كان القطار يسير ببطء ويتوقف في محطة تلو المحطة. كان بعض تلك المحطات يبدو قاتماً كئيباً يلفه الظلام ، تبدو وجوه من ينتظرون فيها بائسة شاحبة ، خالية من التعبير، كانت تلك رحلة طويلة من المدينة الصغيرة التي يقيم فيها إلى العاصمة حيث سوف يستقبل في المحطة زوجته التي ستعود بعد غياب دام ثلاثة ألأشهر في أحد المشافي التي كانت تتلقى العلاج فيه، كان كلما توقف القطار في إحدى المحطات يطلً من النافذة لكي يتفحص الوجوه ثم يُمضي الوقت بالتأمل و باسترجاع صور ما شاهده من تعبير على وجه كل منهم، كثيراً ما يشعر بالأسف والتعاطف لما لحظه على وجوه البعض من وجوم وحزن وأسى أومن ضيق سببه طول انتظار ويبدأ بخيال الكاتب بنسج قصة لحياة كل منهم، قصص خيالية تتناسب مع التعابير التي ارتسمت على تلك الوجوه.
مضى كانون الثاني، وانسلّ ليبني له رسماً بين السنين العجاف، كثيرٌ هم الذين ولدوا فيه، وكثيرٌ هم الذين رحلوا في قوارب أيامه، ليست المشكلة في أن تعيش أو تموت؛ بل في أن تعيش ضعيفاً مقطوعاً من شجرة، كما كانت تقول جدتي رحمها الله! تلك التي كانت مدرسة في صبرها واحتمالها وشجاعتها على مواجهة الحياة!
أنا الآن في وسط الليل، وجنون الرياح التي تسابق المسافات، ولا تترك شيئاً إلاّ ضربته يميناً وشمالاً، تتمايل الأشجار، وتنحني أمام قوتها، وتهتز الأبواب والنوافذ، وتطير الأوراق، وكأنها في سباق! أو كأنّ الرياح تطارد شبحاً أرعبها، أو تطلب ثأراً قديماً جددته الذكريات والدموع!
أنا الآن وسط هذا الجنون، أتدثر بما أتاح لي الزمن الثقيل، من أغطية بالية، ورثتها عن أمي وأبي اللذين ماتا قبل أكثر من عشرين عاماً، أجلسُ في الفراش؛ حيناً أسبّحُ الله، وحين أغفو قليلاً، وحيناً أبكي!
قد لا تصدقون، أنّ أبي كان من أكبر الملاكين للأرض، كان سيداً في قومه، ألمْ تسمعوا بعبد الله الفيل!؟ إنه أبي! اسم عائلتنا يدلّ على سطوتنا وسيادتنا، وهو قديم أطلق على جدّ والدي رحمهما الله!
في الحادي والعشرين من شهر نوفمبر، وفي مساء ممطر، وتحديداً عند الساعة الثامنة مساء ، كانت زحمة غير عادية في أرض المعارض، حيث ازدحم الكتّاب ومتذوقي الأدب والعلم والمعرفة، إضافة إلى جمهور غفير من الحضور وهواة الاطلاع ، لا أعلم ما الدافع إلى كل هذا الازدحام، فهو مزعج بالنسبة لي على الأقل ؛ لأنني لا أٌطيقه.
في هذه الأجواء وصل غيث في سيارته الميتسوبيشي البيضاء من الطراز القديم يسير في الزحام متحمّلاً كمّاً هائلاً من النكات والسباب الذي يتعرض له بسبب صغر سيارته. يا للأسف، عقول فارغة تنظر إلى السيارة الفارهة ولا تنظر إلى العقول التي بالمعارف هائمة، وبعد عناء طويل وجد مكاناً لسيارته، فركنها ، ثم ترجّل منها ومعه كتاب صغير لا يتجاوز التسعين صفحة.
نحن البشر أضعف مما نتصوّر، نحن لا شيء بدون عون الله تعالى، لذا علينا أن نتمسك دوماً بقوّة بالإيمان . علينا أن نجعل طاقة الايمان الكامنة في دواخلنا هي التي تقودنا في الحياة .علينا أن نشعر دوماً بأن هناك ربّ عالم و ُطلع وقادر على انتشالنا من أكبر الابتلاءات والمخاطر وأن بإمكاننا أن نتوكل عليه في كل ما يتسبب لنا بالمعاناة .
