THE DEVOTED FRIEND

الصديق المخلص

للكاتب أوسكر وايلد

أخرج جرذ مائي رأسه من جحره ذات صباح . لذلك الجرذ عينان صغيرتان لامعتان وشعر لحية خشن رمادي اللون, وذنب طويل يشبه قطعة من المطاط الأسود . كانت فراخ البطّ الصغيرة الصفراء الشبيهة بطيور الكناري تسبح حول البحيرة.,  بينما كانت البطّة الأم الناصعة البياض ذات الساقين الحمراوين تحاول تدريبهم على الوقوف على رؤوسهم في الماء.

كانت تُكرّر القول:

" لن يُصبح لكم  قطّ  أي شأن في مجتمع البطّ  مالم  يكن بإمكانكم الوقوف على رؤوسكم في الماء."

وكانت من حين لآخر تعرض عليهم كيف يتم الوقوف على الرأس في الماء. لكن البطّ الصغير لم يكن  يلتف لما تقوله. كانوا صغار السن جداً وبذلك لم يفهموا معنى أو فائدة أن يكون لهم شأنهم في مجتمع البطّ...

صاح الجرذ المائي العجوز:

" كم هم متمردون هؤلاء الصغار, هم يستحقون بالفعل أن تتركهم والدتهم يغرقون".

وأجابت البطّة الأم:

" لا, لا شيء من هذا القبيل. لا يجوز أن يفتقر الأهل إلى الحلم, هناك مرّة أولى لكل شيء..."

قال الجرذ المائي:

" في الواقع, ليست لدي أية فكرة عن مشاعر الأهل تجاه أولادهم , فأنا  لست ربّ عائلة ., لم أكن قد تزوجت ولست أنوي ذلك . الحب بحدّ ذاته جيّد جداً لكن ما هو أرفع قيمة منه هي الصداقة, واست أرى في هذا العالم ما هو أنبل وأندر من صديق مخلص."

سأله طائر زقاقي كان جاثماً على شجرة صفصاف في مكان قريب من البحيرة وكان قد سمع المحادثة:

" أعلمني من فضلك, ما هي فكرتك عن واجبات الصديق المخلص؟"

قالت البطّة " هذا تماماً ما كنت أرغب معرفته أنا أيضاً " ثم عامت في الماء وابتعدت إلى آخر البحيرة, ووقفت هناك على رأسها لكي تعطي أولادها مثلاً جيداً عن طريقة العوم على الرأس داخل الماء..

قال الجرذ المائي" ما هذا السؤال الساذج؟ أتسأل عما أتوقعه من صديق مخلص؟ أتوقع منه بالطبع أن يكون مخلصاً لي وفي كل شيء."

قال الطائر وهو يسبح فوق الرذاذ الفضي ويرفرف بجناحيه الصغيرين" وما الذي ستقدمه له بالمقابل؟"

أجاب الجرذ المائي" لست أفهم ما تقصده؟"

قال الطائر " دعني أروي لك قصّة أعرفها عن هذا الموضوع."

سأله الجرذ المائي " أهي قصّة عني؟"  لو كانت هذه القصّة عن فسوف أصغي إليها فأنا أحب جداً قصص الخيال."

طار الطائر وحطّ في الأسفل بجانب الضفة وقال :

" نعم, هذه القصّة تنطبق عليك تماماً " ثم بدأ يروي قصّة الصديق المخلص.

قال الطائر:

" في سالف الأزمان,  كان هناك رجل ساذج مخلص يدعى هانس."

سأل الجرذ الصغير" هل كان متميّزاً ؟" أجاب الطائر :

"لست أعتقد أنه كان متميّزاً على الإطلاق,  ما عدا بما يتعلق بطيبة قلبه وبوجهه المستدير البشوش. كان هانس يعيش بمفرده في كوخ صغير  ويعمل طوال اليوم في حديقته, ولم يكن في البلدة هناك حديقة  بمثل جمال حديقته.

