دعوى "غربية" مصر
يمكننا القول بأن هذه الفكرة تعد بمثابة المحور الرئيس الذي يدور حوله هذا الكتاب، فقد أشبعها الكاتب بحثاً منذ فصوله الأولى في سعي واضح للتأكيد عليها، وبدأ ذلك بطرح السؤال: "أمصر من الشرق أم من الغرب؟ وأنا لا أريد بالطبع الشرق الجغرافي والغرب الجغرافي، وإنما أريد الشرق الثقافي والغرب الثقافي؟" [ص 19]، وفي محاولة لتقريب مفهومه يسأل: "أيهما أيسر على العقل المصري: أن يفهم الرجل الصيني أو اللبناني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنجليزي؟" [ص 19]، وهو يريد بذلك تقسيم العالم إلى قسمين لا ثالث لهما: شرق وغرب، فالشرق هو شرق آسيا، والغرب هو أوربا وأمريكا، ومع أنه يفصل القول في أن هناك شرقاً أقصى وشرقاً قريباً، في إشارة إلى شرق آسيا للأول، والشرق الإسلامي- العربي للثاني، إلا أنه لم يتناول هذا الشرق القريب بأي دراسة أو استقصاء لدوره الحضاري أو خصوصيته الثقافية، بل نجده يركز جهده على إثبات انضواء مصر تحت لواء الثقافة الغربية منذ القدم، مع إشارة لا تخلو من إغفال لتأثر مصر بثقافة الشرق القريب، على أنها مجرد دور حضاري عابر من تاريخ مصر.
ولإثبات هذه الفكرة؛ يعود الكاتب إلى التاريخ الفرعوني ويفصل القول في تاريخ العلاقات المصرية مع الحضارات الأخرى، وينطلق من دعوى ضعف هذه العلاقات مع الشرق الأقصى فيقول: "وأول ما نلاحظه في تاريخ الحياة المصرية أننا لا نعرف أن قد كان بينها وبين المشرق البعيد صلات مستمرة منظمة، من شأنها أن تؤثر في تفكيرها، أو في سياستها أو في نظمها الاقتصادية" [ص 19]، ويفصل في موضع آخر: "وما أظن أن الصلة بين المصريين القدماء والبلاد الشرقية تجاوزت هذا الشرق القريب الذي نسميه فلسطين والشام والعراق، أي هذا الشرق الذي يقع في البحر الأبيض المتوسط" [ص 20]، ليؤكد بذلك فكرته الرئيسة: "وإذن فالعقل المصري ليس عقلاً شرقياً إذا فُهم من الشرق الصين واليابان والهند وما يتصل بها من الأقطار (...) وكان من أشد الشعوب تأثراً بهذا العقل المصري أولاً، وتأثيرًا فيه بعد ذلك العقل اليوناني" [ص 23]، ثم يقول: "ومعنى هذا كله آخر الأمر بديهي، يبتسم الأوربي حين ننبئه به لأنه عنده من الأوليات، ولكن المصري والشرقي العربي يلقيانه بشيء من الإنكار والازورار، يختلف باختلاف حظهما من الثقافة والعلم وهو: أن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط"[ص 21].
وقد كتب سيد قطب في مناقشة هذه الفكرة: «ووَضْعُ المسألة على هذا النحو تتجلى فيه كل مهارة الدكتور في المناقشة، فهو قد قسَّم الدنيا قسمين اثنين لا ثالث لهما: قسم تمثله الصين واليابان، وإن شئت فضُمَّ إليهما الهند وإندونيسيا، وقسم تُمثله فرنسا وإنجلترا، وإن شئت فضُمَّ إليهما كل دول أوروبا وأمريكا.. فلا بدَّ، للإجابةِ عن سؤال الدكتور على هذا الوضع، أن تكون مصر أمة غربية لأنها، بلا تردد ودون شك، تَفْهَم الإنجليزيَّ والفرنسيَّ أكثر مما تَفْهَم الصينيَّ واليابانيَّ في هذا الزمان!
