THE CANDLE
الشمعة
للكاتب ليو تولستوي
قرأت سابقاً ما ورد في الكتب المقدسة من أن:
" العين بالعين والأنف بالأنف والسنّ بالسنّ ... لكن من يُقاوم نَزغ الشيطان يفوز."
كان ذلك في زمن العبودية أي قبل عهد إسكندر الثاني بسنوات طويلة , وقبل قيام إسكندر الثاني في العام 1862 بتحرير ستة ملايين من الأقنان ( القنّ هو العبد الذي يخدم في الأرض) العبيد .
كان من يحكم البشر في ذلك الوقت, عدد كبير من اللوردات الذين لم يكن الكثير منهم يذكر الله., كما لم يكن منهم من يعامل العبيد بأسلوب إنساني وإنما كان التعامل معهم يتم كما يتم التعامل مع الحيوانات المخصّصة لحمل الأثقال. وكان البعض الآخر من أولئك اللوردات نادراً ما قد يؤدي عملاً يتصف بالكرم...
لكن العدد الأكبر من أولئك الهمجيين المُستعبدين, كان ممن كانوا سابقاً من العبيد الذين تم تحريرهم, وممن نشؤوا في القذارة أو بين صفوف القرويين إلا أن أصبحوا نظراءً على أملاك النبلاء وعلى غيرهم من العبيد.
وكانت الطبقة الأخيرة قد حّولت حياة من لم يُسعفهم الحظ بأن أصبحوا تحت إمرتها, وبالمعنى الحرفي, إلى عبء ثقيل.
كان من السائد وفق القوانين أن يتم إلزام القرويين بالعمل بالسِخرة في أملاك أسيادهم لعدد مُحدد من أيام الأسبوع.
كانت الأراضي شاسعة المسافات, ذات تربة غنية خصبة تتوفر فيها الكثير من الموارد المائية., وتنتشر فيها المروج والغابات بما كان يكفي لتأمين وسائل العيش لجميع القرويين من ناحية ولأسيادهم من ناحية أخرى...
كان أحد أولئك النبلاء قد كلف أحد القرويين ويدعى ميخائيل , بالعمل ناظراً على أملاكه. ولكن لم يكد يُعهد إلى ذلك القروي بسلطة إدارة من تم استخدامهم مُجدداً إلا وكان قد بدأ بممارسة أكثر الأساليب قسوة ووحشية على العبيد البؤساء الذين أصبحوا تحت إمرته... وعلى الرغم من أن ذلك الرجل كانت له زوجة وابنتين متزوجتين, ورغم أنه كان يكسب الكثير من المال, بحيث كان بإمكانه أن يعيش بكل سعادة ودون أية انتهاكات لتعاليم الله أو لحقوق الإنسان., إلا أن نفس ميخائيل كانت قد امتلأت تجاههم بالحسد والغيرة وبذلك كان قد هبط بعمق إلى ارتكاب الآثام...
بدأ ميخائيل سيمونوفيتش اضطهاده لمن كانوا تحت إمرته, بأن أجبرهم على الخدمة في أملاك النبيل لعدد إضافي من أيام أسبوع , وبأكثر مما تُلزمهم به القوانين., كما أقام حوضاً لتصنيع القرميد وأجبر جميع القرويين رجال ونساء على العمل الشاق فيه لكي يبيعه لصالحه .
وكان الأقنان ذات مرّة قد أرسلوا وفداً إلى موسكو لكي يُمثلهم ولكي يتقدم بالنيابة عنهم بشكوى إلى النبيل , يُطلعه فيها على ما يعانيه الأقنان من سوء معاملته لهم ., لكنهم لم يحصلوا على ما يُرضيهم., وبذلك عاد أولئك البؤساء من مهمتهم بخِفي حُنين وقد انفطرت قلوبهم من الأسى...
وكان مشرف العمال عندما علم بذلك قد قرّر الانتقام منهم لجرأتهم على تجاوزه, ولأنهم طلبوا من النبيل أن يُنصفهم. وبذلك كانت حياتهم, منذ ذلك الحين, قد أصبحت أسوأ بكثير من ذي قبل.