كانت حديقته تحوي على مختلف أنواع النباتات والزهور: خيشوم ,ورد دمشقي , ورود صفراء , زنابق , زعفران  وزهور البنفسج الذهبية ,البيضاء , الزرقاء  والأرجوانية, وكذلك النرجس الأصفر ,القرنفل , المسك ونبات العَترة.  كانت جميعها تُزهر بالترتيب وتتفتح حسب الفصول مع مرور الأشهر . كانت كل زهرة منها تُزهر في وقتها الواحدة تلو الأخرى., وبذلك كانت حديقته تحتوي دوماً على الأشياء الجميلة التي تُمتع النظر وعلى روائح ذكيّة  يشمّها المارون.

كان لهانس  العديد من الأصدقاء لكن أكثرهم إخلاصاً  (وهذا برأيه ) كان الطحّان ميلر. كان ذلك الطحان الثري مخلصاً بالفعل لهانس بحيث لم يكن يمرّ بجانب حديقته دون أن ينحني فوق الجدار لكي يقطف باقة كبيرة من الزهور أو حفنة من الأعشاب أو أن يملأ جيبه  بالكرز والبرقوق لو   كان مروره قد  صادف في موسم نمو الفاكهة  ( تعبير تهكمي) . كان الطحان ميلر يقول دوماً :

" على الأصدقاء الحقيقيين أن يتشاركوا في كل شيء " وكان هانس يهزّ رأسه ويبتسم ويشعر بالكثير من الفخر بأن يكون لديه صديق بمثل تلك الأفكار النبيلة.

بينما كان الجوار يجدون بأن من المستغرب بالفعل ألا يقوم ذلك الطحان الثري بإعطاء هانس أي شيء بالمقابل  رغم أن لديه في طاحونته المئات من أكياس الطحين المُخزنة بالإضافة إلى ستّ بقرات تدرّ الحليب  وقطيع كبير من الخراف. لكن هانس لم يكن يجهد ذهنه بمثل تلك الأمور , ولم يكن ما قد يجعله يشعر بالبهجة أكثر من سماعه تلك الأشياء الرائعة التي كان الطحان يقولها عن عدم أنانية الصديق الحقيقي...

كان هانس يعمل في حديقته  بكل جدّ  ومثابرة طوال فصول الربيع والصيف والخريف., وكان سعيداً جداً بذلك...لكنه عندما حلّ الشتاء ولم تعد لديه أية فاكهة أو زهور كي يبيعها في السوق , كان د بدأ يُعاني كثيراً من البرد والجوع ., وكما كان عليه في كثير من الأحيان أن يأوي إلى فراشه دون عشاء ما عدا ما لديه من  بعض الكمّثرى الجافة والبندق القاسي .

ورغم أنه كان قد أصبح وحيداً وبائساً  للغاية , إلا أن ذلك الصديق الطحان لم يعد يمرّ به أو يزوره على الإطلاق طوال تلك الفترة  وإنما اعتاد أن يقول لزوجته:

" لا فائدة  من ذهابي لزيارة هانس مع استمرار سقوط الثلج ., يُفضّل الناس عندما تواجههم المشكلات أن يبقوا بمفردهم ولا تكون لديهم أية رغبة بأن يزعجهم الغرباء!...  هذه هي فكرتي عن الصداقة وأنا متأكد من أنني على صواب!.. لذا سوف أنتظر قدوم الربيع لكي أزوره, وسوف يكون بإمكانه حينذاك أن يعطيني سلّة كبيرة من زهور الربيع التي ستجعلني أشعر بالسعادة ..."

أجابته زوجته التي كانت جالسة في مقعد مريح  بجانب نار دافئة من خشب الصنوبر:

" أنت بالفعل تراعي مشاعر الآخرين كثيراً, لاشكّ في ذلك. , نعم, أنت بالفعل كذلك,  ومن الممتع أن يسمعك المرء تتحدث عن الصداقة., وأنا متأكدة بأن الكاهن ذاته لا يمكن أن يتحدث بمثل هذه العبارات الجميلة كما تفعل أنت, رغم أنه يعيش في بيت من ثلاث طوابق, ولديه في إصبعه الصغير خاتماً ذهبياً.

لكن أصغر أبناء الطحّان سناً قال :

" لكن أليس بإمكاننا أن ندعو هانس للقدوم إلى هنا ؟ لو كان هانس يعاني من المشاكل  فسوف أعطيه نصف حصتي من الثريد وسوف أريه الأرانب البيض."