وهذا ما قصد إليه الدكتور من توجيه السؤال على هذا المنوال! ولكن لا ريب أن وجه المسألة يتغير لو كان الشرق الذي يواجهك به غير الصين واليابان والهند وإندونيسيا. أي لو كان هناك قسم ثالث للدنيا يُمثله الشرق العربي والغرب العربي، ومصر بينهما حلقة الاتصال. ثم يزداد وجه المسألة تغيرًا لو كانت الدنيا أكثر أقسامًا حسب عقلياتها المختلفة، وهو الواقع، فكانت أوروبا وأمريكا تنقسمان بحسب العقلية الديمقراطية والعقلية الديكتاتورية، وبينهما خلاف أساسي لا شكَّ فيه، وكان الشرق ينقسم بحسب أجناسه، وهي كثيرة، وحسب طبيعة بلاده، وهي متغايرة.. إلى آخر الأقسام التي لا بد أن يفطن إليها ويدقق في تمحيصها من يريد وضع مناهج الثقافة حسب العقليات».[1]
ويدافع طه حسين عن قراره بإثبات أن شرقية مصر ليست أكثر من وجودها في وسط عربي إسلامي ضمن ما يسميه بالشرق القريب: "وأنا أفهم في وضوح، بل في بداهة، أن نشعر بالقرابة المؤكدة بيننا وبين الشرق الأدنى، لا لاتحاد اللغة والدين فحسب، بل للجوار الجغرافي وتقارب النشأة والتطور التاريخي، فأما أن نتجاوز هذا الشرق القريب إلى ما وراءه، فلا أفهم أن يقوم الأمر فيه على الوحدة العقلية أو على التقارب التاريخي، وإنما أفهم أن يقوم على الوحدة الدينية، أو على تبادل بعض المنافع المؤقتة التي تتصل بالسياسة والاقتصاد" [ص 24]، ثم يضيف: "ومن المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول" [ص 24]، وهكذا فإن وحدة الدين واللغة لا تكفي حسب زعمه لإنشاء وحدة سياسية بين الدول، فهي لا تعدو كونها رابطاً ثقافياً بين الدول المتجاورة، أما العامل الوحيد الذي يمكن أن تقوم عليه الوحدة بين الأمم فهو المنافع الاقتصادية لا غير!
وللتأكيد على هذه النظرية التي انتهى إليها، يدعي طه حسين أن الحضارة الإسلامية نفسها قامت على هذا الأساس مستبقاً بذلك أي نقد، فيقول: "فالمسلمون أنفسهم منذ عهد بعيد قد عدلوا عن اتخاذ الوحدة الدينية واللغوية أساساً للملك وقواماً للدولة، وليس المهم أن يكون هذا حسناً أو قبيحاً، وإنما المهم أن يكون حقيقة واقعة" [ص 25]، مع أنه من غير المفهوم أن ينأى الكاتب عن مناقشة حسن أو قبح هذه الفكرة والاكتفاء بكونها مجرد حقيقة، مما قد يشير إلى عدم اهتمامه بصحتها في مقابل صلاحيتها للتطبيق لما تحققه من منافع عاجلة، وربما مؤقتة.
ويمكن للقارئ أن يستشف النزعة البراجماتية للكاتب، والتي تضع المنفعة نصب عينيها دون اكتراث لحقائق التاريخ، بل وليّ عنق هذا الأخير في سبيل تحقيق هذا المأرب، حيث يتابع مؤكداً: "وقد مضى المسلمون بعد ذلك في إقامة سياستهم على المنافع، وعلى المنافع وحدها، إلى أبعد حد ممكن، فلم يأت القرن الرابع للهجرة حتى قام العالم الإسلامي مقام الدولة الإسلامية، وحتى ظهرت القوميات وانتشرت في البلاد الإسلامية كلها دول كثيرة يقوم بعضها على المنافع الاقتصادية والوحدات الجغرافية، ويقوم بعضها الآخر على ألوان أخرى من المنافع" [ص 24]، وفي هذا ادعاء غير مقبول لعلمانية الدولة الإسلامية والإيحاء بفشل تجربتها كدولة قائمة على الوحدة الدينية واللغوية، سيراً على خطا علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)[2] الذي حكم بفشل الخلافة منذ أيامها الأولى، واستدل على ذلك بانتهاء حياة ثلاثة من الخلفاء الراشدين اغتيالاً! ولو صح هذا الادعاء لكانت دول العالم الإسلامي كما يسميها أكثر انفصالاً مما كانت عليه، إذ لم تقم بينها تلك المنافع بقدر ما كان بعض حكامها يتخوف من البعض الآخر، كما أن العلاقات التجارية -أو المنافع الاقتصادية- التي كانت جارية بين هذه الدول وبين دول الشرق البعيد كانت أحرى بأن تقيم بين الطرفين ما يدعيه الكاتب من وحدة سياسية وثقافية، إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث بل كانت رحلات الحج وطلب العلم بين كافة الأقطار الإسلامية أشد تثبيتاً للوحدة بين هذه الدول المتناحرة من أي علاقة تجارية فيما بين بعضها والبعض الآخر من جهة، أو فيما بينها وبين الشرق البعيد من جهة أخرى.
وعليه؛ فإن قول الكاتب: "فالمسلمون إذن قد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة، وهو أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيء آخر" [ص 27] ليس سوى محاولة لتبرير تاريخي للنظام العلماني من خلال افتراضه لعدم وجود نظام حكم إسلامي أصلاً.
