغلق الكاميرات، أليس كذلك؟؟"
وضع باناش يده فوق مكبر الصوت ليحجب ما يقال في القاعدة عن نواب في المحطة ونظر متسائلاً إلى كبير المهندسين الذي يجلس إلى جواره من طاولة العمليات، فقال هذا "ربما وضع صندوق أو حقيبة فوق الكاميرات.." أومأ باناش برأسه لكبير المهندسين إشارة للفهم ثم رفع يده عن مكبر الصوت وقال لنواب:
"نواب .. صديقي.. المسألة لا تستحق.. ألا تريد أن ترى والديك.. ألا تريد أن تجتمع بزوجتك وأبنك.. إذا كنت لا تريد أن تقيم في المحطة يمكنك مغادرتها.. فقط ادخل إلى المكوك الموجود في مرسى المحطة ودع الباقي لنا.. هناك فريق هنا يعيد برمجة طيار المكوك الآلي ليعود بك إلى الأرض"
"لا"
خرجت من مكبرات الصوت حاسمة، ثم أتبعها نواب بعبارة أخرى.
"إنه لا يرديني أن أغادر المحطة".
"من الذي لا يريدك أن تغادر المحطة؟؟؟؟"
انتظر أن يحصل على رد من نواب، لكن نواب تجاهل السؤال وقال "لقد حصلت على سكين .. ولسوف افعل ذلك الآن".
أغلق باناش مكبر الصوت تماماً هذه المرة ثم صرخ "أين الطبيب النفسي؟ .. لماذا تأخر إلى الحين؟" جاءه الرد من أحد مساعديه "أنها ساعة الذروة.. ولا يزال أمامه خمسة عشرة دقيقة على الأقل حتى يصل"، فتح باناش مكبر الصوت ثانية وقال "نواب.. هل تسمعني؟" جاوبه الصمت من الناحية الأخرى، هتف ثانية :"نواب.. أجبني .. هل تسمعني؟؟؟"
مرت لحظات قبل أن يعود صوت نواب قائلاً "أنهما يستولون على طعامي...... أنهم يأخذونه من فمي"، زفر باناش وقال "هناك مزيد من الطعام على متن المحطة يا نواب"، سمع صوت نواب مستهجناً "بلى .. قد فعلتم"، رد باناش "لقد وصلتك آخر شحنة طعام يوم أمس" صمت باناش للحظة ثم قال بكثير من التعاطف "أسمع يا نواب.. جميعنا يعرف أن الأمور لا تسير دوماً كما ينبغي.. ونعرف أن فترة أقامتك وحدك على متن المحطة قد تكون تجاوزت المخطط له بكثير" قاطعه نواب "وحدي.. من قال أني وحدي.. أقول لك أنهم معي هنا"، قال باناش "لا يوجد أحد على متن المحطة غيرك يا نواب"، وضع يده من جديد على المكبر ليحجب صوته عن نواب ونظر لمساعديه وقال "ماذا أقول له، هل هناك أية أفكار لدي أي منكم...."، قاطعه صوت نواب وهو يقول "لقد فعلتها"، صرخ باناش "كلا يا نواب..لا تفعل". بدا أن نواب يتكلم بلسان بتثاقل لحظة فلحظة:
" إنهم في كل مكان.. كرات حمراء رائعة تتراقص في كل مكان حولي....رائـ....ــعـ......ــة".
حل الصمت على جميع من في قاعة التحكم في القاعدة، وأسند باناش مرفقيه إلى طاولة العمليات ثم اسند رأسه إلى كفية وغرق في صمت عميق.
(3)
الأرض كرة عملاقة بهيجة الألوان، تشغل كل المنظر في عيني حمزة حتى ليحجب بريقها ضوء غيرها من السيارات أو النجوم. محطة الفضاء "فيكرام سارابهاي" تخفي جزءاً من الأرض خلف جسمها الأشبة بعمود ثبت إليه دولابان في طرفية وثالث في منتصفه. كان المحطة بكاملها تدور حول محورها العمودي. الدولاب الأوسط هو منطقة الرسو حيث يمكن للمركبات المختلفة أن ترسو فتربط نفسها إلى أي من الأنابيب الممتدة بين محور المركبة وبين محيط الدولاب. كانت هناك مركبة فضاء من الطراز رافنا-9 التي يستخدمها الهنود كمكوك فضاء ومركبة شحن، همس حمزة لنفسه
"لابد أنها المركبة التي جلبت نواب إلى المحطة منذ ثلاثين شهراً".