لكن الطحّان صاح به:

" كم أنت غبي أيها الفتى ! لست أرى ما الفائدة من إرسالك إلى المدرسة, يبدو أنك لا تتعلم شيئاً... لماذا, لو جاء هانس إلى هنا وشاهد ما لدينا : نار دافئة  وعشاء جيد وكعكة حلوى كبيرة , فقد يجعله ذلك يشعر بالغيرة مما لدينا  وبالحسد , والحسد من الأمور الرهيبة التي  تُفسد نفس المرء ., ولن أسمح بالطبع بأن يحدث مثل ذلك لهانس فأنا أفضل من لديه من الأصدقاء . سوف أرعاه على الدوام وسوف أحرص على ألا يتعرّض لأية إغراءات. عدا عن ذلك  فلو جاء هانس إلى هنا , قد يطلب مني أن أقرضه بعض الطحين وهذا ما ليس بإمكاني أن أفعله., الطحين شيء والصداقة شيء آخر, ولا مجال للخلط بينهما.

كان بإمكان أي شخص أن يُدرك بأن ميلر الطحان لم يكن قد تلفّظ  بتلك العبارات عن غير قصد  أو بأسلوب يختلف عما كان  يقصده بالفعل من ذلك...

قالت زوجة الطحان وهي تسكب لنفسها كأسا كبيرة من الشاي الدافئ :

" كم تتحدث بحكمة. أكاد أشعر بالدوار, فما تقوله يبدو كما لو أنه يُقال في موعظة كنيسة."

أجاب الطحّان بتفاخر :

"قد يتصرف الكثيرون بشكل جيّد لكن القليل منه يتحدثون بأسلوب جيد مما يُشير إلى أن التحدث هو الأكثر صعوبة بين الأمرين, كما أنه الشيء الأفضل."

ثم نظر بتجهّم إلى ابنه الصغير الذي شعر بالكثير من الخجل  مما أبداه من ملاحظة حول هانس , وكان قد أحنى رأسه للأسفل وقد اصطبغ وجهه بحمرة قانية ثم بدأ يبكي. ثم قال الطحان:

" لازال الفتى صغير السن جداً لذا يجب أن نصفح عنه."

سأل الجرذ المائي " أهذه هي نهاية القصّة؟."

أجاب الطائر" لا,  بل هذه بدايتها التأكيد."

قال الجرذ المائي " لابد أنك لست من هذا العصر, في هذه الأيام كل من يروي قصّة يبدأها من نهايتها ثم ينتقل إلى بدايتها لكي يُنهيها بعد ذلك في منتصفها. هذه هو المنهج الجديد...  كنت سمعت ذلك أمس من أحد النقّاد بينما كان يتجول حول البحيرة مع أحد الشبان.. كان قد تحدث عن الموضوع مطوّلاً., وأنا على يقين بأنه على حقّ., لأنه يرتدي نظارة زرقاء اللون, كما أنه أصلع الرأس, وكان يجيب بتهكم على كل ملاحظة أبداها الشاب الذي يرافقه.   وما أرجوه الآن هو أن تستمر في سرد قصتك. لأنني أحببت ذلك الطحان كثيراً, كما أن لدي أيضاً مثل تلك المشاعر الجميلة, وبذلك هناك الكثير من التعاطف بيننا."

قال الطائر وهو يقفز بقدم لأخرى" حسناً ".

وكان الطحان, على الفور من انتهاء فصل الشتاء, وعندما بدأت زهور الربيع تتفتح من جديد أشبه بنجوم ذهبية اللون., قد أعلم زوجته بأنه سوف يذهب لرؤية هانس.

وهتفت زوجته :

" كم أنت طيب القلب ؟ أنت تفكر دوماً بمشاعر الآخرين. ولكن لا تنسى بأن عليك أن تأخذ معك سلًة كبيرة لكي تجلب الزهور."

وبذلك كان الطحّان قد أوقف العمل في طاحونته وتوجّه نحو التلّ وهو يحمل تحت ذراعه سلّة كبيرة.

قال الطحّان " عِمت صباحاً هانس "

وابتسم  هانس ابتسامة لطيفة وأجاب " عِمت صباحاً."