وحدث أن كان هناك أيضاً بين أولئك الأقنان بعض الخونة الذين كانوا لا يرتدعون عن اتهام زملائهم غدراً بإساءة التصرف , وممن كانوا ينثرون بذور التنافر والنزاع بين القرويين... وبذلك كان غضب ونقمة ميخائيل قد تصاعدا إلى حدّ كبير , مما جعل تابعيه يخشون منه على حياتهم ... وبذلك كان القرويون يهربون كلما مرّ ناظر العمال بالقرية ويختبئون كما قد يختبئ المرء من وحش كاسر..
وعندما أدرك ميخائيل ما يثيره في نفوس أولئك القرويين البؤساء من الخوف ومقدار ما كانوا فيه من خنوع , أصبح تعامله معهم أكثر قسوة وحقداً , مما جعل حياتهم أكثر قسوة نتيجة الإجهاد في العمل وسوء المعاملة إلى أن وصل بهم اليأس إلى محاولة استنباط الوسائل التي بإمكانهم بها أن يتخلصوا من مثل ذلك المسخ الهولة الذي لم يكن يتمتع بأي حسّ إنساني. وبذلك بدأ أولئك التعساء يُفكرون بطريقة تُحرّرهم من ذلك الجَور الذي لم يعد يُحتمل...
كانوا يعقدون الاجتماعات في أماكن سريّة للتحسر والندب على بؤسهم وللتشاور فيما بينهم حول الطريقة الأفضل للتصرف. ومن حين لآخر كان أكثرهم شجاعة يثور ويتوجه إلى زملائه بهذه الطريقة :
" إلى متى بإمكاننا أن نسمح لمثل ذلك الوغد النذل بالسيطرة علينا ؟.. دعونا نضع على الفور حدّاً لذلك... من الأفضل لنا أن نموت من أن نعاني بهذا الشكل... من المؤكد أن قتل مثل هذا الشيطان, الذي هو بهيئة إنسان, لا يعتبر من الإثم...
وحدث أن انعقد أحد تلك الاجتماعات قبل عطلة عيد الفصح وفي الغابة التي كان ميخائيل قد أرسل إليها الأقنان لبناء فسحة بين مكانين لصالح النبيل مالك الأرض. كانوا قد اجتمعوا ظهراً لتناول وجبة الغداء ولعقد اجتماع للتشاور فيما بينهم. حيث قال أحدهم:
" لم لانترك العمل الآن؟ سوف نَهلك عما قريب. عملنا حتى الآن إلى حدّ الموت تعباً... ولم نحصل على أية فترة راحة لا أثناء الليل ولا أثناء النهار, لا نحن ولا نساءنا المساكين . ولو حدث أن كان ما قمنا به لا يتوافق تماماً ما يُرضيه فسوف يجد فيه نقيصة , ومن ثم قد يقوم بجلد البعض منا حتى الموت ... كما كان الحال مع سيمون الذي لم يمرّ وقت طويل بعد على موته ... كما وكان قد تم مؤخراً تعذيب أنيسم أيضاً حتى الموت... من المؤكد أنه لن بإمكاننا أن نحتمل أكثر من ذلك... "
وقال آخر " نعم , ما هي الفائدة من الانتظار ؟ دَعونا نتصرف على الفور. سوف يكون ميخائيل هنا هذا المساء ومن المؤكد أنه سوف يكيل لنا السِباب وبأنه سوف يشتمنا بشكل مخزٍ. دَعونا إذن ندفعه من فوق حصانه ونُنزل به ما يستحقه بضربة واحدة من الفأس, وسوف نُنهي بذلك ما نعيش فيه من البؤس., وبإمكاننا بعد ذلك أن نحفر حفرة كبيرة ندفنه فيها كالكلب ولن يعرف أحد ما حلّ به... علينا أن نتوصل الآن إلى اتفاق على الوقوف معاً وقفة رجل واحد وعلى ألا يخون أحدنا الآخر."
كان آخر المتحدثين هو فاسيلي مينايف وهو قروي عبد كان لديه ما يدفعه إلى الشكوى من المعاملة الوحشية أكثر من أي من زملائه العبيد ., ذلك لأن من عادة ناظر العمال أن يقوم بجلده بالسوط كل أسبوع وبكل قسوة ., كما كان قد أخذ منه زوجته وكلفها بالعمل طاهيةً لديه.