يمضي الكاتب بعد ذلك إلى ما هو أبعد؛ فلا يكتفي بنبش التاريخ الفرعوني في بحثه عن الهوية المصرية، بل ويعدّ كل ما تعرض له المصريون بعد ذلك من أدوار ثقافية وحضارية لا يعدو أن يكون طارئاً على المكون الثقافي الأصيل وهو "الفرعونية"، فنجده يتحدث عن دخول مصر تحت حكم كل من الفرس والمقدونيين والرومان الغربيين والشرقيين، ويصف ذلك كله بأنه مجرد احتلال لم يغير شيئا من الهوية الفرعونية للمصريين. ثم يمد حكمه هذا ليسع الفتح الإسلامي بقوله: "وكانت مصر من أسبق الدول الإسلامية إلى استرجاع شخصيتها القديمة التي لم تنسها في يوم من الأيام" [ص 25]، ويقول: "والتاريخ يحدثنا كذلك بأن رضاها عن السلطان العربي بعد الفتح لم يبرأ من السخط، ولم يخلص من المقاومة والثورة، وبأنها لم تهدأ ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة في ظل ابن طولون وفي ظل الدول المختلفة التي قامت من بعده" [ص 25]، فالفتح الإسلامي لا يعدو أن يكون احتلالاً لمصر في نظر طه حسين، وقيام الدولة الطولونية لم يكن إلا استقلالاً عن هذا الاحتلال الأجنبي، وهو ادعاء لا يدعمه بأي دليل.
يخلص طه حسين بعد ذلك إلى النتيجة التي أسس عليها منذ البداية وهي "أن من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءاً من الشرق، واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين" [ص 26]، ثم يدعمها بمقولة من التاريخ: "فلما كان فتح الإسكندر للبلاد الشرقية واستقرار حلفائه في هذه البلاد، اشتد اتصال الشرق بحضارة اليونان، واشتد اتصال مصر بهذه الحضارة بنوع خاص، وأصبحت مصر دولة يونانية أو كاليونانية، وأصبحت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان الكبرى في الأرض" [ص 27]، وهكذا يحتال طه حسين على حقيقة كون مصر دولة شرقية مرة أخرى بتجاهل أي وجود لحضارة إسلامية تتوسط الشرق الآسيوي والغرب الأوربي، ويعود ليثبت انضواءها تحت راية الغرب برزوحها تحت الاحتلال اليوناني ثم التغاضي عن كون هذا الاحتلال لا يملك ما يرجحه على "الاحتلال" الإسلامي كمكوّن ثقافي للعقل المصري، فضلاً عن التجاهل غير المنصف للثورة الإسلامية التي خرج في سبيلها الشعب المصري ضد الاحتلال الأوربي بدءاً من الحملات الصليبية ووصولاً إلى الاحتلالين الفرنسي والإنجليزي.
بناء على هذا المنطق؛ لا يعدو الإسلام أن يكون في أحسن أحواله مجرد عنصر تاريخي من عناصر تكوين الثقافة المصرية، ومساوياً للعناصر الأخرى دون أي ترجيح: "وإذا أردت أن تحلل الثقافة المصرية إلى عناصرها الأولى فهذه العناصر بينة واضحة: هي التراث المصري الفني القديم، وهي التراث العربي الإسلامي، وهي ما كسبته مصر وتكسبه كل يوم من خير ما أثمرت الحياة الأوربية الحديثة. هي هذه العناصر المختلفة المتناقضة فيما بينها أشد الاختلاف والتناقش. تلتقي في مصر فيصفي بعضها بعضا" [ص363]، ومن العجيب حقاً أن الدكتور طه حسين قد اكتفى بافتراض التقاء هذه العناصر الثلاث المتناقضة دون حدوث أي صراع فيما بينها، ودون أن يقدم أي دليل على هذا التزاوج الودي، ودون أن يبحث أيضاً عن مبرر لهذا الامتزاج.
ونتيجة لما سبق؛ لا يبدو مفهوم الثقافة المصرية لدى طه حسين واضحًا بما فيه الكفاية ليعوَّل عليه، كما أن الخطاب المفرط في الشاعرية عند وصف التعايش السلمي بين الشرق والغرب أو عند تأكيد دعوى وحدة الثقافة المتوسطية وضرورة ترجيحها على أي ثقافة أخرى وافدة إليها -وهي الإسلام- هو خطاب غير علمي، ولا يمكن الاعتماد عليه للوصول إلى نتيجة مفادها: "فليست الثقافة وطنية خالصة ولا إنسانية خالصة، ولكنها وطنية إنسانية معًا" [ص464]، إذ ما زال التاريخ يثبت لنا يومًا بعد يوم أن الحلم القديم بوجود ثقافة إنسانية غير قابل للتحقيق، وذلك في المستقبل المنظور على أقل تقدير.
