مناقشة المؤلف للمخالفين له
لا يخفي طه حسين تحسسه لمواطن الاختلاف مع الكثير من المثقفين في عصره، فبعد أن انتهى من عرض فلسفته تنبأ بما سيلقاه كتابه من نقد، وقد كان. يقول في ذلك: "وأنا أعلم أن كثيرًا من الناس سيلقون هذا النحو من التفكير بشيء غير قليل من الإنكار له والازورار عنه. منهم من ينكر مشفقا ويزور خائفًا.. ومنهم من يتكلف الإشفاق والخوف" [ص50] فهو يشير هنا إلى أن المخالفين له سوف لن تخرج مواقفهم عن أحد احتمالين: إما الحرص على أصالة ثقافتهم من مخاطر ما يدعو هو إليه من انفتاح نحو الغرب، وهو في رأيه موقف محمود ناشئ عن إخلاص وصدق، إلا أنه يفتقر إلى بعد الرؤية واتساع الأفق، وإما اصطناع هذا الحرص عن سوء نية وإصرار على الجمود، وهو ما يعزف عن خوض النقاش معه تهرباً من الجدل الذي لا طائل منه.
يوجه الكاتب بعد ذلك خطابه إلى أصحاب الفريق الأول فيبادرهم بقوله: "وأما الذين يشفقون ويخافون عن إخلاص وصدق.." [ص51]، ثم يمضي في توضيح نظريته: "وقد يحسن أن نلفت هؤلاء الصادقين الأخيار إلى أن الحياة الأوربية ليست إثما كلها، وإلى أن فيها خيرًا كثيرًا، وإلى أن الإثم الخالص لا يمكن من الرقي وقد ارتقى الأوربيون ما في ذلك من شك (...) فنحن لا ندعو إلى آثامهم وسيئاتهم، إنما ندعو إلى خير ما عندهم وأنفع ما في سيرتهم. كما أن هؤلاء الصادقين الأخيار إذا دعوا إلى الاستمساك بحياتنا الموروثة والاحتفاظ بتقاليدنا المستقرة فهم من غير شك لا يدعون إلى أن نستمسك بما في حياتنا الموروثة من آثام" [ ص51]، ويقول أيضاً: "ونحن حين ندعو إلى الاتصال بأوربا والأخذ بأسباب الرقي التي أخذوا بها لا ندعو إلى أن نكون صورا طبق الأصل للأوربيين كما يقال، فذلك شيء لا سبيل إليه ولا يدعو إليه عاقل. والأوربيون يتخذون المسيحية لهم دينا فنحن لا ندعو إلى أن تصبح المسيحية لنا دينا، وإنما ندعو إلى أن تكون أسباب الحضارة الأوربية هي أسباب الحضارة المصرية لأننا لا نستطيع أن نعيش بغير ذلك فضلاً عن أن نرقى ونسود" [ص51- 52].
قد يقال هنا بأن دعوة طه حسين لم تكن أوربية خالصة كما يدعي المخالفون، بل هي مجرد نداء للأمة المصرية كي تلحق بركب الحضارة الأوربية من خلال "الأخذ بأسباب رقيها" دون المساس بأصول العقيدة، وإن صح هذا القول فلا غبار عليه، ولكن الخلاف مع هذه الدعوة ليس قاصراً على التخوف من الانسلاخ التام عن الإسلام واعتناق المسيحية، فالكاتب قد أكد بصريح القول -كما مر معنا- على أن جذور العقلين الأوربي والمصري واحد، ثم دعم هذا القول بإحدى مقولات الكاتب الفرنسي بول فاليري حول التشابه في المؤثرات العامة على كل من العقلين، ليخرج بنتيجة مفادها أن الثقافتين لم تنبعا من أصل واحد فحسب، بل تتشابهان إلى درجة تقترب من الاتحاد، ولا يكاد يميزهما عن بعضهما إلا بعض أشكال العبادات التي تختلف بين كل دين وآخر.
يقول طه حسين عن بول فاليري: "أراد ذات يوم أن يشخص العقل الأوربي فرده إلى عناصر ثلاثة: حضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن، وحضارة الرومان وما فيها من سياسة وفقه، والمسيحية وما فيها من دعوة إلى الخير وحث على الإحسان. فلو أردنا أن نحلل العقل الإسلامي في مصر وفي الشرق القريب أفتراه ينحل إلى شيء آخر غير هذه العناصر التي انتهى إليها تحليل بول فاليري؟" [ص 34]، وفي هذا القياس الكثير من السطحية والتجاوز فضلاً عن التناقض، فالفرضية المقتبسة عن أعمال المستشرقين حول التأثير اليوناني في الحضارة الإسلامية وبالدرجة نفسها التي جرت في الغرب تفتقر إلى الكثير من الصحة، لأن الحضارة الإسلامية قائمة في جوهرها على الوحي قبل كل شيء، وما طرأ عليها من ترجمة للكتب اليونانية لا يعدو أن يكون من باب المثاقفة، بالرغم من كل ما لقيته من رفض ومناهضة، أما أثر الفلسفة اليونانية على الحضارة الأوربية الحديثة فيكاد أن يبلغ دور الوحي نفسه قياسًا على الحضارة الإسلامية. أما الحضارة الرومانية فلم يتصل بها المسلمون لينهلوا منها إلا الشيء اليسير، مع العلم بأن الفارق كبير بين اليونان والرومان من حيث اشتهار الأولى بامتلاكها قوة الحضارة، واشتهار الثانية بكونها حضارة القوة، ولست أدري لمَ لم يقدم الكاتب شيئاً من الأدلة على اقتباس المسلمين لسياستهم وفقههم من هذه الحضارة ليدعم هذه الدعوى؟ أما قياس الإسلام على المسيحية فباطل كما أسلفنا، ولعل الملفت في هذا النص للكاتب اعترافه بوجود "العقل الإسلامي" ككيان مستقل -بغض النظر عن مشابهته بغيره- ثم إلصاقه بمصر والشرق القريب، على الرغم من إصراره منذ مطلع الكتاب على عزل مصر عن هذا الشرق القريب، وعدّها منبعاً للعقل اليوناني- المتوسطي، وتأكيده على أن المصريين قد قاوموا الوجود العربي منذ أيامه الأولى، حيث لم يفرطوا بهويتهم الفرعونية الأصيلة [انظر: ص 25].
