A CHILD IN THE GRAVE
طفل في القبر
للكاتب هانس كريستيان أندرسون
كان ذلك اليوم يوماً حزيناً جداً, وكانت قلوب كل من في المنزل قد انفطرت من الأسى., ذلك لأن أصغر الأطفال, طفل لم يكن قد بلغ بعد سوى الرابعة قد توفي., وكانت فرحة وأمل وسعادة الأهل قد ماتت معه... بقيت ابنتان أكبر سناً : كانت الاثنتان فتيات صالحات وجميلات., لكن المرء عندما يفقد أحد أولاده يشعر دوماً بأن من فَقده منهم هو الولد الأغلى من بينهم. وعندما يكون ذلك الطفل المتوفى الطفل الأصغر سناً والصبي الوحيد فلابد أن تكون المأساة حينئذ أكثر كآبة.
حزنت الشقيقتان كما تحزن القلوب الصغيرة وكان ما ضاعف حزنهما مشاهدتهما ما كان فيه والديهما من أسى عميق... كان قلب الأب قد أذعن لقضاء الله, لكن الأم كانت قد غرقت تماماً في أحزانها.
كانت قد انكبت على رعاية الطفل المريض ليلاً نهاراً., مرّضته ورعته وحملته على صدرها كما لو أنه كان جزءاً من نفسها., ولم يكن بإمكانها أن تتقبّل واقع موت الطفل, وبأنه يجب أن يوضع في تابوت لكي يرقد رقدته الأخيرة تحت الأرض...
كانت قد أملت بألا يأخذ منها الله (عزّ وجلّ) حبيبها الصغير. وكانت عندما حدث ما خالف آمالها وتوقعاتها, وعندما لم يعد هناك أي شك بما حدث, قد قالت بكَرب مَحموم:
" لم يكن الله من قدّر موت ولدي , لكن كانت تلك الأرواح الشريرة التي تتحكم بالأرض وتعمل وفق إرادتها دون أن تأبه بدعوات أم بائسة..."
وبذلك كانت, بما أصيبت به من حزن عميق قطع نياط قلبها, قد سقطت في هاوية الخطيئة... بدأ إيمانها يتزعزع وبدأت الأفكار السوداء تغزو ذهنها حول الموت وحول الحالة المستقبلية بعد الموت. حاولت جاهدة أن تتقبّل أن الإنسان ليس سوى مخلوق من تراب وبأن حياته ووجوده بيد الله ( عزّ وجلّ) ولابد أن ينتهيا بموته . لكن كل تلك الأفكار العقلانية لم تكن لتجعلها تشعر بالسكينة. كانت قد أصبحت في حالة من اليأس بحيث كان من المستحيل أن يتمكن أحد من سبر أغوار نفسها . وكانت في تلك الساعات العصيبة قد توقفت عن البكاء , وحتى أنها لم تعد تفكر بأنه لازال لديها ابنتين , كما لم تعد تلحظ أو تأبه لدموع زوجها التي كانت تبلل جبينها. كانت أفكارها كُلياً مع الطفل المتوفى., وكأن وجودها بالكامل قد طُوّق بذكريات ذلك الصغير الغالي, وبكل كلمة بريئة كان قد تفوّه بها.
ولم تكن الأم عندما جاء يوم التشييع الأخير لذلك لطفل الصغير, قد ذاقت طعم النوم لليالي طويلة , لكنها في فجر ذلك اليوم كانت, لشدّة الإرهاق, قد غرقت في نوم عميق في الوقت الذي تم فيه حمل النعش إلى غرفة بعيدة حيث تم إغلاقه هناك لتجنيبها سماع صوت ضربات المطرقة... وعندما استيقظت الأم البائسة ورغبت برؤية طفلها للمرة الأخيرة قال لها زوجها وهو يزرف الدموع :
" قمنا بإغلاق التابوت! كان من الضروري أن نفعل ذلك.!"
قالت الزوجة المفجعة وهي تنتحب وقد فقدت صوابها لشدة الحزن:
" إن كان الله (عز وجلّ) لم يجب دعواتي فكيف بإمكاني أن أتوقع ذلك من البشر..."
ثم تم حمل النعش إلى القبر بينما جلست الأم الحزينة مع ابنتيها. كانت تنظر إليهما دون أن تراهما لأن أفكارها كانت في مكان بعيد, مكان بعيد جداً عن بيت العائلة. كانت قد استسلمت كلياً لحزنها وكانت لشدة حزنها تتمايل من الأمام إلى الوراء كما قد تُقاذف أمواج البحر سفينة دون بوصلة .