وبناء عليه, وفي الليلة التي تَلت ذلك الاجتماع في الغابة كان ميخائيل قد وصل إلى مسرح الأحداث على ظهر حصانه, و بدأ على الفور بالبحث عن أية نواقص في طريقة إنجاز العمل ثم تذمر من أن يكون أحد الأقنان قد قطع بعض أشجار الزيزفون وصاح بهم :
" كنت قد طلبت منكم عدم قطع أشجار الزيزفون, من الذي قام بذلك؟ أريد أن أعرف اسم المسؤول عن ذلك وعلى الفور ؟ وإلا فسوف يتم جلدكم جميعاً."
وبعد التحقيق, كان قد اُعتبر بأن المذنب هو أحد القرويين الأقنان ويُدعى سيدور, وبذلك كان ميخائيل قد صفعه بشدّة, كما قام بمعاقبة فاسيلي أيضاً بكل قسوة لأنه لم يكن قد أنجز القدر الكافي من الأعمال . وعاد السيّد ( العبد) بعد ذلك إلى منزله على ظهر حصانه بكل أمان...
اجتمع العبيد ثانية في المساء حيث قال فاسيلي البائس :
" من أي نوع من البشر نحن ؟ نحن لسنا سوى جماعة من الطيور , لسنا رجالاً على الإطلاق !... فنحن نتفق على أن يقف كل منا بجانب الآخر ولكن عندما يحين وقت التصرف نهرب جميعاً ونختبئ."
"سوف أروي لكم الآن حكاية فيها ما يُماثل تصرّفكم هذا : كانت مجموعة من طيور الدوري قد تآمرت ضد صقر ولكن الجميع كانوا على الفور من ظهور الطير الجارح قد تسللوا واختبئوا في العشب., وكان الصقر قد اختطف أحد العصافير الدورية وأكله... جاء باقي الطيور بعد ذلك وعندما وجدوا أن أحدهم كان مفقوداً أخذوا يصرخون:
" سألوا من الذي قُتل ؟" أهو فانكا ؟ حسناً , لابد أنه يستحق ذلك!..."
"وأنتم أيها الأصدقاء تتصرفون بذات الطريقة تماماً. كان عليكم أن تحافظوا على وعودكم عندما قام ميخائيل بالتهجّم على سيدور؟ لِم لم تنهضوا كرجل واحد لكي تُنهوا حياته؟ ولكي تضعوا بذلك نهاية لما نعانيه من بؤس؟...,
كان لتلك الخطبة أثرها في جعل القرويين أكثر حزماً في عزمهم على قتل مراقب العمال ميخائيل ...
كان الأخير قد أعطى أوامره بأن عليهم أن يكونوا على استعداد للعمل في فلاحة الأرض أثناء عطلة عيد الفصح لكي يتم بدارها بحبوب الشوفان. وكان ذلك ما أصاب العمال بالحزن الشديد . وبذلك كانوا قد عقدوا اجتماعاً آخراً للتعبير عن سخطهم ونقمتهم وكان الاجتماع في منزل فاسيلي.
قال أحدهم " إن كان ميخائيل هذا قد نسي وجود الله, وإن كان سيستمر في ارتكاب هذه الجرائم بحقنا , فقد بات من الضروري وبكل صدق أن يتم قتله., وإلا فدعونا نَهلك فليس هناك أي فارق بين الأمرين. لكن تلك الخطّة البائسة كانت قد لقيت الكثير من الاعتراض من أحد الأقنان ويدعى بيتر ميخاليوف حيث قال :
"بريثرن, أنت تُخطط لارتكاب إثم كبير لأن إزهاق النفس البشرية من الأمور الخطرة للغاية. من السهل بالطبع أن يتم إنهاء حياة إنسان ولكن ما الذي سيحل بنفوس من سيرتكبون مثل هذا العمل الشائن ؟... لو استمر ميخائيل بالتصرف نحونا على نحو ظالم كما يفعل الآن فسوف يعاقبه الله . أما نحن فكل ما علينا أيها الرفاق هو أن نصبر."