مفهوم الدين لدى مؤلف الكتاب
ينطلق طه حسين في مفهومه عن الحضارة الإسلامية من مرجعيته الاستشراقية الغربية، فالإسلام والمسيحية -ونقصد هنا المسيحية القائمة على التثليث- يكادان أن يتطابقا في رأيه لكونهما من منبع واحد، إذ يقول في ذلك: " …المسيحية التي ظهرت في الشرق قد غمرت أوربا واستأثرت بها دون غيرها من الديانات، فلم تصبح أوربا شرقية ولم تتغير طبيعة العقل الأوربي، وإذا كان فلاسفة أوربا وقادة الرأي فيها يعدون المسيحية عنصرًا من عناصر العقل الأوربي فلست أدري ما الذي يفرق بين المسيحية والإسلام وكلاهما قد ظهر في الشرق الجغرافي، وكلاهما قد نبع من منبع كريم واحد.." [ص 29] ، ولعله يميل إلى هذا الرأي بهدف إثبات أن شرقية كل منهما في الأصل ليست مبرراً لانزياح أحدهما إلى الغرب، في الوقت الذي ظل فيه الآخر قابعاً في شرقيته. يقول في ذلك: "وكيف يستقيم للعقل السليم والرأي المنصف أن يقرأ الأوربيون الإنجيل فلا يرون به بأسًا على العقل الأوربي، ولا يرون أنه ينقل هذا العقل من الغرب إلى الشرق، فإذا قرؤوا القرآن رأوه شرقيًا خالصًا مع أن القرآن كما يقول في غير عوج ولا التواء إنما جاء متممًا ومصدقًا لما في الإنجيل!" [ص 29]، ثم يقول بوضوح أكبر: "إذا صح أن المسيحية لم تمسخ العقل الأوربي ولم تخرجه عن يونانيته الموروثة ولم تجرده من خصائصه التي جاءته من إقليم البحر الأبيض المتوسط، فيجب أن يصح أن الإسلام لم يغير العقل المصري، أو لم يغير عقل الشعوب التي اعتنقته والتي كانت متأثرة بهذا البحر الأبيض المتوسط" [ص 29]، وهذا نص واضح في مفهوم طه حسين للإسلام الذي لا يعدو أن يكون مجرد رافد للعقل المصري لا أكثر، أما المكون الرئيس لثقافة المصريين فهو الأصل الفرعوني المتشبع بثقافة البحر الأبيض المتوسط الذي يوحدهم مع الغرب الأوربي.
ولا تقف مغالطات الكاتب عند هذا الحد، بل نجده يتناول علاقة كل من الإسلام والمسيحية بالفلسفة بكثير من السطحية والاختزال فيقول: "… وأغرب من هذا أن بين الإسلام والمسيحية تشابها في التاريخ عظيما، فقد اتصلت المسيحية بالفلسفة اليونانية قبل ظهور الإسلام فأثرت فيها وتأثرت بها، وتنصرت الفلسفة، وتفلسفت النصرانية، ثم اتصل الإسلام بهذه الفلسفة اليونانية فأثر فيها وتأثر بها، وأسلمت الفلسفة اليونانية وتفلسف الإسلام" [ص 30]، وهذا خطأ فاحش لا ينبغي لمثل طه حسين أن يقع فيه، فالمسيحية بصورتها الحالية لم تحتفظ إلا بالنزر اليسير من أصلها السماوي، بينما تقوم أركانها العقائدية الرئيسة كالفداء والقربان والثالوث على إضافات فلسفية أضفاها بولس ومن بعده على دين المسيح عليه الصلاة والسلام بعد رفعه، ويعبر بول جونسون عن ذلك بوضوح في قوله: "المسيحية ولدت مع بولس"، بل يرى جونسون أن تعاليم المسيح لم تعد أكثر من توثيق لفرقة يهودية قديمة، أما المسيحية البولسية -وهي التي يتحدث طه حسين عنها- فهي أمر آخر[3]، وهو ما أوضحه القاضي عبد الجبار (ت 415) في قوله: "لم يتنصر الرومان، لكن النصرانية هي التي ترومت"[4]، كما أن المساواة بين القرآن الكريم وبين ما يسمى اليوم بالإنجيل ليست إلا محاولة مجحفة للتدليل على النتيجة التي يرومها من وحدة الدينين، ولا أظن أن طه حسين قد غفل عن شيء من الدراسات الغربية المؤكدة على عدم أصالة هذا "الإنجيل"، وعليه فإن الجزم بصحة عقيدتي الإسلام والمسيحية بشكليهما الحاليين في عقل واحد لا يخلو من تناقض عجيب.
في المقابل؛ كانت علاقة الإسلام بالفلسفة على النقيض تماماً مما يتوهمه طه حسين، فقد لقيت الفلسفة اليونانية من الرفض الكثير في العالم الإسلامي ولم يكن دخولها الخجول في عهد المنصور ثم انتشارها على يد المأمون خالياً من المصاعب بالرغم من الدعم الكبير الذي وفره لها الخليفة، وظلت الفلسفة مع ذلك غريبة على الساحة الإسلامية إلى أن كشف الإمام الغزالي الكثير من نقاط ضعفها، ولم يسبق أن ادعى أحد -في حدود علمي- أن الإسلام قد تأثر بهذه الفلسفة بشكل أو بآخر، بل إن مساعي المتكلمين لم تخرج عن إطار مواجهة الفلاسفة والزنادقة من أصحاب الفرق بسلاحهم المنطقي، ولم يتعدّ تأثير الفلسفة على عقول المسلمين انشقاق البعض عن أهل السنة والجماعة الذين ما زالوا يشكلون حتى اليوم السواد الأعظم من الأمة الإسلامية، وما زال الإسلام بذلك رائقاً خالياً من كل الشوائب بحفظ الله له كما وعد في كتابه الحكيم.