ويتابع طه حسين مناقشته لهؤلاء بمحاولة إثبات اقتباس المسلمين من الغير، مع اعترافه بأن هذا الاقتباس لم يخلُ من بعض السيئات فيقول: "فساءت الأخلاق والسير في بعض البيئات وفسدت العقائد ودخائل النفوس في بعضها الآخر. ولكن شيئا من ذلك لم يرد المسلمين عن الأخذ بأسباب الحضارة الفارسية واليونانية لأنهم جنوا من ذلك ثمرات حلوة لا تزال الإنسانية تستمتع بها إلى الآن (...) وهذه الحضارة الإسلامية الرائعة لم يأت بها المسلمون من بلاد العرب وإنما أتوا ببعضها من هذه البلاد وببعضها الآخر من مجوس الفرس، وببعضها الآخر من نصارى الروم" [ص53]، وهذا قياس لا يمكن الأخذ به على هذا النحو من التعميم، فحتى لو صح أخذ المسلمين عن هذه الحضارات أسباب حضارتهم فإن المسلمين لم يقتبسوا عنهم إلا بعد فتح بلادهم وبسط سلطان الإسلام عليها وهم في موضع غلبة ونصر، وكان القرآن والسنة قد تغلغلا في نفوس وعقيدة المسلمين وأصبحا المرجع الأول في كل ما يعرض لهم من مشكلات، أما أخذهم عن الفرس والروم فكان في ما سبقوهم إليه من وسائل إدارة الحكم وتنظيم المدن والعلوم الطبيعية وغيرها من الأمور الدنيوية، إلى جانب التأثر الفلسفي غير المحمود الذي أدى إلى نشوء الفِرق المذهبية والسياسية. في المقابل؛ فإن ما آلت إليه العلاقة بين المسلمين وأوربا -التي يدعو الكاتب إلى اللحاق بها اليوم- لا يمكن أن تشبّه بتلك التي كانت عليها بأي حال فيما مضى، وليس الكاتب ممن يخفى عليه طمع الأوربيين ببلاد المسلمين وقد خرجوا للتو من مصر بعد نهب خيراتها واستنزاف عقولها، وكان من الأحرى به أن يدعو أولاً إلى الاستقلال الفكري عنهم بعد جلاء جيوشهم، والعودة إلى منابع الحضارة الإسلامية التي تجذرت في نفوس المصريين، قبل أن يأخذوا عن عدوهم.
من هنا تتضح مغالطة طه حسين في قوله: "فنحن بين اثنين: إما أن ننكر ماضينا كله ونجحد أسلافنا جميعا ونرفض مجد المسلمين الذين أسسوا الحضارة الإسلامية، وما أظننا مستعدين لشيء من هذا، وإما أن ننهج نهجهم ونذهب مذهبهم ونأخذ بأسباب الحضارة الأوربية في قوة، كما أخذوا هم في قوة بأسباب حضارة الفرس والروم" [ص55]، ولعله إن بقي على قيد الحياة ليرى ما آلت إليه هذه الدعوة من تبعية مطلقة للغرب لأعاد فيها النظر.
هل كانت دعوته تحريرية أم تذويبية؟
بعد أن استعرضنا الملامح الرئيسة لرؤية طه حسين للثقافة المصرية وعلاقتها بمثيلتها الأوربية، نعود إلى التساؤل عن الهدف النهائي الذي يرمي إليه الكاتب بهذا الطرح الجريء، فمع أن البحث في نوايا أي كاتب من خلال قراءتنا لنتاجه -سواء ما يظهر في سطوره أو ما يمكن اكتشافه مما بين السطور- هو أمر لا يخلو من مخاطرة، بين إجحاف أو مبالغة في التكريم، مما يستدعي المزيد من الحرص قبل إصدار الحكم، وإفساح المجال لما قد يأتي بعدُ من آراء قد تثري ذلك الأول أو تنقضه. ولعل تناول كاتب مثير للجدل مثل طه حسين يزيد من صعوبة الأمر، ويؤكد ذلك ما نراه من كثرة المؤلفات التي صدرت وما زالت تتوالى في الصدور حتى الآن في دراسة فكر وأدب هذا الرجل، بل إن عدداً لا بأس به من هذه الأعمال قد جنح إلى نوع من التطرف في كلا الاتجاهين.
لسنا الآن بصدد تناول أي من هذه الدراسات لتبين مواقفها، فقد عزمنا منذ البداية على الانطلاق من نقطة الصفر في دراسة الكتاب موضوع البحث، وسنسعى جاهدين للوصول إلى أقرب نقطة ممكنة من الحكم في بحثنا عن إجابة للسؤال المطروح.
لقد تبين لنا في موضع سابق حرص الكاتب على إثبات نظريته القائلة بعدم وجود أي فروق جوهرية بين العقلين المصري والأوربي، وبيّنا تهافت هذه الدعوى وسطحية البراهين التي قدمها لتحقيق هذا الغرض، كما عرضنا لموقف الكاتب من نظام الحكم الإسلامي ودساتيره وقوانينه، مستشهدين بمقتطفات من كتابه تؤكد على استبشاره بالتغيير الذي طرأ عليها إثر الاحتكاك بالأوربيين، والسؤال الآن: هل كان طه حسين يدعو من خلال ذلك إلى قيام نظام حكم علماني بحت، يتخلى فيه المصريون عن الحكم الإسلامي ونظامه التشريعي والقضائي لصالح الأنظمة الأوربية العلمانية؟
أعتقد أنه لا يمكننا من خلال النصوص السابقة الجزم بهذا الحكم جزماً قطعياً، فعلى الرغم من ثناء الكاتب على اقتباس المحاكم الشرعية أنظمة عملها من الأنظمة الأوربية إلا أنه لم يصرح بالدعوة إلى استبدال القانون الوضعي بالشريعة، مما يسمح لنا بحمل كلامه على ظاهره وهو استفادة القضاء المصري من آلية العمل التي تعمل وفقها السلطات القضائية الأوربية، وهي المتبعة اليوم في كل المحاكم العربية والإسلامية كما هو معروف، دون المساس بطبيعة القانون الذي يحتكم إليه القضاء.