مرّ يوم الدفن وتلته أيام مُماثلة من الحزن ومن الألم النفسي الُمضنِ . كان الزوج المُبتلى والابنتان الحزينتان يحاولون تعزيتها بعيون تملأها الدموع وبنظرات يملأها الأسى, لكنها لم تكن تتقبل منهم حتى سماع عبارات المواساة., وبالفعل , فماهي عبارات العزاء التي بإمكان المرء أن يقولوها في الوقت الذي يكون فيه قلبه يكاد ينفطر من الأسى...؟
لم يعد بإمكانها أن تنام على الإطلاق مع أن النوم كان الوسيلة الوحيدة التي قد تساعدها بما سيمنحها من قوة بدنية وبما سيغمر به روحها من سكينة., إلى أن تمكّنوا أخيراً من إقناعها بأن تتمدد فقط على سريرها. وبذلك كانت تتمدد في سريرها وتبقى ساكنة كما لو أنها استسلمت للنوم.
وذات ليلة, كان زوجها قد أصغى إلى أنفاسها كما يفعل دوماً كان قد وجدها ساكنة تماماً مما جعله يعتقد بأنها كانت قد وجدت أخيراً الراحة والعزاء بالنوم. ضمّ الزوج الحزين يديه معاً وأخذ يُصلّي شكراً لله إلى أن استغرق في نوم عميق., وبذلك لم يشعر بزوجته التي نهضت من فراشها وارتدت ملابسها ثم تسلّلت خارج المنزل بكل هدوء لكي تذهب إلى المكان الذي تهيم حوله أفكارها باستمرار... ذهبت إلى قبر طفلها...
توجّهت إلى المدفن عبر الحقل., ولم يرها أحد وهي تمشي أشبه بشبح كما لم تكن قد رأت أحد. كان نظرها موجّهاً نحو الشيء الوحيد الذي كان ذهنها يطوف حوله.
كانت تلك الليلة من ليالي أوائل شهر أيلول ( سبتمبر), ليلة جميلة تُضيئها النجوم وكان الجو عليلاً وساكناً. دخلت فناء المقبرة ووقفت أمام القبر الصغير الذي يبدو أشبه بباقة من الزهور العَطِرة. جلست وانحنت برأسها نحو القبر كما لو أن بإمكانها أن ترى طفلها من خلال التراب الذي يُغطيه... طفلها الصغير الذي ليس بإمكانها أن تنسى ابتسامته المُفعمة بالحيوية , ولا أن تنسى ذلك التعبير اللطيف الذي كان يبدو في عينيه حتى عندما كان على فراش المرض. كم كانت نظرته إليها مُفعمة بالعاطفة . كانت تنحني عليه وتُمسك بين يديها بيده الشاحبة التي لم يعد بإمكانه أن يرفعها!.. كانت تجلس إلى جانب سريره النقّال الصغير وها هي الآن جالسةً إلى جانب قبره... بإمكانها الآن أن تبكي هنا بكل حريّة... وبدأت دموعها تنهمر بغزارة على القبر. ثم سمعت فجأة صوت من يُحّدثها عن قرب. كان ذلك الصوت عميقاً جداً لكنه كان واضحاً بحيث يصل إلى قلبها:
" أنت تتمنين الآن لو كان بإمكانك النزول إلى القبر لكي تكوني إلى جانب طفلك. أليس كذلك ؟ "
نظرت إلى الأعلى. وجدت إلى جانبها رجلاً ملتفاً بعباءة سوداء حُجب وجهه تماماً بغطاء يستر الرأس والعنق معاً., لكنها تمكنت بنظرها الثاقب من أن تتبيّن ملامحه, كانت نظرته متجهّمة لكنها توحي بالثقة وكانت العينان تشعان بألق الشباب.
ردّدت ما قاله بنبرة من اليأس والتضرّع :
"أتمنى أن أنزل إلى تحت... إلى طفلي "
سألها ذلك الشكل " هل تجرؤين على ذلك ؟ أنا الموت."
أحنت رأسها دِلالة على القبول. وفجأة, بدا لها بأن النجوم أخذت تلمع وبأن القمر البدر يُلقي بنوره على الزهور المتعددة الألوان التي تنتشر فوق ذلك القبر الصغير.