بناء على ذلك؛ فإن ادعاء طه حسين قيام العقلين الإسلامي والغربي- المسيحي على أساس واحد وهو الفلسفة اليونانية أمر لا يخلو من سفسطة لا تقوم على حجة، والأسوأ من ذلك أن يقيم على هذا الفرض منهجه في فهم ورسم المستقبل الثقافي لمصر.
لكن طه حسين يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك عندما يُدين الإسلام بمسؤوليته التاريخية تجاه أوربا التي عانت التخلف بسببه، ويستشهد على مقولته بمحاضرة المؤرخ البلجيكي "العظيم" بيرين التي حضرها في الجمعية الجغرافية وفي ظل كلية الآداب، متحسراً على عدم إدراك غالبية الحاضرين للحقيقة حيث يقول: "كان يعلن أن إغارة الأمم المتبربرة على أوربا لم تكن لتردها إلى الجهل الذي رُدت إليه في القرون الوسطى لو أن العلاقات البحرية ظلت متصلة بين الشرق والغرب، ولكن ظهور الإسلام، وقيام الخصومة بينه وبين المسيحية قد قطع هذه العلاقات حينا من الدهر، فاضطرت أوربا إلى الفقر والبؤس، وانتهى ذلك بها إلى الضعف الاقتصادي ثم إلى الجهل العميق.." [ص 31]، ويشرح ذلك بقوله: "قوام الحياة العقلية في أوربا إنما هو اتصالها بالشرق عن طريق البحر الأبيض المتوسط. فما بال هذا البحر ينشئ في الغرب عقلا ممتازا متفوقا، ويترك الشرق بلا عقل، أو ينشئ فيه عقلا منحطا ضعيفا؟" [ص 32]، وهو تساؤل يتناقض فيما يبدو مع تأسيسه السابق للعقلين الأوربي والإسلامي على العقل اليوناني، إذ نجده يشيد هنا بتأثير الشرق على هذا العقل، بينما يكيل المديح في مواضع أخرى على اليونان لأبوتهم الحقيقية لكل العقول البشرية!
ولا تتوقف إدانة الشرق الإسلامي عند طه حسين على عزل أوربا عن منبع الحضارة والعقل، بل يرى أن انضواء مصر وغيرها من الدول الإسلامية تحت راية الدولة العثمانية قد أعاق عقولها عن الإبداع قروناً طويلة، ثم يسحب هذه الإدانة ليلقيها على الشعوب الإسلامية نفسها لكونها تخلت عن عقلها اليوناني تحت نير هذا "الاحتلال" العثماني، في الوقت الذي لم يفلح فيه الاحتلال البربري في انتزاع بذور هذا العقل المستنير من عقول الشعوب الأوربية، فنجده يقول: "وما بال إغارة الترك على الشرق القريب تغير طبيعة العقل فيه، على حين لم تتغير طبيعة العقل في أوربا حين أغارت عليها الأمم المتبربرة، وقد اعتنق الترك دين الشرق القريب وحضارته كما اعتنقت الأمم المتبربرة دين المغرب وحضارته؟" [ص 32].
بهذا المنطق نفسه؛ يكشف طه حسين عن موقفه من الحكم الإسلامي عندما يدعي بصراحة أن عدم وجود كهنوت في تاريخ الإسلام يعني بالضرورة فصل الدين عن السياسة، ويبني على ذلك فلسفته العلمانية فيقول: "ولعل مصدر هذه الخصومة العنيفة بين الدين والعقل في أوربا أو بين رجال الدين ورجال العقل أن رجال الدين المسيحي لهم نظمهم وقوانينهم وسلطانهم القوي... فأما نحن فقد عصمنا الله من هذا المحظور ووقانا شروره التي شقيت بها أوربا. فالإسلام لا يعرف الإكليروس ولا يميز طبقة رجال الدين من سائر الطبقات. والإسلام قد ارتفع عن أن يجعل واسطة بين العبد وربه، فهذه السيئات التي جنتها أوربا من دفاع رجال الدين عن سلطانهم لن نجنيها نحن إلا إذا أدخلنا على الإسلام ما ليس فيه وحملناه ما لا يحتمل" [ص53]، وهذه مغالطة واضحة، فعدم تمييز الإسلام بين علماء الدين وبين العامة لا يعني عزل الدين عن السلطة، بل هو دليل على عدم منح العلماء والحكام سلطة خاصة يملكون بها رقاب الناس، فالسلطة المسندة إلى الحاكم المسلم لا تخوله أي امتيازات للحكم باسم الرب، بل هو وكيل على تطبيق الدين ورعايته ومسئول في الوقت ذاته عن أي تقصير في القيام بهذا الواجب.
