نُشرت هذه القصة في كتاب "غابة الطين" للكاتبة حياة الياقوت الصادر عن دار ذات السلاسل، 2015.
استشاطت الإمبراطورة "ر." غضبا من رفضه، وقالت بحدة ممزوجة بالكبرياء المفرطة: "وهل عيّنتُك مستشارا لغويا إلا كي تضمن لي المرونة والاستمرارية؟! الشباب الدائم، هذا ما أحتاج إليه أيها الهَرِم الخرِف! جد لي اسما جديدا. مع كل اسم جديد، تنبجس لي هوية جديدة، وأعود إلى ريعان الصبا، أجري بين الناس وأندس وأجوس، ولا يملك أحد السرعة للقبض عليّ. أنجع وسيلة للسيطرة على الإنسان هي اللغة. اللغة إكسيري، كل اسم جديد يدهنني بالزئبق، أغدو لامعة وعصية على الاصطياد."
(1)
استدعيتُه...
للتحقيق في شكوى مِن مريض ساءهُ تقطيب جبينه، ورائحة السردين في إبطه، ولون الرماد في ياقَته!
حكى عن وحدتِه وغُربتِه،
فشممْتُ إبطي وعاينتُ ياقتي،
وقرَّرتُ وضع حدٍّ لغربتي.
(2)
صدري يلهث بالصفير، وحلقي يضجُّ بالبلغم...
وبسوط صوته يجلدني بمحاضرة عن مضارِّ التدخين.
وفيما حنى ظهره ليغرس سماعته في صدري،
شممْتُ أنفاسه وعاينت صفرة أسنانه...
فغادرْتُ مِن فوري، أنشدُ طبيبًا أصدِّقه ويَصْدُقني.
(1)
طرَق باب عيادتي طلَبًا للعلاج...
عيناه شرارتان،
وعِرْقا رقبتيه نافران،
وأسنانُه تصطكَّـان،
وشفتاه بالمفتاح مُغلَقتان...
لا أظنّ الدواء يُفيد مَن عادى الحياة.
(2)
أخطَأ... وقلَّما يُخطئ،
فعَلَا صوتي عليه، وامتدّتْ يدي إليه.
فلم يجفِل الدمع مِن عينيه،
ولم تنبُت الآه على شفتيه،
ولكِنِّي سمعت غليان المرجل بين جنبيْه الصغيريْن...
فبكيت.
تتسارع الأشياء، تكتمل، تتوالج الظلمات مع انبثاقات النهار، تتوثب الرؤى لتنازع المعلوم مرورا لطيفا بين خفقات المجهول، تندفع الطاقة الكامنة من روح تشعر بتحدب اللحيظات القادمة، تتدلى أيام العمر أمام العينين، كعناقيد من وهج متفجر، ترسل بريقا يمتزج فيه الأصفر مع لون الغروب، تتلاقح الألوان وتتزواج، تندغم وتتوحد، يصبح الكون امتدادًا رحبًا في النفس المحملة بروائح الرحيل والمغادرة.
عزيزي يوسف:
لا أعرف تمامًا لماذا أكتب لك هذه الرسالة، ولا أدري لماذا اخترتك دون غيرك من بين جميع أصدقائي لأوجه لك هذا الخطاب. ولكني على يقين تام بأنك كنت تربك هواجس نفسي لا شعوريًا، حين كانت تحلق أفكاري على مساحات الوحدة والانطواء، التي لفحتني بظلالها القاتمة وأنا أنتظر دخول غرفة العمليات، ليتمدد جسدي فوق سرير السلخ، وتحت كشاف حاد النظرات، وقح العينين لا بد وأنك تعلم مدى شجاعتي ورباطة جأشي فيما يتعلق بموضوع غرفة العمليات. إلا أنني هذه المرة عانيت معاناة شديدة. أوصلتني إلى حد الرعب من إجراء مثل هذه العملية.
ثمَّة لحظات يُرِيد المرء أن يوتر عقله وقواه إلى أقصى حدود الألم؛ حتى تنبجس المعرفة كشرارة، فإذا بطُيوف من النُّبوءَة تَجتاح النفسَ المرتعشة، النفس القلقة، لتنبِّئها بالمصير الذي ينتظرها. إنَّ كياننا كله -وقد جرفه الظمأ إلى الحياة بأيِّ ثمن -يستَسلِم عندئذٍ للأمل، مهما يكن هذا الأمل أعمى، ومهما يكن عنيفًا، ويَنأَى عن المستقبل بكلِّ ما فيه من مجهول وسر، يُنادِيه أن يأتي إن صَحَّ التعبير، يُنادِيه ولو كان مشحونًا بالعَواصِف والزوابع، حسبه منه أنَّه الحياة.
(دوستويفسكي، نيتوتشكا نزنفانوفا، ص – 228).
♦ ♦ ♦ ♦ ♦
الأيام تمرُّ، تحشو الألم بالأسى، تُثِير زوابعَ وعواصف، تلفَح النفس وتقتَحِم العقل، تَضرِب حوافَّ الزمان، وتقرض نهايات المكان، مقبرة ذنابة، صورة تُرافِق خطواتي ووقْع أقدامي، وجوه أولادي تتغَلغَل في صخور الأرض، تشدُّ جذورها نحو أعماقي، تضرب عَذَباتِها نسمات الربيع الراحل من ذاكرتي، صداع يَتلُوه صداع، وإبر تزرق في وريدٍ تلو وريد، والدي كان يدْعو الله بدعاء خاص: "يا رب، لا تُمِتْني إلا وتراب الأرض على قدمي"، دعوة أعرِف الآن عمقها وسرَّها، ألمس وبعزم ناهض حركاتِ نفسه وهو يُردِّدها، الآن أنا أتقمَّص دور أبي، دون إرادة أو تخطيط، أدعو نفس الدعاء، ونفسي تُلامِس نفسًا ترقد في مقبرة ذنابة.
قصة واقعية من ملفات القضاء.
كانت السيدة أم سليم بعد وفاة زوجها واغتراب أولادها طلباً للرزق قد اضطرت للإقامة بمفردها في أحد الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان. كانت تُعرف بينهم بلقب أم الخير لما كانت تتصف به من طيبة ومن تقوى. كان من حولها يلجؤون إليها في الكثير من الأحيان لطلب المشورة، كما كان البعض يقترض منها المال على الرغم من أنها لم تكن من الأشخاص الميسورين جداً.
الصفحة 5 من 35