في عام 1985 كانت زيارتي الأولى لتونس الخضراء، ضمن الوفد المصري للمشاركة في مهرجان الفكر، وكان معي وقتذاك: د. نعمات أحمد فؤاد، والشاعرة ملك عبد العزيز، ود. عبد العزيز شرف، ود. محمد المنعم خفاجي، والمستشار رابح لطفي جمعة، والقاص حسني سيد لبيب، وغيرهم. وكان هناك أدباء من وفود عربية أخرى، أتذكر منهم الكاتبة السورية قمر كيلاني.
ولم أزل أتذكر كيف كانت حفاوة اللقاء، وأهميته، وأننا قضينا يوما كاملا في مدينة القيروان.
ومن يومها وأنا أتوق إلى زيارة تونس مرة أخرى، فهناك أشياء كثيرة فاتتني، ولم أشاهدها في تونس، إلى أن كانت دعوة الخالقي للمشاركة في المهرجان الذي لم أكن أعرف شيئا عن اسمه صاحبه "علي بن غذاهم"، فعرفني الخالقي أنه من أبطال المقاومة الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي في منطقة جدليان، التابعة لولاية القصرين، وأنهم اكتشفوا أنه كان يكتب قليلا من الشعر، فقرروا أن يحتفوا بالرجل ويبعثوا اسمه من جديد، (فالذكرى للإنسان عمرٌ ثان) فأطلقوا اسمه على هذا المهرجان الشعري الذي بدأ محليا ثم صار دوليا، وها هو يصل إلى دورته التاسعة في العام 2004.
حضر ثلاثتنا إلى تونس قبل بداية المهرجان بثلاثة أيام (نظرا لجدول مواعيد الطيران المصري الذي ينظم رحلتين في الأسبوع يومي السبت والثلاثاء). وعندما خرجنا يوم الثلاثاء من مطار قرطاج الدولي (وهو أحد المطارات التي أعجبتني، وذكرني على الفور بمطار دبي الدولي، ولكنه أصغر مساحةً من مطار دبي)، وجدت أمامي الصديقين عبد الكريم وعماد، في انتظارنا.
بعد الترحيب الأخوي الشديد، والتعرف على أعضاء الوفد المصري السكندري. توجهنا إلى شارع باريس، وأقمنا في أحد الفنادق الكلاسيكية الرائعة الذي يرجع تاريخه إلى عام 1911، هو فندق ماجستيك الذي ذكرني بفندق سيسل في الإسكندرية.
فرحنا بإقامتنا في وسط العاصمة التونسية بالقرب من شارع الحبيب بورقيبة، الذي يشبه إلى حد كبير شارع الشانزليزيه في العاصمة الفرنسية باريس، وبالقرب من جامع الزيتونة، ونهج الزيتونة الذي يشبه إلى حد كبير خان الخليلي في القاهرة، وزنقة الستات في الإسكندرية. فضلا عن قربنا من مقر اتحاد الكتاب التونسيين، وشارع ابن خلدون وتمثاله بشارع الحبيب بورقيبة، وشارع أم كلثوم، وشارع جمال عبد الناصر، وشوارع أخرى كثيرة مشهورة، نكاد نعرف أسماءها في مصر.
***
كانت الظاهرة التي لفتت انتباهنا منذ أول وهلة حب التونسيين للفن المصري، والسينما المصرية، ففي كل مكان نذهب إليه ـ سواء في المقاهي أو المحلات أو الشوارع ـ تتناهى إلى أسماعنا أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وغيرهم من أساطين الغناء العربي. بل البعض كان يسألنا ـ عندما يعرف أننا مصريون من لهجتنا ـ عن الحالة الصحية للفنان أحمد زكي. اكتشفت أنهم يحبونه كثيرا . وكانت إحدى دور العرض السينمائي بشارع ابن خلدون تعرض فيلم التجربة الدينماركية للفنان عادل إمام، وملصقات الفيلم منتشرة في معظم شوارع وسط العاصمة.
قضينا أيامنا الأولى في التعرف على الشوارع والأسواق والمحلات التونسية. وفي الفندق تعرفنا على الأكلات التونسية الشهيرة، وعلى بقية أعضاء المهرجان الذين قدموا من الجزائر وليبيا وإيطاليا واليونان ومقدونيا. كان معنا حسين الأحمدي الذي يدرس في تونس دراسات إسلامية ويجيد اللغة العربية وبعض اللغات الأجنبية ويترجم لنا من كلام الشاعر المقدوني أحمد سلمان، أما عبد الكريم الخالقي فكان يترجم لنا من كلام الشاعرة اليونانية إيفا ليارو، وصديقتها الشاعرة اليونانية إيلينا باسار، عندما تتحدثان الفرنسية، أما عندما كانتا تحاولان التحدث بالإنجليزية، فلم نكن في حاجة إلى وسيط.