قال الطحّان " كيف كان وضعك أثناء فصل الشتاء؟"

قال هانس " في الحقيقة من اللطف أنت تسألني عن ذلك , هذا لطف كبير منك بالفعل . أخشى أن أقول بأنني كنت بالأحرى قد عانيت كثيراً , لكن الربيع حلّ الآن  وأنا سعيد جداً., وها قد بدأت جميع الزهور  تنمو من جديد وبشكل جيد."

قال الطحّان" كنا أنا وزوجتي نذكرك دوماً أثناء فصل الشتاء ونتساءل كيف تسير الأمور معك؟"

قال هانس " هذا لطف منكم , اعتقدت  بأنكم نسيتموني."

قال الطحّان "  ما هذا هانس؟ , أنا أعجب من موقفك هذا, الصداقة لا يمكن أن تُنسى . وهذا هو الشيء الرائع  فيها لكنني أخشى ألا تكون قد فهمت السرّ الشاعري للحياة.  وبالمناسبة, كم تبدو زهورك جميلة!"

قال هانس " هي كذلك بالتأكيد , ومن حسن حظي أن لدي الكثير منها., سوف أحملها إلى السوق لكي أبيعها إلى ابنة

العمدة,  وبذلك سوف يكون بإمكاني أن أستعيد بقيمتها العجلة التي كنت رهنتها."

قال الطحّان" أتريد أن تستعيد عجلتك ؟  لا أظنك تعني بأنك لم تكن بعتها ؟ كم كان ذلك من الخبل؟"

قال هانس " حسناً , في الواقع كنت مُجبراً على ذلك . أترى , كان فصل الشتاء قاسياً جداً بالنسبة إلي , ولم يكن لدي ما يكفي من مال حتى لشراء قوتي اليومي . كنت في البداية قد بعت أزرار معطفي المصنوعة من الفضة, ثم بعت سلسلتي  الفضية,  ثم بعت غليوني الكبير إلى أن اضطررت في النهاية إلى بيع عجلتي, لكنني سوف أسترد من جديد كل ما كنت بعته سابقاً. "

قال الطحّان" سوف أعطيك عجلتي., ليست في الواقع بالتعويض الجيّد جداً لأن أحد جانبيها مكسور كما ستحتاج إلى إصلاح إحدى العجلات ., لكنني سأعطيها لك مع ذلك. أعلم بأن هذا كرم كبير مني, وقد يعتبر الكثيرون أن تنازلي عنها من الخبل, لكنني لست مثل غيري من الأشخاص في هذا العالم, فأنا أؤمن بأن الكرم هو أساس الصداقة  كما أن لدي بالإضافة إلى ذلك عربة نقل جديدة. نعم , بإمكانك الآن  أن تُريح ذهنك فسوف أعطيك عربتي."

قال هانس  وقد أشرق  وجهه المستدير بالسرور:

" هذا كرم منك بالفعل , بإمكاني إصلاحها بكل سهولة بما أن علي  أن أضع لوحاً من الخشب على سطح المنزل."

قال الطحّان :

" أهذا صحيح ؟ هذا ما أحتاجه أيضاً لسقف الإصطبل., هناك ثقب كبير فيه, وإن لم أقم بإصلاح السقف على الفور فسوف تُصيب الرطوبة الذرة., من حسن الحظ أنك أشرت إلى ذلك! من الرائع أن المرء عندما يقوم بعمل صالح فلابد أن يُثمر ذلك بشكل أو بآخر., كنت قد أعطيتك عربتي وسوف تعطيني الآن لوح الخشب الذي لديك. من المؤكد أن العربة تساوي أكثر من لوح الخشب, لكن الحقيقة أن الأصدقاء لا يلتفتون فيما بينهم لمثل هذه الأمور... رجاء, اذهب على الفور واجلب لي لوح الخشب لأن علي أن أبدأ على الفور بإصلاح سقف الإصطبل .

هتف هانس الطيّب " سوف أفعل ذلك بالتأكيد . سوف أجلب لك لوح الخشب على الفور. والآن, اركض وسحب لوح الخشب من العليّة وأحضره إليه.