تمنى للحظات لو أن مكوك الفضاء (جمشيد-5) يستطيع الرسو على متن المحطة، ليكون – على الأقل – مطمئناً إلى وجود مكان قريب يمكنه أن يهرب إليه، لكن للأسف فإن محطة الفضاء "فيكرام سارابهاي" هي من الجيل الأول من محطات الفضاء الهندية، حيث أنابيب الرسو غير قياسية ومصممة لمركبات برنامج الفضاء الهندي فحسب.
مستخدماً ذراعي وحدة المناورة راح يطفو بأتجاه أحد الأنابيب الموجودة في منطقة الرسو. كان عليه أن يقترب من أحد الأنابيب ويطفو ليدخل إليه، ثم يقوم بإغلاق وحدة المناورة ويثبت نفسه إلى سلك يمتد من مدخل الأنبوب إلى جسم المحطة بطول نحو أربعة عشر متر. بمجرد أن ثبت تحرك السلك ليجره إلى مدخل السفينة المقابل للأنبوب.
كان يعلم أنه ليس هناك بالداخل من يفتح الباب. مسترشداً بتعليمات قاعدة العمليات الهدنية في آندرا براديش التي يتم نقلها إليه عبر جمشيد-5، راح يعالج القفل الإلكتروني للباب، فأنفتحت البوابة بعد نحو عشرة دقائق. دخل حمزة للمحطة، كان أول مكان يدخل إليه هي غرفة تعديل الضغط، حيث يتم تعديل الضغط وملئ الغرفة بالأوكسيجن حتى يتمكن رائد الفضاء من خلع خوذته، لكن تعليمات وضاح قائد جمشيد-5 كانت واضحة
"لا تخلع بزتك الفضائية.. نحن لا نعلم ما جرى هناك.. وقد يكون في الأمر عدوى مجهولة".
انتهت إجراءات الاستقبال وتم فتح باب غرفة الضغط إلى المحطة، خطى حمزة إلى داخل المحطة، كان يعرفها جيداً، فهذه المحطة بالذات وغيرها من مشروعات برنامج الفضاء الهندي كانت من الموضوعات الدراسية التي تلقاها في أكاديمية الطيران وعلوم الفضاء في بغداد. راح يشق طريقه إلى قمرة القيادة، كان عليه أن يسير في اتجاه نهاية محور المحطة، حيث تمثل نهاية المحور والدولاب الملاصق لها منطقة الإعاشة التي تضم قمره القيادة وغرفة الأنشطة حيث يمارس رواد الفضاء الرياضة أو يستريحون وغرفة المسبح حيث يمكن لرائد الفضاء أن يتلقى حماماًً من الماء داخل بزة مخصوصة يرتديها وإلى جانب كل هذا كان هناك المعامل المختلفة التي يجري فيها رواد الفضاء التجارب المطلوبة منهم.
كان الطريق إلى منطقة الإعاشة ضيقاً وطويلاً يبلغ نحو الخمسين متراً، كانت هناك العديد من الأدوات التي تسبح في هذا الممر بفعل إنعدام الجاذبية، بعضها كان ثقيل الوزن، وكان عليها أن يتفادها دواماً أو يبعدها عنه. عندما اقترب من قمرة القيادة لاحظ أنه محاط بشيء ما بدا وأنه تراب بني اللون، وبدا أن هناك كرات حمراء داكنة صغيرة تسبح على غير هدى في الفضاء. مد يده ناحية واحدة من هذه الكرات فالتصقت بقفازه، فركها بأصابعة فبدت وكأنها سائل ما، سائل يعرف جيداً، أصطدمت كرة أخرى بزجاج خوذته فسال ذلك السائل الأحمر على زجاج خوذته.
"دم.. يا رحمن"
صرخ حمزة مفزوعاً وراح يحاول أن يبتعد عن هذه الكرات التي تملئ الممر حوله فيصطدم بكل شيء حوله بينما سمع صوت وضاح يأتيه عبر مكبر الصوت قائلاً:
"أهدأ يا حمزة ..أهدأ.. لقد كنا نعرف أننا سنجد مثل هذه الأمور".