من جهة أخرى؛ فإن فلسفة الكاتب في نظام الحكم السياسي ترتكز أساساً -كما يبدو من خلال استعراضنا للكتاب- على تأييد النظام الديمقراطي القائم على التعددية وإشراك الشعب في اتخاذ القرار، يقول على سبيل المثال: "وأين المصري الذي يرضى بأن ترجع مصر عن هذه الخطوات التي خطتها في سبيل النظام الديمقراطي؟ وأين المصري الذي يطمئن إلى أن تعود مصر إلى نظام للحكم يقوم على غير الحياة الدستورية النيابية؟" [ص 40]، كما لا يمكننا الجزم بأن امتعاضه من أنظمة الحكم التي كانت قائمة في مصر قبل ذلك إنما هو ضيق بنظام الحكم الإسلامي القائم على الشريعة، وإنما يمكن حمل ذلك على استيائه من طغيان ذلك النظام وجموده في أسوأ أشكال الحكم الاستبدادي الذي لا يقيم وزناً لرأي الشعب، يقول: "فلو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولوجدنا عقابا لا تجتاز ولا تذلل، عقابا نقيمها نحن لأننا حريصين على التقدم والرقي، وعقابا تقيمها أوربا لأننا عاهدناها على أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة الحديثة"[ص 40]، وهو يشير في هذا النص إلى معاهدة الاستقلال التي وقعتها مصر مع بريطانيا، كما نجده مؤمناً بهذه القضية إلى أبعد الحدود عندما يصر على أن ما حققته مصر من حكم ديمقراطي تبدت بعض ملامحه إبان الاستقلال ليس إلا نتيجة للثورة التي قام بها الشعب المصري بكافة فئاته لإخراج المحتل، وكأن الديمقراطية أصبحت في نظره ثمرة غالية لهذا الجهد الذي بذله الشعب، يقول: "..بل بذلنا في سبيلها جهوداً لا تحصى، وضحينا في سبيلها بالأنفس الذاكية والدماء الطاهرة، وأنفقنا في سبيلها كرائم الأموال واحتملنا في سبيلها ضروب المحن والآلام" [ص 40]، فمن غير المعقول أن يقصد بهذه الثمرة التي بذل لها الشعب المصري دمه وماله انسلاخاً من هويته، وإذعاناً للاحتلال بعد خروجه. فظاهر كلامه يشير إلى إيمانه بأن ما تم تحقيقه من تحديث لأنظمة الحكم والقضاء، وما فيه من إشراك للشعب في الحكم واتخاذ القرار، كان الثمرة الأولى لتلك التضحيات التي قدمها.
على صعيد آخر؛ يصعب القول بأن طه حسين كان يزدري مواطنيه من عامة المصريين كما هو شائع لدى الكثير من المثقفين، فكتابه ينبض بالإخلاص في سعيه الجاد لدفع المواطن المصري وحثه على تبوء مكانه الذي يليق به بين بقية الأمم. وعليه فإن سعيه الواضح لانتزاع مصر من محيطها "الشرقي القريب" ليس إلا لتحقيق هذا الهدف وفقاً لطريقته الخاصة، وهو يبذل لأجل ذلك كل ما أوتي من قوة على أمل أن تلحق مصر بالأمم المتقدمة وتدرك ما فاتها من أسباب الحضارة، يقول في ذلك: "الواجب الوطني الصحيح بعد أن حققنا الاستقلال وأقررنا الديمقراطية في مصر إنما هو أن بذل ما نملك وما لا نملك من القوة والجهد ومن الوقت والمال لنُشعر المصريين أفرادا وجماعات أن الله قد خلقهم للعزة لا للذلة وللقوة لا للضعف وللسيادة لا للاستكانة وللنباهة لا للخمول، وأن نمحو من قلوب المصريين أفرادًا وجماعات هذا الوهم الآثم الشنيع الذي يصور لهم أنهم خلقوا من طينة غير طينة الأوربي، وفطروا على أمزجة غير الأمزجة الأوربية.." [ص 43]، ومن خلال ربطه لحضارة المصريين بحوض البحر الأبيض المتوسط، وعدّه مصر شريكاً في صياغة العقل المتوسطي -والأوربي جزء منه- فإن اللحاق بأوربا اليوم قد لا يعدّ في نظره فناءً فيها، بل إعادة للأمور إلى نصابها، ونبذاً لمخلفات الحضارات الأخرى التي تعاقبت على مصر -ومنها الإسلام من خلال مفهومه الخاص عنه- ليصل بذلك إلى نتيجة مهمة وهي أن تصبح مصر نداً لأوربا وليس تابعة لها. يقول: "لقد كنا معرضين لخطر الفناء في أوربا حين كنا ضعافا مسرفين في الضعف، وحين كنا نجهل تاريخنا القريب والبعيد وحين لم نكن نشعر بأن لنا وجودًا ممتازًا وحين كان فريق منا يؤمنون في أعماق نفوسهم بأن للأوربي فضلاً على المصري ولأنه جوهر ممتاز.. فأما الآن وقد عرفنا تاريخنا وأحسسنا أنفسنا، واستشعرنا العزة والكرامة، واستيقنا أن ليس بيننا وبين الأوربيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج فإني لا أخاف على المصريين أن يفنوا في الأوربيين" [ص58]، ثم يقول: "وقد أغارت أمم قوية على مصر وبسطت سلطانها عليها قرونًا متصلة وأزمانًا طوالاً فلم تستطع أن تهضمها ولا أن تفني شخصيتها" [ص58]. ثم يستشهد بتجربة الشعب الياباني للتأكيد على صحة نظريته: "الشعب الياباني من شعوب الشرق الأقصى قد كان يخالف في حياته المادية والعقلية أشد المخالفة وأقواها شعوب أوربا. فما هي إلا أن أحس ألا سبيل له إلى أن يعيش كريمًا حتى يشبه الأوربيين في كل شيء (…) فما هي إلا أن هم حتى فعل، وما هي إلا أن أراد حتى وفق إلى ما أراد. وإذا هو شعب مهيب تشفق منه أوربا أشد الإشفاق" [ص 42]، ثم يعقب: "ولست أدري لـمَ تضيع شخصية المصريين إذا ساروا سيرة الأوربيين ولا تضيع شخصية اليابانيين مع أن لمصر من المجد والسابقة ما ليس لليابانيين مثله؟!" [ص59].