لم يكن لتلك التعابير المُسالمة أثرها في نفوس القرويين . كما كانت قد جعلت غضب فاسيلي يتصاعد حيث قال:
" بيتر يُردّد دوماً ذات القصة القديمة من الإثم قتل أي إنسان . من المؤكد أن القتل إثم., لكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار نوع الرجل الذي نتعامل معه. كل منا يعلم بأن من الخطأ قتل رجل فاضل, ولكن حتى الله (عزّ وجل) كان سينتزع حياة مثل ذلك الكلب. فمن واجبنا , لو كانت لدينا أية محبة للجنس الإنساني أن نُطلق النار على كلب مسعور حتى لو كان علينا أن نعاني من الإثم لأننا لم نترك مثل ذلك الكلب حياً... وبناء عليه, فلو كان علينا أن نعاني على كافة الأحوال, فليكن ذلك لأجل مصالح الآخرين وسوف يشكروننا على ذلك... لكن لو ظللنا هادئين أكثر من ذلك فسوف تكون مكافأتنا الوحيدة هي الجلد بالسياط. أنت تتحدث بالسفاسف ميخاييف. لِم لم تفكر بالإثم الذي سوف نرتكبه لو كان علينا أن نعمل أثناء عطلة الفصح -- أنت بالذات سوف ترفض حينئذ أن تعمل .؟
أجاب بيتر " حسناً إذن ! لو كانوا سيطلبون مني أن أفلح الأرض أثناء عطلة عيد الفصح فسوف أقوم بذلك , لكنني لن أفعل ذلك بمحض إرادتي., وسوف يعلم الله (عزّ وجلّ) من الذي يأثم بذلك... وبناء عليه سوف يلقى المذنب ما يستحقه من عقاب, وعلينا ألا ننسى علاوة على ذلك بأنها سوف تكون إرادة الله..."
"بريثرن , أنا لست أدلي بوجهة نظري وإنما قانون الله ألا يقوم المرء بردّ الشر بالشر... وبالفعل فلو حاولت أن ترد الشر بالشر بمثل تلك الطريقة فسوف يرتد عليك بما هو أكثر قسوة -- ليس من العسير عليك أن تقتل إنساناً لكن دمه سوف يلطخ روحك بالتأكيد... قد تعتقد أنك قتلت رجلاً شريراً -- وبأنك تخلصت بذلك من الشر -- لكنك ستكتشف بسرعة بأن عدداً أكبر من بذور الشر قد زُرع فيك, ولو أذعنت للشرّ فسوف يصيبك بالتأكيد.
لم يكن هناك من لم يكن قد تعاطف مع بيتر من بين أولئك القرويين الأقنان البؤساء ., وبذلك كانوا قد انقسموا إلى مجموعتين: التابعون لفاسيلي وأولئك الذين تبنّوا وجهة نظر ميخاييف.
لم يكن قد تم أنجاز أي عمل صباح يوم أحد الفصح . ولكن عندما اقترب المساء جاء رسول من قصر النبيل إلى القرويين وقال:
" يأمركم مشرف العمال بالذهاب غداً لفلاحة الحقل لأجل البذار."
وهكذا كان المسؤول عنهم قد جال من جانب لآخر في القرية ووجه القرويين بالاستعداد للعمل في اليوم التالي. البعض منهم إلى جانب النهر والآخرون إلى جانب الطريق.
كاد الحزن يقهر القرويين, وزرف أكثرهم الدموع لكنهم لم يجرؤوا على عصيان أوامر سيدهم.
وفي صباح أحد الفصح وبينما كانت أجراس الكنائس تقرع وتستدعي السكان لأداء الطقوس الدينية , وبينما كان الجميع يستعدون للاستمتاع بالعطلة, كان الأقنان البؤساء قد بدؤوا بفلاحة الحقل.
نهض ميخائيل متأخراً في ذلك اليوم وبدأ يتجول حول المزرعة., وفي الوقت الذي كان فيه الأقنان قد أنهوا فلاحة الأرض وبدؤوا بارتداء ملابسهم استعداداً لذلك اليوم المجيد , كان ميخائيل وزوجته وابنته الأرملة ( التي كانت تزورهم كعادتها في أيام العطل) قد عادوا من الكنيسة. كان ساماوار الشاي الساخن بانتظارهم, وبعد أن بدؤوا باحتساء الشاي, أشعل ميخائيل غليونه ثم استدعى إليه كبير الخدم وقال له:
" حسناً, هل أبلغت الأقنان أوامري بأن تتم فلاحة الأرض اليوم؟"
وكانت الإجابة " نعم سيدي, فعلت ذلك"
"هل ذهب الجميع إلى الحقل؟"
"نعم سيدي., الجميع. وجهّتهم بنفسي عن المكان الذي عليهم أن يبدؤوا العمل فيه."