كان تجاوز بنو البشر لجميع ما تعرضوا إليه من جميع الابتلاءات بقوّة إيمانهم، وبالإيمان وحده. الإيمان يجعلنا نصل إلى برّ السكينة والأمان فعندما يملأ الإيمان القلوب تمتلئ النفس بالأمل وبالرضا والعزيمة.
هذه القصة هي من واقع ما يمرّ به العالم بأكمله من ابتلاءات سبّبها فيروس صغير فيروس الكورونا . فيروس صغير قلب كافة الموازين وتسبب حتى الآن بوفاة الملايين . فيا تُرى إن كُتب للعالم النجاة فهل هل سيكون العالم بعد الكورونا كما هو في الوقت الحاضر؟ تُرى هل ستشفى النفوس عندما ستزول هذه المحنة .هل ستشفى من المظالم ومن القسوة ومن الأنانية ؟ هل ستحلّ المحبة وهلّ سيحلّ التعاطف والتعاون من جديد في عالمنا ؟ وهل سيحّل السلام والوئام؟
كنت جالسًا على مكتبي في ليلة شتوية قارصة البرودة، أراجع دروسي وأنا أحتسي كوبًا من الكاكاو الساخن بتلذذ، لقد اقتربت الامتحانات وأصبحت على الأبواب، كشبح يقترب رويدًا رويدًا، فتتحدد ملامحه المقلقة يومًا بعد يوم، ورغم ذلك كنت مطمئنًا إلى حد ما من تحصيلي، فقد واظبت على حضور المحاضرات ومراجعتها من أول العام، ولكن إحساسي بتلك البرودة الشديدة في هذه الليلة أعطاني شعورًا عامًّا بالقلق والخوف والوحدة... شرد ذهني عن الكتاب المفتوح أمامي ونظرت مفكرًا في كشاف الإضاءة القابع على مكتبي بجانب رأسي، إنه يضيء لي ويعطيني بعض الدفء إلى درجة أني أتحسس بأناملي أحيانًا المصباح شديد السخونة بداخله، أملًا في حرارة مباشرة تسري بأطرافي، وإذا انطفأ هذا المصباح لسبب أو لآخر أفشل في قراءة دروسي بل وأشعر بالبرد أكثر، إلى هذه الدرجة ضعيف هذا الإنسان؟! وتدرج خيالي إلى أبعد من ذلك، ماذا لو فقدت مسكني هذا وأصبحت في العراء في ليلة شتوية كهذه؟! ماذا لو اختفت ملابسي الصوفية الثقيلة في تلك الطبيعة التي لا ترحم؟! ماذا لو لم أجد الطعام والشراب؟! وبهذا انتقلت بأزمتي الخيالية من طالب علم يأمل في الاستذكار إلي إنسان بدائي يطلب الاستقرار، ماذا لو... استفهام مقلق يشعرك بالعجز عن معرفة ما سوف يحدث وما ستفعله، ويفضي إلي التشتت في كثير من الأحيان، لذا لا داعي لأن أجهد ذهني بتلك الفلسفة وأكتفي بتحـصيل ما قد يساعدني علي إجابة أسئلة الإمتحانات ثم أفعل ما يحلو لي بعد ذلك.