نظر الطحّان إليه وقال:

" هذا اللوح الخشبي ليس كبيراً , سوف أصلح بواسطته سقف الإصطبل لدي , لكنني أخشى ألا يتبقى لك منه  بعد ذلك ما قد يكفي لإصلاح عربتك , وهذه ليست غلطتي بالطبع . والآن ,  وأنا متأكد الآن , بما أنني سوف أعطيك عربتي, بأنك سوف تعطني بعض زهورك. ها هي السلّة ولتتأكد من ملأها تماماً بالزهور."

قال هانس وكان ذلك بالأحرى بحزن لأن السلّة  كانت كبيرة جداً  مما يعني بأنه لو ملأها بالزهور فلن يتبقى لديه ما يبيعه,  و كان يرغب كثيراً باستعادة أزراره الفضية :

"أتريدني أن أملأها تماماً ؟"

أجاب الطحّان " حسناً, ما دمت قد أعطيتك عربتي فهل من الكثير أن أطلب منك بعض الزهور. قد أكون مخطئاً

لكنني اعتقدت بأنه ليس هناك أية أنانية  في صداقة حقيقية من هذا النوع."

صاح هانس الطيّب :

" يا صديقي,  يا أفضل أصدقائي,  بإمكانك أن تأخذ كل ما لدي في الحديقة من زهور ., فمن الأفضل لي أن أحظى بتقديرك من أن أستعيد أزراري الفضية..."

ثم ركض واقتطف أجمل ما لديه من زهور الربيع وملأ بها سلّة الطحان.

قال الطحّان " إلى اللقاء هانس" ثم انطلق وعلى ظهره لوح الخشب كتفيه وهوة الزهور.

وكان هانس قد عاد إلى فلاحة الأرض بكل سرور لأنه سوف يحصل على العربة.

وفي اليوم التالي , وبينما كان هانس يثبّت شجرة مليئة بالرحيق على طرف الشرفة , سمع صوتاً يناديه من الطريق. وبذلك قفز إلى الأسفل  وركض إلى الحديقة ونظر من خلف الجدار., كان ذلك ميلر الطحّان وعلى ظهره كيس كبير من الطحين.

قال ميلر " عزيزي هانس , هل تمانع في حمل هذا الكيس عني إلى السوق؟"

قال هانس " آسف جداً فأنا في غاية الانشغال اليوم, علي أن أقوم بتثبيت جميع العرائش, كما أن علي سقاية جميع النباتات وتشذيب العشب."

قال الطحّان ميلر " أعتقد بأنه ليس من المناسب أن ترفض ذلك ما دمت سأعطيك عربتي."

حينئذ صاح هانس بأسف " لا, لا تقل هذا , لن  أتصرف تجاهك بأسلوب غير ودّي ولأي سبب في العالم."

ثم ركض وكان بعد أن ارتدى معطفه قد حمل ذلك الكيس الكبير على كتفيه  وهو يتعثر.

كان ذلك اليوم من الأيام الحارة جداً, وكانت الطريق مُغبرة جداً.,  وبذلك كان هانس قبل أن يصل إلى الميل السادس قد تعب للغاية واضطر للجلوس لبعض الوقت جلس لكي يستريح , لكنه تابع سيره بعد ذلك  وبكل بسالة إلى أن وصل أخيراً  إلى السوق . وبعد أن انتظر لبعض الوقت كان قد  تمكن من بيع الطحين بسعر جيد جداً ,  ثم عاد على الفور إلى المنزل لأنه كان يخشى أن يتعرض للسرقة لو تأخر في العودة.

حدث هانس نفسه وهو يأوي إلى فراشه:

" كان  هذا اليوم مُتعباً للغاية , لكنني سعيد لأنني لم أكن الفارغ. لب الطحّان ميلر فهو أفضل أصدقائي كما أنه  سوف يعطيني عربته."