أهديت نسخة من مجموعتي الشعرية "بحر آخر" المترجمة إلى الفرنسية، إلى إيفا وإيلينا. قرأتها إيفا ليارو على الفور واستأذنت في ترجمة بعض القصائد من الفرنسية إلى اليونانية، ونشرها في إحدى المجلات اليونانية، فوافقتُ على الفور.
في مساء الليلة الثانية وبعد اكتمال حضور الوفود، كنا نريد التوجه إلى كافتيريا الفنان لطفي بوشناق، التي سمعنا عنها، غير أننا علمنا أنه لن يكون موجودا في تلك الليلة، فتوجهنا إلى كافتيريا أخرى أقرب، وأمضينا ليلة جميلة، ظنت خلالها إيفا وإيلينا أن الشيشة التي كان يدخنها بعضنا بها ممنوعات، فنفينا هذا الظن، فطلبا أن يجرباها بدلا من السجائر.
في صباح يوم الجمعة توجهنا بحقائبنا من تونس العاصمة إلى ولاية القصرين، حيث المهرجان الذي ستبدأ وقائعه بعد ساعات قليلة. وسارت بنا السيارة في طريق معالمه كلها خضراء في خضراء على خضراء، سواء في السهول أو المرتفعات أو الجبال، في منظر ترتاح إليه العين وتصفو النفس عندما تشاهده. وكأننا في طريقنا إلى إحدى جنات الله.
مع الشاعرتين اليونانيتين إيلينا باسار، وإيفا ليارو
عندما وصلنا إلى بلدة جدليان، وجدنا استقبالا شعبيا رائعا، إذ خرج أبناء المنطقة جميعا في استقبالنا بالرقص الشعبي والموسيقى الشعبية، وآلات العزف التقليدية، فضلا عن الاستقبال الرسمي، فقد كان في مقدمة المسؤولين مندوب معتمدية جدليان محمد الأمين، نائبا عن محافظ أو والي القصرين محمد العيد الكدوسي، ومع الأمين كان هناك مسئولون من وزارة الثقافة والشباب والترفيه، ووزارة السياحة، واتحاد الكتاب التونسيين، وجهات أخرى عديدة.
وبدأت وقائع الاحتفالية التي ظننت أنها ستكون احتفالية عادية، ولكن كل المؤشرات التي أمامي تشير إلى أننا بصدد احتفالية بالفعل دولية، حيث التمثيل الحي لشعراء من بعض دول البحر المتوسط، ودول عربية أخرى وكان من المفروض أن يحضرها شعراء من فلسطين ولبنان وسوريا والسعودية والإمارات، ورومانيا وبولونيا وألمانيا وصربيا ومارتينيك، ولكنهم اعتذروا في آخر وقت، بعد أن طُبعت أسماؤهم في بطاقات الدعوة. وأعتقد أن من لم يحضر منهم خسر كثيرا من الأوقات الجميلة، والصحبة الطيبة، وكرم الضيافة، التي كان من الممكن أن يلاقيها في جدليان، وسبيلته، وتونس العاصمة.
***
كان مبيتنا في منطقة سبيلته ـ التي تبعد حوالي أربعين كيلو مترا عن جدليان ـ وتحتضن الكثير من الآثار الرومانية، التي اصطحبنا إليها أحد الشباب التونسي، عندما سألناه ذات مساء عن مقهى قريب من الفندق أو النُّزل الذي كنا فيه، وعندما عرف أننا مشاركون في مهرجان خيمة عليّ بن غذاهم، وأننا أول مرة نزور هذه المنطقة، أصرَّ أن يأخذنا في جولة سريعة ـ في سيارته ـ لمشاهدة آثار المنطقة وشوارعها على أضواء النيون، قبل أن يدلنا على مقهى قريب. وفي الصباح ذهبنا لرؤية الآثار في ضوء الشمس التونسية الحانية.
عدنا إلى جدليان بعد أن زورنا الآثار الرومانية، وشاهدنا ما تركه الرومان منذ القرن الأول الميلادي، وما خلَّفه الإمبراطور جرجير من آثار تركها على حالها الصحابي عبد الله بن الزبير، وبقية العبادلة، الذين هزموا جرجير، وتزوج عبد الله من سبيلته ابنة جرجير، ودخلت في الإسلام.