كأن اللحظات تتجه نحو نفقٍ مظلم، والانتظار أشبه بموقد جمر، هذا حال سالم الذي يترقب اتصالًا هاتفيًّا من لَدُنْ رفيقيه فيصل و عامر اللذين قد اتفقا معه يوم أمس في الذهاب بنزهة برية خارج منطقتهم السكنية، ومن دون سابق إنذار بدأ يطلق جهازه النقال نغمات تشير إلى الهدف المنشود، (اتصال من قبل رفيقيه):– أهلًا– نحن أمام منزلك هيا– حسنًا قادم إليكم لملم حقيبته ذات السعة المطلوبة، وتوجه للخروج فركب المركبة وانطلقوا نحو مآل رحلتهم، بدأ فيصل الذي كان يقود المركبة في تحريك جهاز مشغل الأقراص محاولًا منه إخراج أصوات شجية تعطي أجواء منغمة في سير الرحلة التي بدأ يلوح في الأفق اقتراب نهايتها، لكن تشكل على جسد عامر علامات التململ محاولًا إفهام فيصل أن يتجه إلى أقرب محطة وقود من أجل المرور على محل التموينيات الغذائية لشراء بعض السكاكر والعصائر المعلبة، استقبل فيصل إشارات التململ تلك بتحريك مقود المركبة نحو محطة وقود صغيرة لاحت أمام ناظريه بسرعة جعلت عامرًا وسالمًا يطلبان منه التهدئة والتعقل، أوقف فيصل المركبة وضحكاته تصدح بالمكان ترجل عامر ثم أعقبه سالمًا الذي قام يطلق الشتائم لفيصل لفجاجة تصرفه وطلب منه المكوث في المركبة وعدم الدخول معه في محل التموينيات الغذائية.
دخل سالم محل التموينيات وناظريه تترقبان عامرلكن عامرًا لم يظهر! فبدأ يبحث في دهاليز المحل، وعيناه لا تقع على اتجاه واحد، وفجأة ارتطم بمكون جسدي بشري ضخم البنيان من الخلف، (وقد كان يلتحف برداء أشبه برداء بلاد أهل السند)، صمت سالم صمت المذهول من الموقف ومن تكوين هذا الكائن الذي لم يستدر فور ارتطامه به، لكن ومن دون تمهيد تحرك هذا الجسد نحو الأمام من دون أن يلتفت للوراء فلمح سالم خاتما ذا فصة زرقاء على أحد أصابع يده اليسرى بها نقش صغير أقرب إلى جمجمة منزوعة اللحم والجلد ، عامر في تلك هذه اللحظات وجد سالما متسمرا مكانه في إحدى زوايا المتجر فركض اليه قائلا: هيا فلنذهب فوضع يده على احدى كتفي سالم الذي بدوره انتفض وبدأ في إطلاق العنان للسُباب ولم يتوقف حتى شده عامر من عضده ودفعه نحو المحاسب الذي يراقبهما، خرجا من المتجر بعدما اشتريا بعض الحاجيات وانطلقوا نحو مكانهم المنشود.
بدأت مخيلة سالم تقع في أسر تراكمات الموقف مع صاحب رداء أهل بلاد السند وتجاذبه ما بين هل هو موقف (معبرٌ أم عابر؟! )، حطت المركبة في أرض فلاةٍ تحيط على إحدى جهاتها سلسلة هضاب مرتفعة، بدأ الثلاثة يُنزلون أمتعتهم الشخصية ولوازم الرحلة ناشرين في الأجواء تعليقاتهم المضحكة وإطلاق الألقاب التي كانت في صغرهم على بعضهم البعض حتى بدأ الليل يرخى سدوله وحان تحضير طعام العشاء لكن حصل أمر غريب في هذه اللحظة! أمرٌ طارئ قد وقع ! موجات هرمونية سمعية تقترب من مكانهم! كأنها صادرةٌ من تلكم الهضاب!هكذا قال فيصل، وعامر بدأ يدخل في حالة من الخوف الشديد فشفتاه ترتجفان كمن أصابه صقيع برد شديد، لكن أين سالم؟! اختفى سالم من المشهد بشكلٍ مفجع وصادم! ولم يستوعب فيصل وعامر أن تلكم الموجات الهرمونية تلقفت سالمًا منهما فأطلقا العنان لحناجرهما مناديين سالم، ومن دون سابق إنذار وجدَ سالم! وجدَ سالم في بقعة تراب مغايرة لبقعة الأرض التي نزل فيها بقعة شبيهة بذرات الفحم، مستلقي ظهره عليها وعيناه شاخصتان للسماء! فظناه ميتا فحاولا الأقتراب منه لكن أوقفهما صوتٌ مجلل! _ قفا مكانكما فيصل وعامر بصوتٍ متقطع : من أنت ولماذا؟!_ رفيقكما في حضن الولايةفيصل وعامر: أيُّ ولايةٍ؟!ـ ولاية المصادف والمصدوف فيصل وعامر: ما هذا الهراء التي تتفوه به! _ رفيقكما سيكون عبرة معتبرة لمن يُصادف الظواهر غير الطبيعة فلزاما عليكما أن تذهبا في حال سبيلكما.