"هذا جيد جداً. كنت قد أعطيتهم الأوامر ولكن هل نفذوها؟ اذهب في الحال واستطلع الأمر ,و بإمكانك أن تقول لهم بأنني سوف أكون هناك بعد الغداء., علي أن أجدهم قد أنهوا فلاحة مساحة لا تقل عن الهكتار والنصف, ويجب أن يكون العمل قد أنجز بشكل جيد., وإلا فسوف تتم معاقبتهم بقسوة على الرغم من أنه يوم عيد."
" نعم سيدي, سوف أمتثل لأوامرك؟"
وبينما كان كبير الخدم على وشك المغادرة استدعاه ميخائيل من جديد . وقال له بعد تردد , ذلك لأنه كان قد يبدأ يشعر بكثير من القلق :
" بالمناسبة , استمع لما سيقوله أولئك الأنذال عني. لابد أن البعض سوف يشتمني, وأريدك أن تنقل إلي كل ما سيقولونه وبحذافيره... أنا أعلم مدى نذالتهم ولست راضياً على الإطلاق على عملهم... فهم يفضلون الاستلقاء طوال اليوم دون القيام بأي عمل. سوف يأكلون ويشربون ويحتفلون بالعيد, لكنهم ينسون بأن فلاحة الأرض إن لم تتم الآن فسوف يفوت أوانها. عليك الذهاب للاستماع لما يقولونه لكي تنقله إلي بكل حذافيره . اذهب على الفور."
" سوف أطيعك سيدي."
استدار كبير الخدم وامتطى حصانه وغادر . كان قد وصل بسرعة إلى الحقل الذي كان الأقنان يعملون فيه بكل مثابرة.
وحدث أن كانت زوجة ميخائيل ,التي كانت امرأة طيبة القلب جداً , قد سمعت الحديث الذي كان يدور بين زوجها وكبير الخدم. اقتربت منه وقالت:
" عزيزي ميشكا ( تصغير لاسم ميخائيل) أتوسل إليك أن تأخذ بعين الاعتبار أهمية وقدسية يوم العيد هذا. لا ترتكب إثماً . ولتدع أولئك الأقنان المساكين يذهبون إلى منازلهم.
ضحك ميخائيل لكنه لم يستجب للمطلب الإنساني الذي اقترحته عليه زوجته. ونظراً لأنها كانت قد كرّرت ما قالته قال لها أخيراً:
" لم يتم ضربك منذ مدة طويلة , وهذا ما جعلك تتجرئين على التدخل بما ليس من شأنك."
أصرّت زوجته ثانية وقالت :
" ميشكا , حلمت حلماً سيئاً يخصّك., ومن الأفضل لك أن تدع الأقنان يذهبون إلى منازلهم."
قال لها زوجها " أرى بأنك أصبحت مؤخراً مكتنزة جداً وهذا ما جعلك تعتقدين بأن ضربات السوط لن تتسبب لك بالألم. انظري إلي!."
ثم ضغط بغليونه الملتهب على خدها بشدّة وطردها من الغرفة ... كان بعد ذلك قد طلب عشاءه., وبعد أن تناول وجبة شهية تتألف من حساء الملفوف, ومن اللحم المشوي ومن الكعك والحلويات مع الحليب الخ... نادى طاهيته وطلب منها أن تجلس أمامه لكي تغني بينما كان يرافقها بالعزف على الغيتار.
وفي الوقت الذي كان فيه ناظر العمال يستمتع بوقته بكل سرور, كان كبير الخدم قد عاد من مهمته . انحنى أمامه وبدأ يسرد له ما لديه من معلومات عما أنجزه الأقنان من عمل.
سأله ميخائيل " هل يقومون بفلاحة الأرض؟"
" نعم , وقد أنهوا فلاحة ما يقارب نصف الحقل؟."
"هل يتم الأمر دون أية أخطاء؟"
" نعم سيدي, بحسب ما تبيّن لي, تم العمل يتم بشكل جيد, هم بالتأكيد خائفون منك."
" كيف هي التربة؟"
" جيدة جداً. تبدو تربة خصبة."
ثم قال ميخائيل بعد فترة توقف " وما الذي يقولونه عني؟ هم يشتمونني كما أعتقد؟"
كان كبير الخدم قد تردّد بعض الشيء , لكن ميخائيل أمره بإعلامه بكل الحقيقة وقال:
"أعلمني كل ما سمعته وبالتفصيل, أريد أن أسمع ما قالوه بكل حذافيره. لو أعلمتني بالحقيقة فسوف أكافأك وأما لو أخفيت عني شيئاً فسوف أعاقبك . كاترين, اسكبي له كأساً من الشراب لتشجيعه على الكلام!."