(4)
"جمشيد-5.. هل تسمعني .. قاعدة العمليات أسوان تناديك"
"وضاح معك، تكلم"
"أين حمزة؟؟"
"إلى جواري.. ما المطلوب"
"حمزة.. هل تسمعنا"
"نعم .. أنا حمزة.. أنا أسمعك جيداً"
"لديك مهمة غير مدرجة على جدول المهام.. نريدك أن تقوم بالسير في الفضاء"
"حسناً لأي غرض"
"على بعد نحو عشرين كم في الاتجاه 11.2 هناك محطة الفضاء الهندية "فيكرام سارابهاي" ...وأنتم أقرب مركبة مأهولة لها في هذه اللحظة. سوف ينتقل جمشيد – 5 إلى أقرب نقطة آمنة بجوارها حيث سيكون عليك أن تسير إلى الفضاء وتدخلها لتستعيد شيء يريده الهنود"
"وما هو هذا الشيء"
"جثة"
حل الصمت على قمرة قيادة جمشيد-5، وتبادل رواد الفضاء في القمر النظرات وبعد لحظات طوال من الصمت قال وضاح:
"أسوان..”جثة؟ أعد تأكيد ما هو الشئ المطلوب جلبه من "فيكرام سارابهاي"؟؟"
"جثة .. جثة رائد الفضاء.. نواب إسماعيل"
قال أحد رواد الفضاء:
"يا إلهي...هل وقعت حادثة على متن محطة الفضاء؟؟"
جاءه الصوت من الأرض: "كلا لقد انتحر الرجل.. ربما يكون قد عن نفسه بسكين أو حتى ذبح نفسه" ثم أضاف بحزم قبل أن ينهي الاتصال:
" أبدؤوا تنفيذ المهمة الآن.. هذه المهمة لها الأولوية عن كل الهمام".
نظر وضاح إلى حمزة الذي وجم وقال: "كنت تتمنى أن تسير في الفضاء.. ها هي الفرصة قد أتتك.. إن كنت لا ترغب في الخروج لجلب جثة نواب إسماعيل فلا توجد مشاكل.. سوف يخرج أحد الآخرين أو قد أخرج أنا".
رد حمزة:
"لا .. أنا سوف أقوم بالمهمة".
قال وضاح:
"نواب إسماعيل كان رائد فضاء مثلنا ولا يمكننا أن تركه يتعفن هكذا في الفضاء".
(5)
عندما أكبر سوف أذهب إلى هناك.. سوف أتجول في محطتهم...
(6)
تجاوز حمزة فزعه، واستمر في طريقة إلى قمرة القيادة، وهناك كان الظلام يخيم على الغرفة، ليست ثمة ضوء، فقط شاشات الحواسيب المضيئة وضوء أرضي بارد يتسلل من أحد النوافذ المواجهة للأرض. أبلغته قاعدة العمليات الهندية عن محل مفتاح الإضاءة فوصل إليه وشغله لتغمر الإضاءة القمرة. تفحص حمزة قمرة القيادة، كانت غرفة مستديرة، تشغل لوحة القيادة فيها طاولة مستديرة تتوسط القمرة، يحيط بها عدد من المقاعد المزودة بأحزمة ليتمكن رواد الفضاء من تثبيت أنفسهم إلى المقاعد. أما الجدران فكانت تضم كوات صغيرة يتسرب منه الضوء القادم من الأجرام الفضائية القريبة، وكان هناك باب آخر مقابل للباب الذي دخل منه للقمرة في الناحية الثانية منها. كان هذا الباب يؤدي إلى المهجع حيث يمكن لرواد الفضاء أن يناموا داخل صناديق أشبه بالتوابيت، وحيث من المفترض أن يجد الجثمان الميت طافياً.
راح حمزة يعبر الغرفة، لاحظ أن الكاميرات في الغرفة مغطاة بالقفازات التي يستعملها رواد الفضاء الهنود. عرف الآن ما الذي حل بالكاميرات وجعلها غير ذات فائدة لمن هم في قاعدة عمليات آندرا براديش. أخيراً عبر الباب إلى المهجع حيث وجد جثة نواب.