انتهى
لا أدري متي وافقت علي إقامة حفل الخطوبة الخاص بي!... بل ولم أعلم من هي خطـيـبتي إلا حين رأيتها في الحفل وهي تتلقي التهاني من الحضور الكرام... لم أرها من قبل حقاً!... ولكن الغريب هو أني لم أفكر في الارتباط من قبل... مطلقاً... يبدو أن الأمور قد تغيرت... متي؟!... لا أعلم... علي الأقل في تلك اللحظة... كما أدركت أيضا أن تلك الحفلة السعيدة مقامة في منزلنا... وأنه يعج بأناس لم أرهم في حياتي قط... كان أول من بحثت عنهم ممن أعرفهم هي أمي... فذهبت إلى غرفتها مباشرة ووجدتها جالسة في حالة غضب رافضة الخروج للحفل... لم أعلم أيضاً سبب هذا ولكني كنت أتوسل إليها بأن ترضي وتخرج للناس بوجه مبتسم... كنت كمن يصارع باستماتة كي لا يفسد الحفل، وكأن روحي متعلقة بنجاحه علي أكـمل وجه... أصرّت علي غضبها فأتيت لها بالفتاة... عفواً... خطيبتي، كي تحـن ولا تفسـد سعادة هذه المسكينة... ثم تركتهما وذهبت لغرفتي كي أرتدي سـتـرة الحفل... لم أجد إلا سترتان... الأولي ذات لون ذهبي ولكن عندما ارتديتها عانيت من خشونة قماشها وثقله الغير عادي، فألقيت بها علي أقرب كرسي ثم ارتديت الأخرى... كان لـونها أخـضـر جميل... أما بنطالها فكان لونه أصفر داكن!... تقززت من خلطة الألوان البهـلوانـية وقذفت بتلك السترة من شباك الغرفة، وقـررت أن أكـمل حـفلتي بملابسي هـ... مـهلا!... ماذا أرتدي الآن؟!... إنها ملابس نوم!... فهل سأحضر حفل خطوبتي بتلك الملابس؟!... ويبدو أن خطيبتي قد قرأت أفكاري تلك فأتتني مهرولة وهي تتوسل إلى أن أرتدي أي سترة مناسبة مثل التي يرتديها العقلاء في حفلات خطبتهم... ولكني تمسكت بموقفي، ثم لفت انتباهي بعض الصياح بالقرب مني، فوجدت اثنين من المدعوين المسنين المجهولين – بالنسبة لي طبعاً – يتبادلان السباب وعلي وشك التشابك بالأيدي... لم يباليا بوقار سنهما المتقدم ولا بالمكان المتواجدين فيه، ووجوب تقديم التهاني لا رفع الصوت بأفظع الألفاظ... لم يباليا حتي بأن العروسين يقفان علي مقربة منهما، فما كان مني إلا أن تقدمت إليهما محاولا تهدئة الموقف وتذكيرهما بأننا في مناسبة سعيدة... لم يهتم هذان المخبولان بما أقول وأخرج كل منهما سيفاً ورقياً من بين طيات ملابسه وبدءا في التبارز... انسحبت من وسطهما مسرعاً وابتعـدت ممسـكاً بيد خطيبتي حتي وصلنا إلى باب المنزل... لاحظت كم المدعوين الهائل ومقدار الصخب الذي يحدثونه من أحاديثهم الجانبية، كما زادت حيرتي من أني لم أميّز ولو حتي شخصاً واحداً منهم... أين أبي؟! وأين أخواتي وأهل العـروس؟! أين أقربائي؟!... أين أصدقائي المقربين؟! أم أنهم في وقت الشدة يختفون كالأشباح!
الصفحة 1 من 35