وفي صباح اليوم التالي وبينما كان هانس لايزال في فراشه جاء إليه الطحّان  في وقت مبكر لكي يأخذ المال وكيس الطحين الفارغ . قال الطحّان لهانس:

" في الحقيقة أنت كسول جداً ., وعليك أن تعمل بجد أكثر بما أنني سأعطيك عربتي. البطالة من أسوأ الخطايا وأنا بالتأكيد لا أحب أن يكون أحد أصدقائي كسولاً أو بليداً. يجب ألا تتضايق من تحدثي معك بهذا قدّم خدمة لم أكن سأفعل ذلك بالطبع لو لم تكن صديقي, فما فائدة الصداقة إن لم يكن بإمكان المرء أن يقول ما يعنيه تماماً ؟  بإمكان أي شخص أن يقول لك ما قد يسرّك من كلام مُنمّق, وأن يمتدحك لكي يحصل على رضاك, لكن الصديق الحقيقي يقول دوماً الأشياء التي قد تزعج دون أن يهتم فيما إذا كان ذلك سيتسبب لصديقه بالألم.,  لأنه يعلم بأنه يكون بذلك قد قدّم  خدمة لصديقه."

قال هانس الطيّب  وهو يفرك عينيه  وينهض من فراشه:

" أنا آسف جداً, لكنني كنت متعباً للغاية لذا رأيت أن أستلقي في فراشي لبعض الوقت لكي أستمع إلى تغريد الطيور. هل تعلم بأنني أعمل دوماً بشكل أفضل عندما أستمع إلى تغريد الطيور ؟"

قال الطحّان  وهو يضرب هانس على ظهره :

" حسناً , أنا مسرور بذلك, لكنني أريدك أن ترتدي ملابسك على الفور وأن تأتي معي  لكي تصلح لي سقف الإصطبل."

كان هانس المسكين متلهفاً جداً للذهاب إلى حديقته فلم يكن قد وجد الوقت لرّي نباتاته منذ يومين , لكنه لم يرغب برفض طلب ميلر الطحّان  وهو من خيرة أصدقائه.  لذا سأله بخجل وبصوت خافت " أتعتقد بأن من غير الملائم أن أقول لك بأنني مُنشغل."

أجابه ميلر " في الواقع , أعتقد بأنني لست أطلب منك الكثير إن كنت طلبت منك أن تصلح لي سقف الإصطبل, خاصة  وأنني سوف أعطيك عربتي. لكنني سوف أقوم  بإصلاحه بنفسي في حال رفضك القيام بذلك."

صاح هانس " لا ! لا! وبأي ثمن"

وكان قد قفز من فراشه وارتدى ملابسه وتوجّه على الفور إلى الإصطبل .

عمل هانس هناك طوال اليوم وإلى وقت الغروب. وعندما حلّ الغروب كان  ميلر قد جاء إليه لكي يشاهد كيف تجري الأمور. وكان عندما شاهد السقف قد قال بسرور:

" هانس , لقد أصلحت السقف بشكل جيد جداً ."

قال هانس وهو ينزل من السلم " ها قد تم إصلاحه تماماً."

أجابه ميلر " ليس هناك ما هو أفضل من العمل الذي يقوم به المرء لأجل لآخرين."

أجاب هانس وهو يجلس ويُجفف جبينه المُتعّرق :

" ما أسمعك تقوله الآن يعتبر بالفعل تقريظاً رفيعاً لي بالفعل . هو بالتأكيد كذلك, لكنني أخشى ألا تكون لدي مثل هذه الأفكار الرفيعة التي لديك."

قال ميلر " أووه... لا بأس, لابأس ,  سوف تأتي إليك مع الوقت, لكن عليك أن تبذل المزيد من الجهد. كل ما عليك الآن أن تُثبت بتصرفك إخلاصك كصديق, وسوف ترى كيف ستصبح لديك مثل هذه المبادئ ذات يوم! "

سأل هانس بسذاجة " هل تعتقد فعلاً بأنني سوف أفعل ذلك؟"

" أجاب ميلر " ليس لدي أي شك في ذلك. وبما أنك أنهيت إصلاح السقف,  فمن الأفضل أن تذهب الآن إلى منزلك لأنني أريدك أن تقود غداً قطيع الأغنام إلى الهضبة بدلاً عني."

وكان هانس البائس قد  خشي الردّ على  ما طلبه الطحّان بأي شيء... وبذلك الطحان في صباح اليوم التالي, قد جلب القطيع إلى منزل هانس, وبذلك  قاده هانس إلى الهضبة., وكان ذهابه إلى الهضبة وعودته منها قد استغرق منه  طوال اليوم...