ولتحقيق هذا الهدف النهضوي الطموح، يطرح طه حسين رؤية تنموية شاملة، لا تخلو من تبعية للغرب -متذرعاً بمفهومه في الوحدة العقلية بين مصر وأوربا- مما يدل على حس مرهف وهمة عالية، فيطرح أولاً أهمية تطوير الجيش المصري: "… ومعنى ذلك أن جيشنا يجب أن ينظم تنظيما أوربيا وأن شبابنا يجب أن يعدوا لهذا الجيش كما يعد الشباب الأوربيون لجيوش أوربا، وأن ضباط هذا الجيش يجب أن يأخذوا من الثقافة بنفس الحظوظ التي يأخذ بها ضباط الجيوش الأوربية وأن عدة هذا الجيش يجب أن تكافئ عدة الجيوش التي يمكن أن تغير علينا" [ص 46]، ويقول: "ومعنى ذلك أن الدفاع عن حوزتنا والذياد عن حرمنا والصيانة لاستقلالنا كل ذلك يكلفنا ويفرض علينا أن نتهيأ لأمور الحرب كما يتهيأ لها الأوربيون"[ص 46]، ويزيد موقفه وضوحاً بقوله: "نحن إذاً نريد أن نضارع الأمم الأوربية في قوتها الحربية لنرد عن أنفسنا غارة المغير ولنقول لأصدقائنا الإنجليز بعد أعوام: انصرفوا مشكورين فقد أصبحنا قادرين على حماية القناة." [ص 47]، فعلى الرغم من سذاجة هذا الموقف والثقة العمياء بالمحتل الإنجليزي، إلا أن ذلك لا يمنع احتمال حرص الكاتب على مضاهاة هذا المحتل والوقوف معه على صف واحد في القوة والمنعة دون تبعية.
يطرح طه حسين بعد ذلك رؤيته الاقتصادية كضرورة للاستقلال عن الغرب بطريقة قد تثير الكثير من الجدل، إذ يقول: "فهذا الاستقلال الاقتصادي يجب أن يكون استقلالاً اقتصاديًا من الطراز الأوربي، لأننا لا نريد أن نستقل في الاقتصاد بالقياس إلى الحجاز واليمن والشام والعراق، وإنما نريد أن نستقل في الاقتصاد بالقياس إلى أوربا وأمريكا"[ص 47]، فمع أن عبارته هذه قد تثير استياءً لدى الكثيرين لما توحي به من تبعية، إلا أن مفهوم كلامه قد يشير على الأرجح إلى أنه يدعو إلى نظام اقتصادي مصري قوي بالقياس إلى الاقتصادين الأوربي والأمريكي، وليس بالنسبة إلى الدول أو الأقاليم ذات الإمكانيات المتواضعة، فليس المقصود إذن إحلال نظام اقتصادي غربي بكافة تفاصيله، وإنما بناء نظام اقتصادي مصري قوي قادر على المنافسة. يقول: "وإذاً فلا بد من أن نهيئ شبابنا للجهاد الاقتصادي على نفس النحو الذي يهيئ الأوربيون والأمريكيون عليه شبابهم لهذا الجهاد"[ص 47]، إذ تغدو المنافسة هي العامل الأساس في رؤيته التنموية، كما يدل على ذلك قوله: "أقول إن من المحقق أننا نستطيع منذ الآن أن نشارك مشاركة قيمة في الحياة السياسية والاقتصادية وأن حظنا من هذه المشاركة سيقوى من يوم إلى يوم، ولكن مشاركتنا في الحياة الثقافية لا تكاد تذكر لأن حظنا من الثقافة لا يكاد يذكر" [ص 334].
كما تتضح مساعي طه حسين في الوقوف إلى جانب الغرب كندٍ له وليس كتابع في عبارات أخرى من قبيل: "... وعلى إشعار الأجنبي بأننا مثله وأنداده من جهة أخرى" [ص 48]، ويوضح طريق الوصول إلى هذا الهدف بقوله: "فإذا كنا نريد هذا الاستقلال العقلي والنفسي الذي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والأدبي والفني فنحن نريد وسائله بالطبع، ووسائلُه أن نتعلم كما يتعلم الأوربي، لنشعر كما يشعر الأوربي ولنحكم كما يحكم الأوربي، ثم لنعمل كما يعمل الأوربي" [ص 48]، ومن هنا يمكن فهم كل دعوات طه حسين إلى اللحاق بالغرب على أنها أخذ بطريق الحضارة الذي لمس آثاره أثناء إقامته في أوربا وانبهر به، يقول: "... فليس على مصر إلا أن تنظر إلى الأمم الحية الراقية كيف تسلك طريقها إلى تكوين العلماء الأحرار المستقلين، ثم تسلك نفس هذه الطريق التي تسلكها هذه الأمم" [ص 205]، مع الأخذ بعين الاعتبار تقصير طه حسين -كما أثبتنا- في تمحيص هذا الطريق وصلاحيته للمجتمع المصري.
من هنا تبدأ نظرية طه حسين التنموية بالتبلور، إذ نجده في الفصول التالية من الكتاب -أكثر من ثلاثة أرباعه- يقصر حديثه على تطوير أنظمة التعليم، بدءاً من التعليم الأولي ووصولاً إلى الجامعي، وهو يقدم بذلك رؤية تنموية مبكرة لنهضة مصر، والتي تم مع الأسف تجاهلها تجاهلاً مؤسفاً للغاية طوال تلك العقود، مما أخر تحقيق حلمه، بالرغم من أن هذه المفاهيم التي طرحها طه حسين منذ حوالي سبعين عاماً قد أعيد اليوم استحضارها وإعادة الاعتبار إليها بعد أن تأكدت أولويتها في عالم التقنية المعاصر.
وبالرغم من إدراك طه حسين لشدة وطأة الجهل والتخلف على شعبه آنذاك، إلا أن كتابه ينضح بالكثير من الأمل الذي يُحمد عليه، يقول: "فكثرة المصريين لا تزال متأثرة بعقلية القرون الوسطى. ولكن طبيعة الحياة ستخرجها غدا و بعد غد عن هذا الطور وستصوغ الأجيال الناشئة والأجيال المقبلة صيغة حديثة أوربية" [ص324]، كما يقول في الفصل الأخير من كتابه: "هذا حلم رائع جميل تمضي فيه نفس هائمة تحب مصر وأهل مصر في هذا الأفق الغريب الجميل من آفاق الألب، ولكنه حلم يسير التحقيق قريب التعبير" [ص 367].