ثم أزيحت التربة التي تكسو القبر أشبه بستارة عائمة, وغاصت الأم إلى الأسفل. كان الشبح قد كساها برداء أسود وكان الظلام الدامس قد انغلق حولها ولفّها بظلمة الموت...غاصت بعمق أكثر فأكثر وأكثر مما بإمكان أي مِجراف أن يخترق التربة , إلى أن أصبح فناء المقبرة فوق رأسها. ثم تم كشف الرداء الذي كان يُغطيها ووجدت نفسها في ساحة واسعة ذات أبعاد شاسعة يسطع فيها نور أشبه بضوء الفجر., وكان طفلها خلال لحظة قد ظهر أمامها وهو يبتسم... كان أجمل من أي وقت مضى . ضمته إلى صدرها بصَيحة مكتومة. ثم سمعت من بعيد ... من بعيد جداً ... صوت ألحان موسيقية رائعة. ثم أصبحت تلك الألحان أقرب فأقرب... لم يكن قد سبق لها أن سمعت مثل تلك الألحان العذبة., كانت الألحان تصل إلى مسامعها عبر ستارة كبيرة داكنة تفصل مناطق الموتى عن أرض الخلود ثم سمعت صوت طفلها يقول:
" أمي الحبيبة ! أمي الرقيقة الحنونة!... كان تعرف ذلك الصوت جيداً... ذلك الصوت المحبب إليها ..وتلا ذلك قبلة بعد قبلة عبر ضياء لانهائي , ثم أشار الطفل إلى الستارة المظلمة وقال:
"أمي , لا يوجد على الأرض ما هو أجمل مما يوجد هنا . أترينهم جميعاً ؟ آه ...هذه هي السعادة الحقيقية... حدّقت الأم بعيون أهل الأرض , ولكن لم يكن بإمكانها أن تشاهد ما كان يشاهده ذلك الطفل الذي استدعاه الله ( عزّ وجلّ) إليه... كان بإمكانها أن تسمع فقط صوت الموسيقى ولكن لم يكن بإمكانها أن تسمع أي من الكلمات , الكلمات التي كان عليها أن تؤمن بها. ثم قال الطفل :
" أمي!.. أتعلمين؟ أصبح بإمكاني الآن أن أطير في جنة الله مع باقي الأطفال السعداء., وسوف أطير إلى هناك الآن., لكنك لو بكيت لأجلي كما تفعلين الآن فلن تريني ثانية. ومع ذلك سوف أذهب إلى هناك بكل سرور. هل بإمكاني أن أطير الآن؟ سوف تأتين ثانية لرؤيتي أليس كذلك ؟ ألن تفعلي ذلك يا أمي الغالية ؟"
توسلت إليه الأم " آه يا حبيبي !... ابق هنا, ابق هنا للحظة واحدة فقط, لمرة واحدة فقط كي أتمكن من النظر إليك ولكي أقبلك وأضمّك إلى صدري."
ثم حضنت طفلها وأخذت تُقبله . لكنها سمعت من يناديها من فوق., ما الذي قد يعنيه ذلك ؟ كان قد تم النطق باسمها بالفعل ولكن بصوت حزين.
قال الطفل" أ تسمعين أمي ؟ هذا أبي يناديكِ."
وكانت بعد لحظات قد سمعت شبه تأوهات عميقة كما لو أن هناك من يبكي. قال الطفل :
" هما أختيّ, لم تنسيهما بالتأكيد."
وبذلك كانت الأم المفجعة قد تذكرت من تركتهم خلفها وتملّكها فزع شديد. نظرت حولها في ذلك الظلام الحالك . كانت هناك أشكال تتنقل بسرعة من حولها. خُيل إليها أنها تعرّفت على البعض منهم, كانوا يطيرون من خلال مناطق الموت نحو الستارة السوداء ويختفون خلفها.
حدثت نفسها "قد يكون زوجها قد مرّ من هنا مع ابنتيها؟ لا.,لازالت تنهداتهم وعويلهم تُسمع من الأعلى .
يا إلهي ! كيف كانت قد نسيتهم تقريباً لأجله, هو الصغير الذي مات. ثم قال الطفل:
" أمي, أجراس الجنة تقرع الآن وسوف تُشرق الشمس."
ثم سطع فوقها نور طاغٍ, وكان الطفل قد اختفى وكانت قد حُملت إلى الأعلى...
أصبح كل ما حولها بارداً, رفعت يدها وشاهدت نفسها مُمددة على قبر طفلها.
كان الله (عزّ وجلّ) بذلك الحلم قد سدّد خُطاها وأنار لها بصيرتها, وبذلك سقطت على ركبتيها وطلبت المغفرة...
تساءلت " كيف فعلت ذلك؟ كانت قد رغبت بمنع إحدى الأرواح من الذهاب إلى رحلة الخلود الأبدي ... كانت قد نسِيت واجباتها نحو الأحياء الذين تركهم الله لها..."
وعندما أنهت ابتهالاتها واستغفارها, شعرت بأن ثقلاً كبيراً قد انزاح عن قلبها. سطعت الشمس فوق رأسها, وأطلق طائر صغير ترنيمة بهيجة , بينما كانت أجراس الكنيسة تقرع إيذاناً بموعد الصلاة .
كان كل ما حولها يبدو قِدسياً وبذلك كان قلبها المعذب قد تاب... أيقنت برحمة الله وأقرّت بما عليها من واجبات كان عليها أن تؤديها...
عادت مسرعة إلى المنزل. انحنت على زوجها الذي كان لايزال نائماً , وأيقظته بقبلاتها الدافئة المُخلصة, ثم بدأت كلمات المحبة والحنان تتدفق من شفتيهما معاً...ها قد عادت زوجته إلى ما كانت عليه سابقاً. عادت زوجة محبة , طيبة , قوية الإيمان والإرادة . ثم خرجت من شفتيها تلك الكلمات التي تدّل على الإيمان بقضاء الله (عزّ وجلّ) حيث قالت:
" كل ما يأتي من الله لابد أن يكون دوماً هو الأفضل للعباد."
ثم قبلت زوجها وابنتيها وقالت:
" هذه القبلات هي القبلات التي أرسلها طفلي إليكم من قبره..."