ولتثبيت نظريته في مثالية الحضارة الأوربية مع استشعاره للاعتراضات التي قد تثور حولها من قبيل الفراغ الروحي الذي يعاني منه الغرب، يبحث طه حسين عن مخرج لهذه المشكلة بغضه الطرف عن قسوة الرأسمالية وتطرف البراجماتية، ثم يسكب المديح على بعض الحالات التي يرى فيها خير تعبير عن "روحية" هذه الحضارة فنراه يقول في شاعرية تمتلئ حماساً: "ولكن من أجهل الجهل وأخطأ الخطأ أن يقال: إن هذه الحضارة المادية قد صدرت عن المادة الخالصة. إنها نتيجة العقل، إنها نتيجة الخيال، إنها نتيجة الروح، إنها نتيجة الروح الخصب المنتج (...) وإنك لتدرس تاريخ الفلاسفة الأوربيين والعلماء والمخترعين الأوربيين فلا تجد واحداً منهم إلا وله من الروح أعظم حظ ممكن" [ص61] ويستشهد في ذلك بديكارت وباستور، ثم يضرب مثلاً بأولئك الذين يضحون بأنفسهم في تجارب الطيران ويبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل تقدم العلم، ولا يخفى على كل مطلع أن ديكارت الذي أسس فلسفته على ثنائية الروح والمادة قد انتهى دوره في الغرب عند إعلاء كلمة العقل بعد أن عانى هذا الأخير من وطأة القمع طوال قرون الظلام الأوربي، بينما تنحّت فلسفته الإيمانية -أو الروحية- لإفساح الطريق للعلمانية الرافضة لهذا التسليم الذي يوصف في بعض أدبياتهم بالتصوف، ولعل طه حسين كان على علم بأن أوربا في ذلك الوقت -أي النصف الأول من القرن العشرين- كانت قد وصلت إلى أعلى درجات تأليه العقل وتقديس المادة، وكانت لهذه النزعة المادية نتائجها المعروفة فيما بعد من تطرف الماركسية في الشرق وتضخم الليبرالية في الغرب. ولكن طه حسين يتجاهل كل هذه الحقائق ويواجه كل من يحتج عليه بحقيقة ما وصل إليه الغربيون من فراغ روحي بتأويل عجيب: "إن الضيق بالحياة الحاضرة خصلة يمتاز بها الرجل الراقي الحي، ولن يرضى عن الحياة رضى مطلقا قوامه الإذعان إلا الذين خلقوا للخمول والخمود. فإذا رأيت الأوربي يضيق بحياته ويزدريها فاعلم أنه ما زال حيا راقيا ممتازا مستعدا للكمال. وإذا رأيت الأوربي مذعنا راضيا قانعا بما قسم له فاعلم أن دولته قد آذنت بالزوال. وإذا قال الأوربي لنا إن حضارته مادية بغيضة، فنحن خليقون أن نظن به اثنتين: فإن كان صادقا علمنا أنه يريد المزيد من هذه الحضارة المادية البغيضة وإن كان كاذبا علمنا أنه يريد أن يزهدنا في هذه الحضارة ليستأثر بها دوننا، وليحتفظ لنفسه بحسناتها ومزاياها، وليمسكنا نحن في حضارتنا الروحية التي تجعلنا له عبيداً" [ص62] إذن فالحضارة الأوربية خير محض حتى لو ضاق بها أصحابها، وكل ما يصدر عنهم من شكوى وألم فلا يخرج عن أحد تفسيرين: فهم إما راغبون في المزيد من هذا الضيق والحرج، وإما مدّعون لهذا الضيق ليصرفونا عما يخفيه من رقي ويستأثرون به دوننا! ولا يكتفي طه حسين بهذا الاستخفاف بعقل القارئ بل يتابع القول في إقناعه بأن ما يثار من روحية الشرق ليس ذا صلة بديننا وتراثنا، ربما لخلوهما منها، وإنما الروحية الحقة هي تلك التي كانت ولا تزال تنبع من الشرق الأقصى، فيقول: "وبعد، فما هذا الشرق الروحي؟ ليس هو شرقنا القريب من غير شك" [ص63]، فقد اقتصر دور الشرق القريب في رأيه على كونه مهد الفنون والآداب والعلوم التي تأثر بها الرومان واليونان وأقاموا عليها حضارة أوربا الحديثة، فضلاً عن دوره في تصدير الديانات السماوية، أما الروحية المزعومة فلا تمت إلى هذا الشرق القريب بصلة، وكأن الأديان السماوية خالية من هذه الروحية، فيقول: "كلا! ليس الشرق الروحي الذي يفتن به بعض الأوربيين صادقين وكاذبين فيخدعونا على كل حال هو الشرق القريب، وإنما هو الشرق البعيد والشرق الأقصى. هو الهند والصين واليابان وما فيها من هذه الديانات والفلسفة التي لا تتصل أو لا تكاد تتصل بدياناتنا وفلسفتنا" [ص63]، ثم يخرج من هذا الخلط العجيب بهدفه المعلن من خلال تخيير القارئ بين أمرين: "فلننظر أي الأمرين نختار لأنفسنا: أنريد أن نعتنق ديانة الصينيين وفلسفتهم، ونأخذ بأسباب حضارتهم؟ ولكنهم هم يأخذون بأسباب الحضارة الأوربية أخذاً قوياً" [ص63]، وهكذا يقطع الطريق على القارئ بعدم جدوى السعي خلف هذه الروحية، فهي أولاً غير متضمنة في دينه وتراثه، ثم إنها ثانياً قد فقدت مجدها في منبعها بعد أن ولّى أهلها وجوههم شطر أوربا، ليخلص من كل هذا إلى نتيجة مفادها ألا مفر من اللحاق بأوربا سواء طلبنا المادة أو الروح، فلدى الأوربيين وحدهم الخلاص مهما كان المبتغى!