بعد أن شرب كبير الخدم كأس الشراب بصحة سيده حدّث نفسه" لست المسؤول إن لم يمتدحونه "
ثم استدار فجأة إلى مشرف العمال وقال:
" سيدي, هم يتذمرون, يتذمرون بمرارة.."
سأله ميخائيل " ولكن ما الذي يقولونه؟"
" حسناً, من أحد الأشياء التي يقولونها أنك لست مؤمناً بالله."
ضحك ميخائيل وسأله " ولكن من الذي قال ذلك؟"
قال كبير الخدم " يبدو أن رأيهم بالإجماع أن الشيطان قد تغلّب عليك."
ضحك ناظر العمال من جديد وسأله " أريدك أن تعلمني بما يقوله كل منهم على حِدة. ما الذي قاله فاسيلي؟"
لم يكن كبير الخدم يرغب بخيانة زملائه, لكنه كان يُخفي في نفسه بعض الحقد على فاسيلي وبذلك قال :
" شتمك أكثر مما فعل الآخرون."
" ولكن ما الذي قاله؟"
" سيدي, من البغيض أن أكرّر ما قاله, قال... قال ... بأنك سوف تموت ميتة الكلب ما لم تكن لديك فرصة للتوبة!"
قال ميخائيل بغضب " أووه , لابد أن ذلك النذل سيقتلني لو لم يكن خائفاً ! . حسناً فاسيلي ,سوف يكون لك مني حساباً. ثم قال "أعتقد أن تيشكا كان قد نعتني أيضاً بالكلب؟"
" حسناً , تحدث عنك الجميع بكل ما ليس بعبارات المديح., لكن قد يكون من الوضاعة أن أكرر لك ما قاله الجميع ."
قال ميخائيل " عليك أن تعلمني بما قيل عني سواء أكان ذلك من الوضاعة منك أو لم يكن ؟"
" قال البعض بأن عليهم أن يكسروا ظهرك."
يبدو أن ميخائيل كان يستمع بشكل كبير بما يسمعه لأنه ضحك بدون تحفظ وقال:
" سوف نرى, سوف نرى من الذي سيكسر ظهر الآخر أولاً. وما الذي كان عليه رأي تيشكا ؟ لم أكن أتوقع منهم أن يقولوا أي شيء جيّد عني , لكنني لم أتوقع منهم مثل تلك الشتائم والتهديدات, وهل شتمني أيضاً ذلك المخبول بيتر ميكاييف؟"
" لا سيدي , لم يشتمك على الإطلاق. كان الوحيد من بينهم الذي ظلّ صامتاً. ميكاييف عبد حكيم جداً وهذا ما يدهشني منه كثيراً . كما أن تصرفاته كانت قد أدهشت الجميع."
" ما الذي فعله؟"
قام بما هو جدير بالملاحظة. كان يفلح الأرض بكل مثابرة, وعندما اقتربت منه وجدته يُغني بكل عذوبة. لكنني عندما نظرت بين سكة المحراث لاحظت بأن هناك شيء يلمع."
" حسناً ما هو ذلك الشيء؟ أعلمني بسرعة!"
كان ذلك الشيء شمعة , شمعة كانت تلمع دون أن تجعلها الريح تنطفئ. كان بيتر يفلح الأرض مرتدياً قميصاً جديداً وكان يُنشد أجمل الترتيلات . وكانت الشمعة قد استمرت في اشتعالها في جميع الأوضاع التي كان يُعمل بها المحراث في الأرض. كان بحضوري قد غرز المحراث في الأرض وقام برجّه بعنف, لكن الشمعة الصغيرة ظلت تلمع بهدوء بين أسنان المحراث دون أي تشويش...
" وما الذي قاله ميكاييف؟"
" لم يقل شيئاً -- ماعدا أنه هنأني بالعيد, ثم ذهب في طريقه وعاد من جديد للفلاحة . لم أقل له شيئاً لكنني عندما اقتربت من باقي الأقنان وجدتهم يضحكون ويسخرون من زميلهم الصامت و يقولون :
"ميكاييف , تُعتبر الفلاحة إثماً كبيراً في يوم أحد الفصح, ولن يكون بإمكانك أن تلقى الغفران حتى لو صليت طوال حياتك."