كان هانس قد شعر بعد عودته  بتعب شديد, و بذلك كان قد استغرق في  النوم على كرسيه وليس في سريره  ولم يستيقظ إلى أن انتصف النهار.

ذهب على الفور إلى حديقته  وهو يحدّث نفسه:

" سوف أمضي الآن وقتاً ممتعاً مع زهوري."

ولكن , لم يكن بإمكانه أن يتفرغ  للعناية بزهوره لأن صديقه  الطحّان ميلر كان يأتي إليه  كل فترة لكي يطلب منه تأدية بعض المهام التي كانت تأخذ منه وقتاً طويلاً, أو لكي يطلب مساعدته في أعمال طاحونته.

كان هانس قد أصبح في غاية الاكتئاب لأنه بدأ يخشى أن تعتقد أزهاره بأنه نسيها, لكنه كان يُعزّي نفسه  بما كان يردّده  له ميلر- أعز صديق لديه-  وكان يقول "كما أنه  سوف يمنحني عربته, وهذا الأمر بالذات يعتبر بمثابة الإحسان إلي."

وهكذا , كان هانس البائس يعمل طوال الوقت لصالح ميلر  بينما كان الأخير يُردّد له دوماً الكثير من الأشياء الجميلة حول الصداقة., وكان هانس يُدونها في كتيب صغير لكي يقرأها ليلاً... ذلك لأنه كان تلميذاً مُجداً!...

وذات ليلة, وبينما كان هانس جالساً بجانب المدفأة وصلت إلى مسامعه طرقة قوية على الباب. كانت تلك الليلة ليلة عاصفة , وكانت الرياح تعصف وتدوّي بشكل مخيف حول المنزل ., لذا اعتقد هانس في البداية بأن ذلك الصوت قد نجم عن العاصفة . لكن تلك  الضربة القوية تكررت ثانية ثم تلتها ضربة ثالثة أقوى من أي من الضربات الأخرى.

لذا حدث هانس نفسه:

" لابد أنه أحد المسافرين البؤساء وأسرع نحو الباب."

لكنه عندما فتح الباب وجد الطحّان ميلر واقفاً هناك ممسكاً بإحدى يديه مصباحاً وباليد الأخرى عصاً.

قال ميلر " عزيزي هانس , لدي مشكلة كبيرة.,  سقط ابني الصغير من أعلى السلالم وجُرح ., عليّ الذهاب لإحضار الطبيب على الفور, لكنه يقيم في مكان بعيد جداً لذا خطر ببالي بأنه ربما كان من الأفضل أن تذهب أنت بدلاً عني. أنت تعلم  بأنني سوف أعطيك عربتي لذا فمن العدل أن تؤدي لي هذه الخدمة بالمُقابل ."

هتف هانس " نعم بالتأكيد, هذا بالتأكيد , فأنا أعتبر مجرد قدومك إلي لطلب المساعدة بمثابة التقدير لي ., سوف انطلق على الفور, لكن عليك أن ترشدني بمصباحك لأن الليلة مظلمة وأخشى أن أسقط في القناة.
لكن  ميلر أجابه " آسف جداً,  فهذا هو مصباحي الجديد ولو كُسر فسوف تكون تلك خسارة كبيرة لي."

قال هانس " لابأس , لابأس , لا تقلق سوف أتدبر الأمر بدون المصباح. ثم تناول الرياح تعصف الفراء ووضع قبعة على رأسه ووضع لفاعاً  حول عنقه. وانطلق.

كانت العاصفة تهب بشدّة  في تلك الليلة ! وكان الظلام دامساً., ولم يكن بإمكان هانس يكاد  يرى أمامه., وكانت الرياح  تعصف بشدة  بحيث كان من العسير عليه  أن يظل واقفاً, لكنه كان مع ذلك شجاعاً جداً , وبذلك استطاع أن يصل إلى بيت الطبيب بعد مسيرة دامت ثلاث ساعات.  وعندما طرق الباب. أخرج الطبيب رأسه من تحت الملاءات وصاح:

"من بالباب؟"

أنا هانس أيها الطبيب.""

" ما الذي تريده هانس؟"

" سقط ابن الطحان ميلر من أعلى السلالم وجُرح ويطلب منك ميلر القدوم إليه في الحال."