في جدليان استأنفنا برنامج المهرجان، ثم خرجنا في جولة سياحية جبلية عظيمة الفائدة، فصعدنا المرتفعات، وهبطنا الوديان، وشاهدنا عيون المياه الطبيعية، أو مياه الأمطار، التي تروي المنطقة كلها، بناسها، ونباتاتها، وحيواناتها، ومررنا على المراعي الطبيعية، ورأينا محاصيل كثيرة منها الشاي الأخضر، وبعض الأعشاب الطبيعية ذات الفائدة الكبيرة لصحة الإنسان. والتقطنا الصور التذكارية، وكانت بعض كاميرات الفيديو تسجل أحداث اللقاء بالطبيعة الخصبة التونسية، في جو صحو وهواء نظيف، خال من الملوثات والعوادم.
***
بعد انتهاء المهرجان، وانقضاء أيام جدليان، عدنا إلى العاصمة التونسية، وكان أمامنا يومان آخران، قبل موعد إقلاع الطائرة المصرية من تونس إلى القاهرة. فقررنا زيارة اتحاد الكتاب التونسيين الذي يقع قريبا جدا من الفندق بشارع باريس، وهناك التقينا بالشاعر الميداني صالح رئيس اتحاد الكتاب، ورضا الملولي رئيس تحرير مجلة "المسار" التي يصدرها الاتحاد، والطيب الفقيه أحمد المتخصص في أدب الأطفال، والذي التقيته في مؤتمر الجزائر، ومحمد الهاشمي بلوزة، عضو مجلس إدارة الاتحاد، وكان لقاء طيبا تركنا فيه مع الحب والود، بعض القصائد والمقالات لنشرها في مجلة "المسار". كما زرنا صحيفة الصباح، والتقيت بالصديق الشاعر يوسف رزوقة الذي أصبح المسئول الأدبي بالجريدة، والمشرف على ملحق الجمعة.
ثم قمنا بزيارة مبنى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الإلكسو) ومحاولة فهم ما يجري بخصوص المشاركة العربية في معرض فرانكفورت الدولي في السادس من أكتوبر من هذا العام. والتقيت بالصديق القديم الشاعر محمد أحمد القابسي الذي أصبح وزيرا مفوضا ورئيس ديوان المنظمة التابعة للجامعة العربية.
اتصلت بالقابسي على المحمول (بورتابل) الخاص به ليلة حضوري إلى تونس، فوجدته يرد عليَّ من باريس. وحدد لي ميعاد عودته لكي ألتقي به، وكان الموعد يتعارض مع أيام جدليان، فقلت لا بأس عندما أعود من جدليان أعاود الاتصال. فاتصلت به بعد العودة، ووصف لي مكان المنظمة بشارع محمد الخامس، وبالقرب من السفارة المصرية.
ذهبت، وكان معي الصديق الشاعر جابر بسيوني، والتقينا بالقابسي الذي رحب بنا ترحيبا شديدا، وذكَّرني بأسماء أصدقاء قدامى في تونس، ولكني لاحظت مدى انشغاله، وزحمة مكتبه بالأوراق والأشخاص الذين يدخلون ويخرجون، وعندما أردت الانصراف، أبى ذلك، وأصر على طلب القهوة، وبعد أن شربنا قهوتنا، أردت الانصراف لأنني أحسست أننا نعطله، فنحن لا نعرف كيف نحادثه، ولا هو، ووجدت ـ على مكتبه ـ خطابات من السيد / عمرو موسى ـ أمين عام جامعة الدول العربية، تنتظر الرد السريع، والموظفون يدخلون ويخرجون، ويريد أن يصرفهم ليفرغ لنا، وكاد ينجح، ولكن يرن جرس الهاتف، وإذا بالمتحدث د. المنجي بوسنينة أمين عام المنظمة، فيسقط في أيدينا جميعا، ويضطر القابسي أن يغادر مكتبه، ليدخل مكتب بوسنينة، ونستأذن في الانصراف، وعندما أراد أن نلتقي مساء، قلت له: إننا سنغادر تونس بعد ثلاث ساعات من الآن، فأراد أن نغادر المبنى في إحدى سيارات المنظمة، ولكن قلت له: لم يبق سوى سويعات قليلة أريد أن أترجل فيها لأودع شوارع تونس الخضراء.