ويمكن لنا استيضاح هدف طه حسين من دعوته للحاق بأوربا أيضاً من خلال موقفه من التعليم، إذ نجده ينتقد التعليم الرسمي المدني لأن الإنجليز أفسدوه، ولكون التعليم الأجنبي غير حافل بالدولة ولا خاضع لسلطانها ولا معني إلا بنشر ثقافة البلاد التي جاء منها، ثم يقول مستنكراً "ويريد سوء الحظ أن يكون هذا التعليم الأجنبي في جملته أنفع وأغنى من التعليم المصري الرسمي" [ص65]، ويزيد الأمر إيضاحاً: "ولست أدعو إلى إغلاق المدارس والمعاهد الأجنبية (...) لأن حاجاتنا الوطنية تدعوا إلى الاحتفاظ بهذه المدارس والمعاهد، فهي من جهة نوافذ قد فتحت لمصر على الحضارات الأوربية المختلفة، وهي من جهة أخرى لا تزال متفوقة على مدارسنا" [ص 69]، ثم يدعو إلى فرض مراقبة دقيقة عليها لتتلاءم مع حقوق الوطنية المصرية وواجباتها: "... أن نتثبت بالملاحظة والتفتيش أن المدارس الأجنبية لا تنحرف بالتلاميذ عن دين آبائهم ولا تتخذهم موضوعاً للدعوة والتبشير" [ص70]، وإن كنا نأخذ هنا على طه حسين قصره خطورة التعليم الأجنبي على التبشير فقط وإهمال أثر المنهج العلمي والعقل الغربيين، وكأنه لا يجد في المنهج العلمي العَلماني أي خطورة على عقيدة المسلمين بالرغم من قيامه على النبذ المطلق لكل ما يمت إلى الدين بصلة! فالتعليم الغربي هو طريق التغريب كما يشير المستشرق جب بكل صراحة: "هذا هو السبيل الوحيد الذي لا سبيل غيره"[1]. ولا ننسى وصية فرانسيس بيكون في تقرير رفعه إلى الملك جيمس الأول لإصلاح التعليم بأن تتم المحافظة على هوة عميقة بين العلوم الطبيعية من ناحية ، وبين الدين واللاهوت المقدس من ناحية أخرى، فقد كان المسلك الوحيد المنقذ- بنظره- هو إقامة ثنائية حادة بين العلوم الطبيعية والوحي الإلهي[2]، وهو ما تم تطبيقه في التعليم الغربي الذي يسعى طه حسين لاقتباسه كما هو!
في المقابل؛ لم يتأكد لدينا سعي طه حسين لإسقاط دور الأزهر إسقاطاً تاماً، وإن تأكد موقفه الواضح من توسيع القاعدة العلمية في العلوم الأخرى، ونقرأ له في ذلك: "فيجب أن تظفر فيه هذه الكثرة الضخمة من الشباب المصريين والمسلمين [أي طلاب الأزهر] بثقافة ليست أقل من الثقافة التي يظفر بها الشباب في الجامعة وفي مدارس التعليم العام" [ص 322]، ويقول: "ويجب أن تكون الثقافة التي تصدر عنه وتتغلغل في طبقات الشعب كلها ثقافة راقية ممتازة" [ص 322]، أما كتاباته المشكلة في هذا المجال فنقرأ منها: "وإذا كنا قد لاحظنا فيما مضى من هذا الحديث أن الظروف المصرية الخاصة لا تسمح في هذه الأيام ولا ينتظر أن تسمح في المستقبل القريب بإعفاء الدولة من العناية بالتعليم الديني في بعض مراحل التعليم، فإننا لم نلاحظ ذلك بالقياس إلى المسلمين وحدهم وإنما لاحظناه بالقياس إليهم وإلى غيرهم من أبناء مصر" [ص329] فقد يحسب القارئ أن دعوة طه حسين إلى إصلاح التعليم الديني وتأكيده على دوره ليسا إلا اعترافاً بوجوده كأمر واقع وليس ضرورة! وبما أنه كذلك فيجب منح الأقباط نفس الحق! ولكن النص قد يُحمل على معنى آخر، وهو أن الظروف التي وصفها كانت تستلزم رعاية الدولة للتعليم الديني وعدم إيكال هذا الأمر إلى الأهالي، وقد لا يعني ذلك ضيقه بهذا التعليم بحد ذاته. من جهة أخرى فإن دعوته إلى إصلاح الأزهر يمكن فهمها من خلال منظوره العلماني الذي يحرص على فصل السياسة عن الدين، ومن هنا جاءت دعوته إلى إخضاع الأزهر للدولة بعد أن تحول نظام الحكم إلى الديمقراطية -حسب زعمه- [ص 74]، فضلاً عن إلحاحه على تعليم الثقافة الوطنية القومية في صفوف الأزهر [ص 76]، على الرغم من التعارض في مفهوم الوطنية بين كل من المنظورين الإسلامي والقومي، وهو الذي لا يجد فيه طه حسين أي مشكلة بناء على قناعته بأن الإسلام لا يختلف عن المسيحية المعاصرة التي تعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. ويشهد لذلك -حسب أنور الجندي- نشرُ طه حسين أربع مقالات في جريدة الجمهورية في عام 1955 يدعو فيها إلى توحيد التعليم وفقاً للأساس المدني في كل معاهد وكليات الدولة، وجعل الأزهر كلية لاهوتية للدراسات الدينية[3].
من ناحية أخرى؛ تصل ثقة طه حسين بالتعليم المصري إلى درجة اقتراحه افتتاح مدارس مصرية في الدول العربية, فيذكر أن وزير المعارف آنذاك قد نبهه إلى أن ذلك غير ميسور، ثم يشير إلى أن العذر لم يعد قائما بعد الاستقلال: "فأما الآن وقد عقد بيننا وبين أوربا اتفاق مونترو، وقد ظفرت سوريا ولبنان ببعض الحرية واستقلت العراق، فما أرى أن مصاعب سياسية تقوم دون هذا النوع من التعاون الثقافي بين الأقطار العربية (...) وما أظن أن السياسة الأوربية تمانع في ذلك وقد تم الاتفاق بيننا وبين أوربا على أن تستقر في بلادنا مدارس أوربية وتستمتع بكل ما يمكنها من النهوض بمهمتها في حدود القوانين المصرية وعلى أن يكون التبادل أساسًا لهذا الاتفاق" [ص 357]، ولكنه يبدي تخاذلاً في موقفه عندما يقول: "وواضح أننا لا نريد أن ننشئ مدارسنا المصرية في فرنسا أو انجلترا أو إيطاليا ولكن من حقنا أن ننشئ المدارس المصرية في البلاد العربية" [ص358] إذ ما الذي يمنع من إنشاء مدارس عربية وإسلامية في الغرب على غرار ما يفعله في بلادنا؟
يُذكر أن طه حسين قد حاول بعد ذلك تطبيق فلسفته في التعليم بعد أن تسلّم حقيبة وزارة المعارف في بداية الخمسينات (قبل الثورة المصرية)، وطرح مقولته الشهيرة: (التعليم للإنسان كالماء والهواء)، ويرى أنصاره أن ناشطي عدد من الأحزاب المعارضة قد ظلموه عندما رفضوا قرار مجانية التعليم الذي اقترحه وأطلقوا عليه من باب السخرية لقب وزير الماء والهواء![4]، ولكن معارضيه لهم رأي آخر إذ يسجل أنور الجندي بعض ما كتبته صحف تلك الفترة من إحصائيات حول عدم جدوى أسلوبه التعليمي، كما يذكر أن طه حسين سافر إلى أوربا أثناء تبوئه منصب الوزارة ثلاث مرات خلال عشرين شهراً، وأنه قضى فيها ستة أشهر خارج البلاد، وكانت له في بلاد الغرب مواقف أثارت الكثير من الاستياء لدى مواطنيه، كإقراره الرابطة بين الاستعمار والتعليم أثناء تواجده في لندن، مما أهله للحصول على الدكتوراه الفخرية من جامعة أكسفورد مع أن الذي رشحه لها هو المستشرق هاملتون جب -المعروف بتعصبه ضد الإسلام- والذي انتقد طريقته التعليمية في إحدى محاضراته لكونها لا تقوم على أسس علمية صحيحة، بل وصفها بأنها تهديم سياسي لا عمل علمي، ثم طلب من الحضور عدم إشاعة هذه الكلام خارج القاعة خشية أن يصل الكلام إلى طه حسين، احترامًا للصداقة التي تجمع بينهما![5].