قال الطبيب " حسناً"  ثم طلب من الخادم أن يهيئ له حصاناً ومصباحاً وانطلق باتجاه منزل ميلر يتبعه هانس.

لكن العاصفة  كانت قد أصبحت أسوأ فأسوأ, وكان المطر ينهمر بشدّة,  وبذلك لم يعد بإمكان هانس أن يرى إلى أين عليه أن يتجه  كما لم يعد بإمكانه أن يكبح حصانه . وبذلك كان قد ضلّ طريقه وبدأ يتخبط في المستنقع الذي هو مكان خطر جداً تنتشر فيه حفر عميقة., وبذلك كالتالي, لبائس آخر الأمر  قد غرق هناك...

وفي اليوم التالي , عثر بعض الرجال على جثته التي كانت طافية في بركة كبيرة من المياه وحملوه إلى كوخه...

كان الجميع  قد شاركوا في تشييع هانس نظراً لأنه كان من الأشخاص المحبوبين. كما كان الطحان المشيع الرئيسي بينهم حيث قال:

" بما أنني كنت أفضل صديق له فمن العدل أن أتخذ المكان الأفضل في تشييعه. وكان بذلك قد مشى على رأس الموكب بردائه الأسود الطويل,  وكان من حين لآخر يجفف عينيه بمنديل كبير.

جلس الجميع بعد التشييع في النزل  يتناولون الحلوى ويشربون الشاي,

حينئذ قال الحداد" من المؤكد أن وفاة هانس الطيّب تُعتبر خسارة كبيرة لنا جميعاً. "

وأجاب ميلر الطحان " هي في جميع الأحوال خسارة لي بالذات , كنت سأعطيه عربتي,  ولست أدري ما الذي سأفعله بها الآن فهي تُعيق تحركاتي في المنزل., كما أنها  بوضع سيء جداً لذا لم يكن بإمكاني أن أبيعها لكي أحصل على ثمنها.  سوف أحرص منذ الآن على ألا أكون بهذا الكرم وبألاّ أعطي أي شيء مما لدي للآخرين..."

قال الجرذ المائي بعد فترة تردد طويلة:

" حسناً وماذا بعد ؟

أجاب الطائر " حسناً, هذه هي نهاية القصّة."

سأل الجرذ  المائي " ولكن ما الذي آل إليه الطحّان؟"

أجاب الطائر " أووه! في الحقيقة لست أعلم ما حلّ به,  كما أنني  لست مهتماً بذلك بالتأكيد."

قال الجرذ المائي " من الواضح تماماً أنك بطبيعتك لست ممن يتعاطفون مع الآخرين ."

قال الطائر" أخشى ألا تكون قد فهمت المغزى الأخلاقي من هذه القصة. صاح الجرذ المائي " ماذا؟"

" المغزى الأخلاقي"

"هل تقصد القول بأن لتلك القصة مغزاها الأخلاقي ؟"

قال الطائر " بالتأكيد. حسناً, للجرذ المائي بكل حنق " حقاً ؟ حسناً , أعتقد بأنه كان عليك أن تُعلمني بذلك قبل أن تبدأ بسرد القصة., ولو كنت فعلت ذلك لما كنت استمعت إليك , وإنما كان علي أن أهزأ بها كما فعل ذلك الناقد.,  ومع ذلك بإمكاني أن أقول لك ذلك الآن . ثم لف ذنبه حوله وعاد إلى جحره.

سألته البطّة التي جاءت بعد بضع دقائق :

" كيف وجدت ذلك الجرذ المائي؟ ربما كان في رأيه العديد من النقاط الجيدة , ولكن من جهتي , لدي مشاعر الأمومة وليس بإمكاني على الإطلاق أن أنظر إلى شخص غير متزوج دون أن تملأ عينيّ الدموع."

أجابها الطائر " أخشى أن أكون قد ضايقته بتلك الرواية, لكن الحقيقة أنني كنت قد رويتها له على سبيل تذكيره بما لها من مغزى ٍأخلاقي."

قالت البطّة "  ويُعتبر هذا الأمر بالتأكيد  من أخطر الأشياء التي قد يفعلها المرء..."

وأنا أوافقها تماماً على ما قالته... "

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية