مكونات الرؤية والموقف:
جاءت تجربة طه حسين في مرحلة عانى فيها الأزهر من جمود فكري طويل، وتزامن ذلك مع جهود الشيخ محمد عبده ومدرسته الإصلاحية في محاولة تطوير نظمه التعليمية، مع الأخذ بعين الاعتبار الدور الكبير الذي ظل الأزهر محافظاً عليه حتى ذلك الحين في تشكيل الثقافة الشعبية للمصريين، بل وامتداد رسالته الدعوية إلى شتى أنحاء العالم الإسلامي لكونه قبلة الأئمة والعلماء وطلبة العلم في العالم كله. وقد استاء طه حسين كغيره من المثقفين المصريين من تخلف الأزهر عن روح العصر، وجموده عند النظم التقليدية التي لم يبرحها منذ قرون، خصوصًا مع انتشار المدارس والجامعات الأهلية، والتي عملت بنجاح على نشر الثقافة الغربية بكافة وسائل الجذب والإغراء التي عجز الأزهر عن استيعابها[1]، ولم يُخف طه حسين تعجبه من ذلك الجمود واستياءه منه في الكتاب، خصوصًا وأن الكثير من المشايخ قد أبدوا نوعاً من الممانعة إزاء جهود الإصلاح -حسب رأيه- فيقول: "والأزهريون جميعا يذكرون أن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده لقي كثيرًا من الجهد، واحتمل كثيرًا من المشقة وأوذي في نفسه ودينه لأنه أدخل العلوم الحديثة في الأزهر. وكان الأدب العربي من هذه العلوم الحديثة في ذلك الوقت، فأعجبُ لقوم كانوا يرون جرس الأدب بدعة في الدين، ويتهمون الذين يدرسونه بالفسوق والإلحاد ولم يكن ذلك بعيد العهد، وإنما كان في أول هذا القرن" [ص232].
في ظل هذا الجمود، تنازع الساحة الثقافية المصرية آنذاك تياران بارزان، يسعى الأول منهما للتغريب واللحاق بأوربا في استلاب واضح، بينما يبذل الثاني جهده في الدفاع عن ثقافة المجتمع وأصالته العربية- الإسلامية. وبين هذين الاتجاهين أخذت جهود الإصلاح الداعية إلى التوفيق بالتماهي مع دعوات التغريب بشكل يصعب تمييزه، وظهر ذلك في جهود شيخ الأزهر حسن العطار (1830م) ثم تلميذه رفاعة الطهطاوي الذي خرج على رأس أول بعثة مصرية إلى فرنسا للوقوف على أسباب نهضتها في 1826م، ثم في أعمال الشيخ محمد عبده ومدرسته الإصلاحية. ويمكن القول بأن طه حسين، الشاب الأزهري القروي والمدفوع بقوة إحساسه وطاقته العقلية الفذة؛ قد سعى جاهدا للوقوف على خط التماس بين هذين التيارين، واضعا قدماً هنا وأخرى هناك، حيث لا يخفى على قارئه حرصه على تجديد الأزهر وإخراجه من مأزقه، في الوقت الذي لا يخفي انبهاره بشعاع الحضارة الأوربية التي أخذت بمجامع قلبه إلى حد الاستلاب، مما دفعه -تحت تشجيع التيار الأول ومباركته- إلى ادعاء "غربية" مصر بدلاً من "شرقيتها"، والسعي بكل ما أوتي من قوة للبرهنة على هذه النظرية كمبرر للحاق بأوربا والوقوف على أسباب نهضتها الحديثة.[2]
ينطلق الدكتور طه حسين في رؤيته للحضارة المصرية من وجهة نظر النزعة الفرعونية، والتي كانت قد بدأت بوسم النهضة المصرية بطابعها منذ أيامها الأولى، واستقطبت اهتمام المثقفين والوطنيين المصريين الساعين لإحياء الخصوصية المصرية، كرد فعل على رزح مصر الطويل تحت نير الاضطهاد التركي والمملوكي في القرون التي سبقت الاحتلال الأوربي، فكانت الدعوة إلى الاستقلال المصري بطابعه الفرعوني بمثابة تحرر من أي تبعية للأمم الشرقية التي بسطت سلطتها على مصر، في الوقت الذي ساعد فيه المحتل الأوربي على نشر هذه الدعوة بكل ما أوتي من قوة تمهيدا لانسلاخ المصريين عن العالمين العربي والإسلامي، وعملاً بالمبدأ المعروف: فرّق تسد، حيث طُبقت هذه الدعوة بنسخ مماثلة في معظم الدول الإسلامية المحتلة، وقامت الدعوات لإحياء الفينيقية والآشورية والطورانية والكنعانية والأمازيغية والسريانية.. إلخ.
تعود جذور النزعة الفرعونية المصرية إلى الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798، عندما اصطحب نابليون معه بعثة علمية للتنقيب عن آثار الفراعنة، وأنشأ معهدا للآثار الفرعونية في القاهرة، ولم يخرج من مصر إلا بعد أن رسّخ فيها قواعد الاعتزاز القومي بهذا الإرث الحضاري الموغل في القدم. ثم لم يلبث أن تحول هذا الاهتمام بالآثار والثقافة الفرعونية إلى مصدر مهم من مصادر الوطنية المصرية، فبعد أن قضى الإسلام على وثنية هذه الحضارة منذ الفتح الإسلامي لمصر في عهد عمر بن الخطاب وإحالتها إلى مجرد ذكرى للاتعاظ، بدأ المثقفون المصريون الذين تلقوا تعليمهم في الجامعات الأوربية بنبش هذا الإرث الوثني وبعثه من جديد، فتحول رأس (أبو الهول) إلى أيقونة تتربع على الطوابع والعملات، كما جعل منه النحات محمود مختار شعارًا لتمثال نهضة مصر الذي وضع في باريس عام 1920، ثم اتخذت كل كلية من كليات الجامعة شعارًا لها يتمثل في أحد معبودات الفراعنة، ووصل بهم الأمر إلى نبش قبر سعد زغلول بعد وفاته بثلاث سنوات لنقل رفاته إلى ضريح على الطراز الفرعوني! وما هي إلا بضع سنوات حتى تحقق للأوربيين ما أرادوه؛ فتحولت هذه النزعة الفرعونية إلى دعوة انفصالية عن المحيط العربي الإسلامي، وتزعمت صحيفة السياسة الأسبوعية هذا التيار بدعم من رئيس تحريرها محمد حسين هيكل الذي جند له قلمه لمدة طويلة قبل أن يعدل اتجاهه إلى المنحى الإسلامي.[3]
ظروف تأليف الكتاب
وضع طه حسين كتابه هذا في عام 1938، وفي مرحلة حرجة من تاريخ مصر الحديث ابتدأت مع جلاء الاحتلال البريطاني وتوقيع معاهدة الاستقلال، إذ يذكر لنا في مقدمته أن قرار التأليف جاء بناء على رغبته في وضع الخطوط العامة لثقافة مصر في تلك المرحلة المهمة، والتي تكاد أن تكون مرحلة مخاض للكثير من التنبؤات المتفاوتة بين القلق والتفاؤل لمستقبل مصر، ولا شك في أن إصدار كتاب يدرس قضية بهذه الأهمية وفي تلك المرحلة الحرجة سيحظى بالكثير من الاهتمام، خصوصاً وأن مؤلفه هو طه حسين، ذاك الكاتب الثائر الذي عُين للتو عميداً لكلية الآداب، الأمر الذي يبرر تلك الأهمية التاريخية التي ما زال يحظى بها كتابه حتى اليوم.
يقول في مقدمة الكتاب: "أغراني بإملاء هذا الكتاب أمران: أحدهما ما كان من إمضاء المعاهدة بيننا وبين الإنجليز في لندرة. ومن إمضاء الاتفاق بيننا وبين أوربا في منترو، ومن فوز مصر بجزء عظيم من أملها في تحقيق استقلالها الخارجي وسيادتها الداخلية" [ص 11]، ثم يشير إلى أن اهتمام الشباب بمستقبلهم الثقافي كان بمثابة الدافع الثاني لوضع كتابه فيقول: "فقد أقبل هؤلاء الشباب الجامعيون يسألوننا أن نبصرهم بأمورهم، ونهديهم إلى واجباتهم" [ص 11]، وبما أن إجابته على تساؤلات هؤلاء الطلبة لم تكن مدروسة ومفصلة بشكل كاف، فقد ارتأى أن يضع لهم كتابه هذا ليكون مرجعاً في بابه.
[1] للمزيد حول واقع الجمود وانتشار البدع والخرافات تحت اسم التصوف في تلك المرحلة من تاريخ الأزهر انظر: د. محمد سعيد رمضان البوطي، السلفية، دار الفكر، دمشق، ط2، 1998، ص 232 وما بعدها.
[2] يستشهد أنور الجندي في معرض تفسيره لانحراف طه حسين عن الخط الإسلامي بما أورده د. عبد الحميد سعيد في مجلس النواب في الجلسة الرابعة والعشرين بتاريخ 28 مارس 1932 من تحليل لأسباب انحراف طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) بأنه قد اعترضت حياته أمور غرست في نفسه عاطفة الحقد والحنق على الأزهر ثم على الإسلام من أجل الأزهر، كما يدعي أن ذهاب بصره قد قصر رؤيته للحب على التمتع المادي، بل يذهب إلى تشبيهه في الفحش والتمرد ببشار بن برد وأبي العلاء المعري نظرًا لإعجابه بهما في بعض أعماله. انظر: أنور الجندي، طه حسين.. حياته وفكره في ضوء الإسلام، ص 184
[3] حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، د. جميل عبد الله المصري، مكتبة العبيكان، الرياض، ط3، 1996، ج1/ 182