كان جثمانه طافياً في غرفة المهجع. جلده الأسمر استحال أبيض كالشمع. اقترب من الجثمان الذي كان يدور في فضاء الغرفة. لاحظ أن هناك جرحاً في ساعده الأيسر. عرف كيف مات، لقد قطع شرايينه. كان هناك هذا الغبار الدموي البني اللون يملئ الغرفة وقد لوث الدم نفسه الجدران وصناديق النوم. نظر في وجه الميت حيث كانتا عيناه مفتوحتين تحدقان في اللاشيء. حتى هذه اللحظة كان الجثمان لرائد فضاء هندي اسمه نواب اسماعيل، أما الآن وهو ينظر إلى عينيه عرف أنه التقاه قبل اليوم، كان ذلك منذ عامين، في المؤتمر الدولي لتقنيات استكشاف الفضاء في جوهانسبرج في جنوب أفريقيا. لقد تبادلا الحديث وربما يكونا قد شربا قدحين من القهوة معاً.
نظر في الوجه، كانتا العينين مفتوحيتين، والبؤبؤين في أقصى اتساع لهما، وسحابه من اللون الرمادي أنتشرت فوق سواد العين. كان حمزة ينظر للموت، كان ينظر في وجه الموت نفسه، لم تكن تجربته مع أبيه المتوفي تعني شيء الآن، كان يرى الموت الآن ولأول مرة في كامل هيبته المروعة.
شعر حمزة بأن جسده أصبح بارداً بالرغم من أن بزته منظمة الحرارة، كانت هناك قشعريرة مفزعة تزحف فوق ظهرة،شعر أن أنفاسه تتلاحق، شعور بالقيء، حاول أن يهدأ، القيء في البزة المغلقة هي الطريق السريع للموت اختناقاً. حول وجهه عن الجثة وترك جسمه يطفو في الفضاء منعدم الجاذبية.
* * *
راح يطفو..يطفو...يطفو
* * *
كان يطفو في الغرفة وعينيه تنظر ناحية السقف، مقطوعاً عن العالم الحي بعد أن أغلق جهاز الاتصال مع جمشيد-5، عقله يتأرجح بين الصحو والنوم، ثم شعر بوجود ثمة كائن ما معه. لم يتبين ما هو هذا الكائن، أعتدل وراح يمسك بالمقابض المثبتة إلى جدار غرفة المهجع ليثبت نفسه، دار بعينيه في الغرفة فلم ير شيئاً، مد أصابعه إلى لوحة مفاتيح الحاسوب فوق ساعده ليغير من مرشحات الأشعاع الكهرومغناطيسي لواجهة خوذته عله يستطيع أن يرى هذا الكيان، لكنه لم ير شيئاً، بدّل المرشحات من الضوء المنظور إلى الأشعة تحت الحمراء إلى الميكروويف والرادار لكنه لم يستطيع أن يرى شيئاً.
أعاد فتح جهاز الاتصال مع جمشيد-5، فأتاه على الفور صوت وضاح غاضباً:
"لماذا أغلقت قناة الأنصال.. أنت تعرف أن هذا مخالف للأنظمة." رد حمزة وهو لا يزال ينظر حوله في كل مكان: "هناك شيء ما .. كائن ما.. لا أعرف.. أنه معي هنا في المهجع". لحظة صمت، قبل أن يعود وضاح ويقول: " لقد أجرى الهنود مسحاً على المحطة من قاعدة عملياتهم.. وكذا فعلت أنا من هنا.. لا يوجد ثم كائن حي على المحطة غيرك."
"أنني أراه الآن"
"أهدأ يا حمزة.. ما تراه هو وهم ربما بسبب اختلال في الأوكسجين أو أي شيء آخر".
"كلا .. أنني متأكد مما أرى"
"حسناً يا حمزة.. لقد أعفيت من المهمة .. عليك أن تعود إلى المكوك جمشيد -5 الآن".
"أنه يحول بيني وبين باب المهجع، أنه يحتجزني هنا"
"صدقني يا حمزة، لا يوجد غير ك على متن المحطة."
أغلق حمزة قناة الأتصال بينه وبين جمشيد-5، كان ينظر إلى هذا كائن.. الشيء.. لم يكن منظوراً ولا مجسماً، لكنه أستطاع أن يراه. بالرغم من أنه يعلم أنه ممنوع من خلع خوذته، إلا أنه قام برفع واجهة الخوذة الزجاجية لينظر مباشرة إلى هذا الكائن. لم تكن هناك ملامح لهذا الشيء، كأنه هواء ساخن كثيف يشوه الضوء المار من خلاله، ومع ذلك كان حمزة يشعر أن هذا الكائن ينظر إليه.