ومن الجدير بالذكر أن دعوة طه حسين للعلمنة وفصل الدين عن المجتمع لم تقتصر على أنظمة التعليم فحسب، بل امتد أثرها ليشمل ثقافة المجتمع بأسره، إذ لم يفوت الفرصة لبيان رأيه في وسائل الإعلام التي يدعو لمشاركتها في الدعوة إلى التفرنج، بل إن موقفه الحازم من الفن -لكونه يشغل الناس عن القراءة المفيدة- لم يكن إلا انسياقًا لرأي المثقفين الأوربيين في موقفهم المماثل، يقول: "وأنا أعلم أن الأدباء والفلاسفة الأوربيون يشفقون من هذه الأدوات الثلاث [أي الصحافة والسينما والراديو] على العقل والثقافة أشد الإشفاق (...) ومن المحقق أن الصحافة والسينما والراديو خليقة بأن تصرف الناس عن القراءة الهادئة المطمئنة، وأن تنافس الكتاب منافسة خطرة على العقل والثقافة" [ص 352]، غير أنه يشيد في الوقت نفسه بالفنون الهادفة، على أنها من العوامل المساعدة على نشر الثقافة. وفي ذلك يقول الكاتب علي شلش: "المثاقفة عند طه حسين كانت في البداية تعني الأخذ والاقتباس من الحضارة المتفوقة وثمارها الثقافية، ابتداءًا من طرق التعليم الحديثة إلى أشكال التعبير الأدبي الجديدة علينا، مثل الرواية والمسرحية والمقالة. أما وسيلة المثاقفة فقد انحصرت في الاتصال المتين بالحضارة الأوربية في جميع مجالات الحياة. واستثنى بعد ذلك الفن والأدب والحياة الاجتماعية من النقل والاقتباس المطلق، لكنه أضاف إليها لاحقا البعد التربوي أو التعليمي، والبعد الأدبي"[6].
إذن فقد كانت رؤية طه حسين النهضوية -مع أهميتها- أقرب إلى السطحية، فقد كان يفكر بعقلية الأديب والمثقف أكثر من كونه باحثاً استراتيجياً قادراً على استشراف المستقبل وتبين ملامح النهضة وشروطها. كما أن التفاوت الحضاري الكبير بين المجتمعين المصري والأوربي -والذي لمسه بنفسه أثناء تنقله بينهما- تسبب على الأرجح بتلك الصدمة الحضارية التي أخذت بمجامع عقله، ودفعته لإعادة النظر بعدد من الثوابت الإسلامية، حتى وجد نفسه منساقاً لتأويل الكثير من الحقائق وليّ أعناق النصوص والمفاهيم التي أجمعت عليها الأمة، بل وصل به الاستلاب إلى حد إحسان الظن بالمحتل المنهزم وعدّه صديقاً، ثم الدعوة إلى اللحاق به والتعلق بأهدابه أملاً في منافسته وربما التغلب عليه في يوم ما من المستقبل القريب.
بناء على ذلك؛ يظهر التناقض جلياً في فهم طه حسين للمعادلة الدولية، إذ نجده يثني على بعض الأمم القريبة التي تخلصت من الحكم التركي وشاركت على الفور في الحضارة الأوربية -وكأنه يشير بذلك إلى لبنان- معترفاً بأن هذه الشراكة كانت بسبب عطف أوربا على هذه "الأمة"، وأن هذا العطف لم تـجُد به أوربا عليها إلا لتقاطع المصالح السياسية والدينية بين الطرفين، ثم نجده بعد ذلك يلوم المصريين على عدم تمكنهم من تحصيل هذا العطف، مما عرّضهم لطمع وظلم أولئك الذين كان من الأولى بهم أن يعطفوا. يقول: "... بل أنا أعلم أنها قد وجدت [أي لبنان إن صح التخمين] من أوربا حبًا لها وعطفًا عليها ومعونة متنوعة على تحقيق أغراضها. وكان مصدر هذا كله السياسة أحيانًا والدين أحيانا أخرى. وأننا نحن لم نظفر من أوربا بشيء مثل هذا، ولعلنا ظفرنا بما يناقض هذا كل المناقضة فكنا موضوع الطمع الأوربي والمنافسة الأوربية والظلم الأوربي(...) لأننا لم نحسن مقاومة أوربا، ولم نحسن انتهاز الفرص التي سنحت لنا، ولم نأخذ أمورنا بالجد والعزم" [ص 334].