يقول طه حسين موضحاً هذا الهدف الأسمى: "فلا ينبغي أن يفهم المصري أن بينه وبين الأوربي فرقا عقليا قويا أو ضعيفا، ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الشرق الذي ذكره كيبلنج في بيته المشهور (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا) يصدق عليه أن على وطنه العزيز. ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها إسماعيل وجعل بها مصر جزءا من أوربا قد كانت فنا من فنون التمدح أو لونا من ألوان المفاخر. وإنما كانت مصر دائما جزءا من أوربا، في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها" [ص 32]، فعلى المصريين أن يتخلصوا إذن من ربقة الاحتلال الإسلامي الذي شوه حقيقة عقلهم الأوربي حتى كاد أن يطمسها، وأن يولّوا وجوههم شطر أوربا!
في السياق نفسه؛ يتضح مفهوم طه حسين للأديان بصورة أكبر في مناقشته لمستقبل الأقباط في مصر، إذ يلح على تعليم رجال الدين المسيحيين من الأقباط بالدرجة نفسها التي يتم فيها التعليم الديني في الأزهر فنقرأ له: "وإعداد رجال الدين المسيحي لإخواننا الأقباط محتاج إلى عناية خاصة من الدولة ومن الأقباط أنفسهم (...) فإن الأقباط مصريون يؤدون الواجبات الوطنية كاملة كما يؤديها المسلمون" [ص329 ]، ثم يؤكد على أن الكنيسة القبطية لا تقل أهمية عن الأزهر نفسه فيقول: "والكنيسة القبطية مجد مصري قديم، ومقوم من مقومات الوطن المصري، فلا بد من أن يكون مجدها الحديث ملائما لمجدها القديم" [ص 331]، ويقول أيضا: "فالكنيسة القبطية مصدر الثقافة الدينية لأوطان أخرى غير مصر فيجب أن تصدر لهذه الأوطان ثقافة دينية تلائم حاجاتها الحديثة أيضًا" [ص 331].
لا شك في أن هذا الموقف من المسيحية نابع من المنظور العلماني لطه حسين الذي يرفع الوطنية إلى مرتبة تداني الدين أو تعلو عليه، فإذا كان قد صرح -كما مر معنا- بأن المسيحية المعاصرة ند للإسلام فلعله لا يعد الإسلام ناسخاً لها كما يبدو من ظاهر الحديث، بل يدعو إلى اهتمام الدولة بالكنيسة ورعايتها كرعايتها للإسلام بالدرجة نفسها، بغض النظر عن كون أحدهما دين الأغلبية العظمى للشعب، وهو أمر لا يحدث حتى في أكثر دول أوربا ديمقراطية. ولا أقصد بذلك الاختلاف معه في منح المواطنين حقوقهم الكاملة بغض النظر عن ديانتهم، وإنما يحق لنا أن نقف ملياً أمام مفهومه العلماني للدين، خصوصاً وأنه وصف الأقباط بالمؤمنين [ص331]، مما يضعهم في خانة واحدة –في رأيه- مع المسلمين، ليس من الناحية الوطنية والحقوقية -وهذا حقهم- وإنما بوصفهم أصحاب حقيقة أيضاً.
ومما يدعونا أيضاً إلى قراءة طه حسين من هذا المنظور العلماني ثناؤه على الحضارة الأوربية التي لم تقم للدين وزناً، فساوت بين المتدينين وغيرهم من الملحدين: "ومن الأوربيين قوم يتخذون المسيحية دينا، ومنهم من لا دين لهم، ولكن هذا كله لم يمنعهم كما قلنا من أن يتفقوا في أسباب الحضارة ويتفقوا في الاستمتاع بنتائجها والفوز بثمارها" [ص 52]، وهذا تسطيح آخر في تناوله لعلاقة الدين بثقافة المجتمع من خلال مساواته بين الإسلام وغيره من الأديان، وتجاهل تام لحالة الصراع التي عاشها العقل الغربي مع المسيحية قبل أن يبدأ نهضته، ويتضح هذا الموقف في قوله: "ولكن الأمر قد انتهى فيها [أي أوربا] إلى شيء من التوازن بين الدين والحضارة، ولكن العقل الأوربي المستقيم قد انتهى إلى أن الخصومة العنيفة الآثمة لم تكن بين الدين والحضارة. كانت بين الأهواء والشهوات لا بين الدين الذي يغذو القلوب والشعور والحضارة التي تنتجها العقول" [ص 52]، فبالرغم مما يوحي به ظاهر النص من توافق بين الدين والحضارة، إلا أن اتخاذ الحضارة الأوربية نموذجاً في موقفها من الدين -أياً كان- يغني عن أي تفصيل.