قال حمزة: "ماذا تريد؟؟"
لم يتكلم الكائن بصوت، لكن حمزة سمعه جيداً وهو يقول:
"أريد أن تنظر إلى كوكبك قليلاً"
لا يوجد صوت، شعر أنه يسمع كلامه مباشرة في رأسه، هل يتكلم بالتخاطر؟؟ اقترب حمزة من أحد الكوات ونظر إلى الأرض، كرة عملاقة تختلط فيها الألوان تسبح فوق بحر من ظلام. مرة أخرى شعر أن كلمات الكائن تخترق رأسه مباشرة.
"هل تعرف ما الذي تنظر إليه؟"
كانت عينيه تنظر إلى بلد ضربته المجاعات والجفاف. وجاءه صوت الكائن:
"هناك ملايين وملايين من البشر يموتون جوعاً، أنظر إلى هناك" قال حمزة: "ليس شأني".
للحظة شعر بأن الكرة الأرضية تتحرك بأسرع من المعتاد، قبل أن تتوقف عن الدوران لتصبح في مواجهته، بلد آخر يعرفه بمصائبة، سمع الصوت:
"وهل تعرف هذه؟؟ الحرب الأهلية تدمر كل شيء وتقتل الآلاف"
قال حمزة وقد شعر أن رأسه بدأ يدور: "هذا ليس خطئي.. لست أنا المسؤول"
راحت الكرةالأرضية تدور وراح صوت الكائن يرن في رأسه.
"وماذا لدينا هنا؟ طاغية يحكم شعبه بالحديد والنار منذ ربع قرن"
"هم المسئولون .. لماذا لا يختارون غيره"
"وهنا الطاعون يقتل الآلاف"
"سوف يكتشفون علاجاً له عن قريب"
"وهذه المدينة، ظاهرها الحضارة والتقدم، وباطنها الفساد"
"أنهم فقط بحاجة لمن يساعدهم، لمن يدلهم على الحضارة الحقيقية"
شعر حمزة أن هناك رنيناً رهيباً يضرب جنبات رأسه، فأمسك رأسه بكلتا يديه وهتف: "توقف..توقف بالله عليك"
توقف الرنين، هذا كان هذا هو ضحكات الكائن؟؟
مرة أخرى سمع صوت الكائن في رأسه: "ما الذي جاء بكم هنا؟؟.."
قال حمزة الذي لا يزال يضع كفيه على أذنيه بالرغم من أنه لا يزال يرتدي الخوذة: "لقد أتيت لإحضار جثة و.." شعر كأن صوت الكائن يقطعه: "ما الذي جاء بكم هنا؟؟" قال حمزة: "كانت مهمة بسيطة لإجراء تجارب علـ.." هذه المرة شعر أن الكائن يهتف غاضباً: "ما الذي جاء بكم هنا؟؟"
"أنه برنامج الفضاء"
"وما فائدته؟؟"
للحظات بداً حمزة متحيراً لكنه أجاب: "أنه يوفر وظائف كثيرة ويساعد في التقدم العلمي و.."
=قاطعه الكائن مرة أخرى: "يوفر الوظائف!! أن تكاليف برنامج الفضاء كانت تكفي لأن تقضي على الفقر بين نصف سكان كوكبكم على الأقل"
قال حمزة: “ربما.. لكن هناك العديد من الإنجازات العلمية التي تحققت بفضل برامج الفضاء"
سمع صوت الكائن وبدا له أنه يسخر منه: "بالفعل العديد من الإنجازات العلمية.. أسلحة أكثر فتكاً، أو ربما أدوات للمعيشة المنعمة للموسرين، وربما المزيد من محطات البث الفضائي لتبث برامج المسابقات... إنجازات علمية عظيمة"
قال حمزة مدافعاً: "وماذا تقول عن العقاقير التي لا يمكن تصنيعها إلا في الفضاء، وماذا عن الهندسة المناخية، والاتصالات باستخدام الموجات النانومترية و..."