لقد كان الخطأ الفادح الذي وقع فيه طه حسين والكثيرون من زملائه الذين تبوءوا منابر الثقافة والفكر في عصر ما يسمى بالنهضة العربية -من وجهة نظري- في عدم تمكنهم من استيعاب تاريخية المقولة الفكرية الغربية وموقعها من سياق التشكل الاجتماعي والتاريخي للنظام الدولي، فوقعوا في فخ مذهبيتها بعد أن انساقوا لتأثيرها القادر على الإقناع، واقتنعوا بأن التحديث لن يتم إلا من خلال انتهاج المذهب العقلاني -الوضعي- وتحويله من تعبير لمرحلة تاريخية للنسق الغربي إلى مقولات مبتسرة يمكن التأسيس عليها في العالم الإسلامي.[7]
لم يستدع الأمر كثيرًا من الوقت حتى كشف هذا الاتجاه عن خطئه المنهجي، فبعد أن أعاد الغرب نفسه النظر في تلك المقولات التي أنزلت منزلة المقدس طوال القرون الأربعة الأولى من عصر الحداثة، وخصوصًا بعد أزمة انفلات مبدأ القوة وتصارع الأيديولوجيات التي تحولت إلى أداة لتسخير قوى العالم في سبيل السباق على التسلح، وبعد أن أعيدت صياغتها مرة أخرى مع بزوغ فجر النظام العالمي الجديد في بداية تسعينيات القرن الماضي، وجد أتباع العقلانية الغربية في المشرق الإسلامي أنفسهم بين فكي كماشة، فهم محاصرون من قبل تضخم القوى العسكرية التي انقلبت عليهم بعد أن بنوا عليها الأمنيات من جهة، ومدانون من قبل الشعوب التي شوهوا هويتها بنظم مستوردة أُحيل بعضها إلى مقبرة التاريخ من دون محاكمة حتى في وطنها الأم من جهة أخرى، وكأنهم وقعوا بذلك في فخ "المدرسية" التي نفض أقطابهم في الغرب غبارها عن رؤوسهم منذ قرون، وجعلوا من عقلانيتهم البائدة تعاليم أرسطوية تبحث عن رعاية كنسية لتنزيهها عن النقد!
بالرغم من كل ذلك؛ فإن الحكم على نوايا هؤلاء المفكرين أمر يصعب الجزم فيه، ولعل الحرص على عدم الخوض في هذا الأمر يدفعنا لافتراض كونهم قد وقعوا تحت سيطرة عقدة النقص والاستلاب، وهي التي استغلها الغرب لصالحه أحسن استغلال، ويشرح الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر هذه السياسة بقوله: "كنا نُحضر أبناء رؤساء القبائل وأبناء الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في لندن وباريس وأمستردام، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويرتدون السترات والسراويل ويتعلمون لغتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا نزوج بعضهم من أوربا، ونلقنهم أسلوب الحياة على أثاث جديد وطرز جديد من الزينة، واستهلاك أوربي وغذاء أوربي، كما نضع في أعماق قلوبهم أوربا والرغبة في تحويل بلادهم إلى أوربا، ثم نرسلهم إلى بلادهم حيث يرددون ما نقوله بالحرف تماماً مثل الثقب الذي يتدفق منه الماء في الحوض، هذه أصواتنا تخرج من أفواههم، وحينما كنا نصمت كانت ثقوب الأحواض هذه تصمت أيضاً، وحينما كنا نتحدث كنا نسمع انعكاساً صادقاً وأميناً لأصواتنا من الحلوق التي صنعناها، ونحن واثقون أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم، وليس هذا فحسب بل إنهم سَلبوا حق الكلام من مواطنيهم"[8].
ومن المعروف أن طه حسين لم يكن يغرد خارج السرب لوحده، فقد سار على الدرب نفسه مثقفون آخرون في العالم الإسلامي، على الرغم من بعض التفاوت في درجة الانجذاب والمصارحة.
نذكر مثلاً الكاتب التركي ضياء كوك ألب (1875 - 1942م) عندما دعا إلى سلخ تركيا عن ماضيها الشرقي، لأنها امتداد لحضارة المتوسط، فكان أول من طرح فكرة "الحضارة المتوسطية"، وصرح بأن "الحضارة الغربية هي الشارع الوحيد إلى التقدم"[9]، وأن "علينا أن نختار إحدى الطريقين إما أن نقبل الحضارة الغربية أو نظل مستعبَدين[10].."، وقد حقق كل من كوك ألب وطه حسين بذلك رغبة جاك بيرك الذي قال: "فإذا قبل العرب الدعوة المتوسطية يتخلصون تماماً من تناقضهم مع التفرنج، ذلك أنه يصبح سمة طبيعية لا مفروضة عليهم"[11].
وعلى الجانب نفسه يقف سلامة موسى الذي نادى مراراً بضرورة الانسلاخ من الشرق والذوبان في الغرب، ودعا مصر إلى التوجه صوب "السويسريين والإنجليز والنرويجيين هؤلاء النظاف الأذكياء"[12]، بل نجده يدعي أن العرب لم يكونوا شرقيين في الأصل، وإنما نُسبوا إلى الشرق "بتوغلهم في آسيا إلى حدود الصين، وأيضا بعادة التسري وعادة الضرار -تعدد الزوجات- اللتين أجازهما لهم الإسلام، فدخلهم دم آسيـوي وخاصة صيني كثير"[13].
أما في الهند فظهر سيد أحمد خان (1817 – 1898م) الذي صرح بأنه "لا بد أن يرغب المسلمون في قبول هذه الحضارة الغربية بكمالها حتى لا تعود الأمم المتحضرة تزدريهم أعينها، ويعتبروا من الشعوب المتحضرة المثقفة[14]. وفي إيران قال تقي زادة: "فلنلق بقنبلة الاستسلام للأوربي في هذه البيئة ولنفجرها والخلاصة: لنصبح أوربيين من قمة الرأس إلى أخمص القدم"[15].
لكن التنزه عن الحكم على نوايا طه حسين لا يعني تبرئته من شناعة الخطأ الذي ارتكبه في حق هذه الأمة، خصوصًا وأنه تبوأ أعلى المناصب التعليمية في بلاده، مما ساعده على ترسيخ مفاهيمه العلمانية في أنظمة التعليم التي سرعان ما طغت على ثقافة المجتمع المصري والعربي عمومًا، إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن من ضعف الهوية الإسلامية وحتى العربية لدى الأجيال الناشئة، فإذا رجحنا -تجاوزاً- تبرئة طه حسين من سوء النية في دعوته إلى التغريب، فلا بد أن يحمل بشكل أو بآخر قدراً كبيراً من مسؤولية هذا الحال الذي وصلنا إليه، على الرغم من احتمال عدم رضاه عن كل ما فيه.
هل تراجع طه حسين عن بعض أفكاره؟
بقي تساؤل واحد ومهم قد يحل هذه المشكلة فيما لو تمكنا من الإجابة عنه، والذي يبحث في صدق الدعوى التي اشتهرت كثيراً حول تراجع طه حسين في آخر حياته عن انحرافاته المعروفة عن الإسلام، أو ما يمكن تسميته بالتوبة، فمع أن توبة المرء لا تعدو أن تكون شأنًا خاصًا به وبعلاقته مع ربه، إلا أن ما يهمنا هنا -كنقاد وباحثين- هو تراجع الكاتب الذي ينشر فكره بين عامة الناس، واعترافه بخطئه لسبب أو لآخر.