مصر في العصر الحديث
بعد أن رسخ طه حسين نظريته في الأصل الأوربي للعقل المصري من خلال وحدة الجذور في محيط البحر الأبيض المتوسط؛ انتقل إلى البرهنة على هذه النظرية من خلال مشاهداته للواقع المصري في القرن العشرين الذي يجد فيه عودة طبيعية للعقل المصري إلى جذوره الأوربية بعد خروج المحتل الإنجليزي، ويستشهد على ذلك بشيوع النمط الاستهلاكي في الطبقات المترفة من الشعب المصري: "حياتنا المادية أوربية خالصة في الطبقات الراقية. وهي في الطبقات الأخرى تختلف قربًا وبعدًا من الحياة الأوربية باختلاف قدرة الأفراد والجماعات، وحظوظهم من الثروة وسعة ذات اليد" [ص 36]، ويقول أيضاً: "إن مقياس رقي الأفراد والجماعات في الحياة المادية مهما تختلف الطبقات عندنا إنما هو حظنا من الأخذ بأسباب الحياة الأوربية" [ص 37]، وليته انتبه إلى أن مقولته هذه ليست في صالحه على الإطلاق، إذ أن تبعية هذه الطبقة الضيقة للغرب لا تعني أكثر من انسلاخها المزري عن محيطها العام، بل واستلابها أمام مادية المحتل، ووجود هذه الطبقة لا يشكل أكثر من عقبة كأداء في طريق حركات التحرر الوطني لكل الدول التي عانت من ظلم الاحتلال الأوربي، ومن المؤسف حقاً أن يجد أحد أتباع هذه الدول في وجود هذه القلة دليلاً على أن بلاده المحتلة ليست إلا جزءاً لا يتجزأ من المحتل، ثم يمضي للبرهنة على ذلك بإحياء تاريخٍ أكل عليه الزمان وشرب، مع كل ما في ذلك من تجاوز وإسفاف!
ويتابع طه حسين حديثه عن تبعية مصر للغرب الأوربي من خلال مقارنته للنظم السياسية بين الطرفين، فبعد أن أوضح موقفه من الحكم الإسلامي مدعياً أن المسلمين تخلصوا من ربقته منذ مطلع القرن الرابع للهجرة، فإنه يتابع تأكيده على ولاء مصر لأصولها الغربية بانتهاجها النظام الديمقراطي الحديث بصورته الأوربية، ويسرد في ذلك الأمثلة التي يجد فيها دليلاً على أن مصر عادت للانضواء تحت راية الحضارة المتوسطية الموحدة، ويستشهد على ذلك بتأثر المحاكم الشرعية نفسها بالنظم الأوربية، ثم يقول: "وأكبر الظن أن قضاة المسلمين القدماء لو أنشروا في هذه الأيام لأنكروا من نظام المحاكم الشرعية شيئاً كثيرًا، ولعلهم أن ينكروا أكثر مما يعرفون!" [ص 38]، ويطبق نظريته تلك على الأزهر أيضاً، مع اعترافه بأنه ما زال عصياً على اللحاق بالغرب: "وقد استبقينا الأزهر الشريف نفسه، ولكن أزمة الأزهر الشريف متصلة منذ عهد إسماعيل أو قبله ولم تنته بعد" [ص 37]، ليخرج من ذلك كله بالنتيجة الموضوعة مسبقاً وهي: "كل هذا يدل على أننا في هذا العصر الحديث نريد أن نتصل بأوربا اتصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم حتى نصبح جزءًا منها لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً. وعلى أننا لا نجد في ذلك من المشقة والجهد ما كنا نجده لو أن العقل المصري مخالف في جوهره وطبيعته للعقل الأوربي" [ص 39]، وللمزيد من التأكيد على هذا الهدف؛ يصل به الأمر إلى أن ينسب إلى مصر تبعية عمياء للغرب حتى في استبدادها وطغيانها، بالرغم من شكواه في مواضع أخرى -كما مر معنا- من طغيان الحكم التركي واعتباره دخيلاً، فيقول: "…أن نظام الحكم المطلق عندنا في العصر الحديث كان متأثراً بنظام الحكم المطلق في أوربا قبل انتشار النظام الديمقراطي، وأن نظام الحكم المقيد عندنا كان متأثراً بنظم الحكم المقيد في أوربا أيضًا" [ص 37]، وكأن الهدف في الحالتين هو إثبات كون مصر قطعة من أوربا، وبأي ثمن.
[1] سيد قطب، نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر، الدار السعودية للنشر والتوزيع، 1389هـ- 1968م، ص 12- 13
[2] ينقل أنور الجندي رسالة يدعي أن طه حسين كتبها ليسخر من محاكمة عبد الرازق في الأزهر إثر وضع هذا الأخير كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، انظر: أنور الجندي، ص 90
[3] محمد عبد الله الشرقاوي، دراسات في الملل والنحل (أصول المسيحية الهلينية)، مطبعة المدينة، القاهرة، 1993، ط1، ص 40- 41 نقلا عن:
Paul Johonson, A History of Christianity, Penguin Book, 1984, P. 42- 43
[4] القاضي عبد الجبار، تثبيت دلائل النبوة، تحقيق عبد الكريم عثمان، نشرة العروبة، بيروت، 1969، 1/72