ساد صمت طويل، وكأن الكائن قد رغب عن استمرار المحاجاة، راح حمزة يفكر في هذا الحوار، يسأل نفسه نفس السؤال الذي طرحه عليه الكائن "ما الذي جاء بكم هنا؟ ...ما الذي جاء بكم هنا؟...ما الذي جاء بكم هنا؟؟ وما الذي جاء بك أنت إلى هنا؟؟؟؟؟؟"
المجد...
.. و الكبرياء...
اتاه صوت الكائن في ذهنه مباشرة: "تراك عرفت الحقيقة التي طالما أنكرها عقلك.. لقد جئتم إلى من أجل المجد والكبرياء.. ليس من أجل إنسانيتكم".
(7)
مرة أخرى، يترك حمزة جسده ليطفو في القمرة، يحاول أن يغلق عينيه ليفكر، لكنه يعرف أن هذا الكائن لا زال هنا. تعصف أفكار مختلفة بعقله، وفي النهاية يتبلور قرار وحيد. مستخدماً مقابض الجدران نزل إلى منضدة التحكم، وقف أمامها ينظر إليها يدرس توزيعها وتركيبها، وسحب سلكاً من حاسوبه المثبت على ساعدة وأولجه في مقبس بلوحة المفاتيح، ثم راح يضرب فوق لوحة مفاتيح حاسوبه بسرعة.
جاءه صوت وضاح من قيادة جمشيد-5 عبر قناة الاتصال" :"ماذا تفعل عندك يا حمزة.. لماذا شغلت محركات المحطة".
كان هناك ثمة ضوء أحمر راح يومض منذراً في قمرة قيادة المحطة. رد حمزة: "لا أعرف ماذا يجري؟؟"
رد وضاح: "إذا غادر المحطة الآن"
"لا يمكنني .. هذا الشيء يحول بيني وبين الوصول إلى منطقة الرسو"
"اسمع .. هناك مركبة من طراز رافنا -9 في المرسى.. اذهب إليها وسوف نمدك بتفاصيل قيادتها"
"قلت أنه لا يمكنني مغادرة القمرة والمهجع".
"لا يوجد غيرك على متن المحطة يا حمزة ويجب أن تغادرها الآن".
"بل يوجد هذا الشيء .. هذا الكائن.." هكذا تحدث حمزة إلى نفسه، كان قد عزم ألا يكون مصيره كمصير نواب، مجرد طعم لجلب رائد فضاء آخر لهذا القبر المداري.
"وداعاً يا وضاح"
سمع صوت وضاح المفزوع عبر قناة الأنصال يهتف: "وداعاً.. ماذا تعني بوداعاً.. حمزة أرجوك إهدأ".
"وداعاً يا وضاح.. أبلغ وداعي للرفاق".
* * *
راحت درجة الحرارة ترتفع بسرعة، خلع حمزة خوذته وقذفها بعيداً عنه، كان يشعر بالازدياد المستمر في الضغط عبر هذا الطنين المزعج في أذنيه. كان جسده ملتصقاً بالسقف بفعل قصور جسمه الذاتي عن ملاحقة المحطة الفضائية التي تهوي.
نظر عبر نافذة قريبة له، كانت هناك الأرض تختلط فيها الألوان كما تختلط في مصائبها وآلامها. كان هناك لون برتقالي يتراقص من حوله، سأل نفسه هل هي النار تندلع في المحطة الهاوية؟
الحرارة تتصاعد، كان يشعر أن دماءه قد بدأت في الغليان، النيران في كل مكان من حوله، رئته تتمزق ببطء، كان يشعر أنه يموت، بينما راحت اجزاء المحطة تتفكك وتسقط قبل الأرض.
سمع صوت الكائن في ذهنه بينما كان ذهنه يغيب عن الوجود: "أنظر إلى الأرض"
نظرة مرة أخيرة للأرض. كرة يغشيها رداء عبقري الألوان، يخفي تحته جسم تقرحه الأمراض ويستنزفه الجشع.
نبذة عن الكاتب:
د. وسام الدين محمد
بلد الجنسية: جمهورية مصر العربية
أكاديمي مختص بعلوم الحوسبة، وقاص وناقد وشاعر مهتم بالخيال العلمي والفانتازيا. ولد بالإسكندرية عام 1974، ونشر أول أعماله القصصية عام 1989. له العديد من المقالات والقصص المنشورة بالمجلات المصرية. أنتقل للإقامة في مملكة البحرين بصورة دائمة منذ 2007