يناقش أنور الجندي هذا التساؤل بالكثير من التفصيل في الفصل الأخير من كتابه (طه حسين.. حياته وفكره في ضوء الإسلام)، ونجده يرجح بإصرار واضح عدم تراجع طه حسين عن أفكاره الرئيسة التي اختلف فيها مع جمهور العلماء وغيرهم من المثقفين. فبالرغم من بكاء الرجل وخشوعه أمام الكعبة وعند استلامه الحجر الأسود عام 1952 -حسب رواية أمين الخولي الذي كان برفقته- إلا أن هذا الموقف لا يمكن عده دليلاً كافيًا لإثبات تراجع الرجل أو إعلانه توبته، ويفسر الجندي هذا الموقف بأحد احتمالين، أولهما أن يكون جزءاً من المسرحية التي حاك طه حسين قصتها مع رفاقه العلمانيين -حسب قوله- ليقال أنه عاد إلى حظيرة الإسلام مما يسهل له الاستمرار في خداع الناس وتضليلهم، أما الثاني فهو احتمال كونه قد تأثر فعلاً بجلال الموقف في بيت الله الحرام، ولكنه مع ذلك لم يغير الكثير من مواقفه المعروفة -كما سيأتي- بل أراد أن يسلم نفسه إلى عقيدة هي في مفهومها لاهوتية وليست إسلامية[16]، ويمكن فهم هذا التصور بالعودة إلى ما سبق قوله حول مفهوم طه حسين للأديان، وعدّ كل من النصارى والمسلمين في عداد المؤمنين دون تمييز.
ينقل الجندي أيضاً بعض العبارات التي يتداولها البعض عن طه حسين، والتي يمكن حملها على تراجعه، كقوله "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما كتبت الشعر الجاهلي"، وقوله للسفير أحمد رمزي عن كتاب مستقبل الثقافة في مصر: "إني متفق معك على أن في الكتاب أخطاء كثيرة"، ولكن الجندي يعقب على هذه المواقف كلها بتأكيد عدم كفايتها، إذ لا بد في ذلك من تصريح واضح كما فعل محمد حسين هيكل الذي سجل بخط يده تراجعه عن كثير من مواقفه، وأثبت فيما بعد انصرافه عن وجهته القديمة. أما تأليف طه حسين لكتابي (الشيخان) و(على هامش السيرة) والذي يعدّه البعض دليلاً على توجهه الإسلامي بعد إخراجه للكتب المشكلة الأخرى كالشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة فهو -في رأي الجندي- ليس إلا جزءاً من المؤامرة المدبرة مسبقاً لتنصيبه إماماً للإسلام، أملاً في تمكينه من تضليل المسلمين وبث العلمانية في مجتمعهم، خصوصاً وأن كتابي الشيخان وعلى هامش السيرة يحملان في طياتهما الكثير من المغالطات التاريخية والدينية، كما يدعم الجندي موقفه بما ينقله عن اللواء محمود شيت خطاب الذي سمع من طه حسين في آخر حياته قوله: "إن القرآن كان غير منقط ولذلك فقد حدث فيه اختلاف كثير، فهناك كلمات تنطق كذا وكذا"[17].
بالرغم من ذلك؛ فإن الأدلة التي طرحها أنور الجندي لتأييد موقفه لا يمكن الوثوق بها في الإجابة عن السؤال المطروح حول صحة تراجع طه حسين عن بعض أفكاره لكونها غير موثقة، باستثناء ما ذكره عن نشر طه حسين لبعض المقالات في جريدة الجمهورية حول ضرورة توحيد التعليم على أساس مدني -أي علماني- وقصر دور الأزهر على التعليم الديني الذي يراد عزله وتحييده، وذلك في مرحلة متأخرة من حياته[18]، بيد أننا لا ننسى -في المقابل- تأكيد أنور الجندي على عدم وجود أي وثائق بين أيدينا تؤكد تراجعه عن أفكاره الشاذة التي سبق التعرض لها في هذا البحث.
والأهم من ذلك؛ أن طه حسين صرح بما يثير الكثير من التساؤلات حول عقيدته في الحوار الأخير الذي أجراه معه غالي شكري قبل وفاته بثلاث أسابيع، إذ يقول ما نصه: "سر الإبداع أو سر الوجود لا يعنيان أن ثمة قوة مفارقة للطبيعة قد فعلت ما تراه وانتهى الأمر. التفسير المادي كالتفسير الغيبي أعجز من أن يقيما البرهان والشهادة على الحقيقة الفنية أو الكونية. إنها محاولات تخضع للصواب والخطأ، تضر وتفيد، ولكنها لا تكشف اللغز الذي أرى بقاءه الحتمي ضروريًا لبقاء الحياة والفن على السواء"[19].
[1] الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ص 202
[2] جيمس كوليز، الله في الفلسفة الحديثة، ترجمة فؤاد كامل، مكتبة الغريب، القاهرة، 1973، د .ط ، ص 133
[3] أنور الجندي، ص 95
[4] أحمد قائد بركات، العرب وظاهرة التجريح، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1989، ص8
[5] أنور الجندي، ص 101
[6] علي شلش، طه حسين مطلوب حيا أو ميتا، الدار العربية للطباعة والنشر، القاهرة، 1993، ص91-93
[7] حسن الضيقة، في الاجتماع الإسلامي المعاصر، دار الإيمان، بيروت، 1993، ص 84
[8] د. يحيى هاشم فرغل، حقيقة العلمانية بين الخرافة والتخريب، الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة بالأزهر الشريف، دار الصابوني للطباعة، القاهرة، بدون تاريخ، ص 270
[9] أبو الحسن الندوي، الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، ص 41
[10] المرجع السابق، ص 41
[11] صحيفة الحياة، عدد أغسطس 1993، نقلاً عن د. محمد عمارة، الإسلام بين التنوير والتزوير، ص 178
[12] سلامة موسى، اليوم والغد، ص 238 - 239
[13] المرجع السابق، ص 248
[14] الندوي، مرجع سابق، ص 66
[15] علي شريعتي، العودة إلى الذات، ترجمة د. إبراهيم الدسوقي شتا، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1413 هـ 1993 م، ص 60
[16] أنور الجندي، ص 245- 246
[17] السابق، ص 143
[18] نفسه، ص 95
[19] غالي شكري، هكذا تكلم طه حسين لآخر مرة، وزارة الثقافة السورية، أيار 2006، ص 67- 68، وهذا الكتيب إعادة نشر لحوار نشر في مجلة الثقافة العربية الليبية، السنة الأولى، العدد التاسع، يوليو 1974