" ألم يجبهم ميكاييف بأي شيء؟"
"كان انتظر فترة طويلة ثم قال:
" لن يكون هناك سلام ولا قناعة على الأرض." ثم استمر في الفلاحة والغناء وكانت الشمعة لاتزال تشتعل وتلمع حتى أكثر من قبل."
عندما سمع سيمونوفيتش تلك العبارة توقف فجأة عن الهزل, ثم وضع سيجاره بجانب غيتاره وأطرق برأسه نحو صدره وغرق في التفكير, وبعد أن أمر الخدم والطاهية بالانصراف ذهب إلى سريره واستلقى عليه وأخذ يتأوه ويتنهد وهو في غاية الكرب والأسى. حينئذ جاءت إليه زوجته وبدأت تتحدث إليه بلطف. لكنه رفض الإصغاء إليها وهو يُردّد :
" انتصر علي وأصبحت نهايتي قريبة!"
قالت المرأة " ميشكا, انهض واذهب إلى الأقنان في الحقل ,لكي تطلب منهم العودة إلى منازلهم وسوف يكون كل شيء على ما يرام . وستكون بعد ذلك قد نجوت من مخاطر أكبر, تبدو الآن متوتراً ومضطرباً جداً."
لكنه رّدد من جديد " انتصر علي, وقد ضعتّ!"
سألته زوجته بغضب " ما الذي تعنيه بذلك. لو ذهبت وفعلت ما أشرت به عليك فلن يكون هناك أي خطر عليك. ثم أضافت بحنان" تعال ميشكا ,سوف أجعلهم يُسرجون لك الفرس على الفور."
ثم أقنعته بامتطاء الفرس لكي يقوم بما رجته القيام به بشأن الأقنان.
عندما وصل ميخائيل إلى القرية فتحت له إحدى القرويات الباب لكي يدخل. لكن جميع سكان القرية كانوا لدى مشاهدتهم ناظر العمال الذي يخشاه الجميع قد فروا واختبؤوا في بيوتهم وفي الحدائق وفي غير ذلك من الأماكن الآمنة.
وعندما وصل ميخائيل آخر الأمر إلى السياج الآخر وجده مغلقاً, وبما أنه لم يتمكن من فتحه بنفسه وهو على ظهر حصانه ,كان قد صاح بأعلى صوته طالباً المساعدة , ولكن لم يُستجب أحد لصياحه., لذا ترجل عن الفرس وفتح البوابة. ولكن ,عندما كان على وشك امتطاء الحصان مجدداً وكان قد وضع إحدى قدميه علي الركاب كانت الفرس قد فزعت من بعض الخنازير ووثبت فجأة إلى جهة واحدة مما تسبب في تعثر مشرف العمال وما أدى إلى سقوطه على طرف السياج., وإلى أن يخترق أحد الأوتاد الحادّة معدته وبذلك سقط على الأرض وفقد وعيه...
وعندما وصل الأقنان إلى سياج القرية قرب المساء, كانت امتنعت خيولهم عن الدخول من السياج. بحث القرويون حول السياج عن سبب امتناع الخيول عن الدخول, وبذلك اكتشفوا جثّة الناظر الميت ... كانت جثته مُلقاة على وجهه غارقة في حوض من الدماء في المكان الذي سقط فيه... وكان بيتر ميكاييف الوحيد من بينهم الذي وجد ما يكفي من شجاعة للترجل من على حصانه والاقتراب من ذلك الشكل , في الوقت الذي كان فيه زملائه قد غادروا ودخلوا القرية عبر الطريق الذي يقع في الطرف الخلفي.
أغلق بيتر عيني الرجل الميت ووضع الجسد في عربة وأخذها إلى منزله...
وعندما علم النبيل بالحادث المشؤوم الذي تعرض له ناظر العمال لديه , واطلع على المعاملة الوحشية التي كان يتعامل بها مع من كانوا مرؤوسيه , كان على الفور قد أطلق الأقنان من عبوديتهم وتخصّص فقط بإيجار بسيط لقاء استخدامهم الأرض وغير ذلك من التسهيلات الزراعية.
وبذلك قد فهم القرويون بوضوح بأن قدرة الله على إنصافهم لم تكن قد تجلّت في الشرّ وإنما في الخير...