حَزَمت "نَبيلة" أمتعتها استعدادًا للعودةِ إلى أرض الوطن، فلمْ يبقَ على حلولِ شهر رمضان المبارك سوى يومين، وهي حريصة كل الحرصِ على قضائه في ديارها بين أهلها وجيرانها والأصدقاء، فلشهر رمَضان حضور مميَّز في بلادها، تفرح بمجيئهِ المساجد ودور الأيتام وقلوب المؤمنين، فتتمايلُ حبًّا وحَنينًا وخشوعًا.
اسْتَقبَلت الشَّهر الكريم بابتسامةٍ ودمعَةٍ، وكانت في سِباقٍ مع الزمن للانتهاءِ مِن ترتيبِ البيتِ وتهيئةِ الأجواءِ لتَـنعم بزيارة ضيفها العزيز وهي أكثر استقرارًا، فما أسرع تَعاقب الأيام وانْطِواء الليالي!
نظَّمت جدول العبادات فيما بينها وبين نفسها، متأسيَّة برسول الله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ، فقد كان يكثر فيه من الطاعات، ويجدُّ ويجتهد، وكان كالريح المرسلة في جوده وكرمه، لا يمسك فيه شيئاً.
" يا حسرتى..!
لقد بدَّدنا الكثير مِن المال أثناء رحلة سفرنا الصَّيفيَّة، ولمْ أدَّخر شيئًا لأتصدَّق به في هذا الشهر الكريم، وإني لأستحيي مِن أن أمدَّ يَدي لوالدي وأطلب منه مصروفًا استثنائيًّـا."
معجزةالزمن .. وفاتنة كل عصر..المنصورة..بكل ماتحمله من تاريخ وعبق ينم عن إبداعها.. صوت شجي يطوف بك إلي عواصم ومدن ليعود بك من حيث أتيت إلي ست الحسن شجرة الدر ؟
استوقفتني لأستعيد تاريخي .. منحتني حرية التجوال بين ربوعها الخضراء .. ذات صباح مشرق .. وجها لوجهه .. ودون ترتيب جلست علي مقهاي المفضل (الفراعنة ) في مواجهة نهرها الممتد ... أرتشف من فنجان قهوتي المضبوط .. وكل نشوة في استعادة جزء مهم من ذكرياتي وتكويني .. حبيبتي نانا .. التي سكنت أوصالي طفلا وشابا يافعا بأنوثتها الطاغية .. ورقتها المعهودة .. وفي أي طريق اتجهت ..
الحصار يشتد حول مخيم برج البراجنة ، والبيوت باتت خالية من كل ما يمكن أن يقتات به بنو البشر ،بعد نفاذ الطحين والمواد الغذائية . والقذائف تتساقط بين الفينة والأخرى على الشوارع الضيقة ،وتنفجر على أسطح المنازل الصغيرة التي بالكاد تستطيع إن تحمي ساكنيها .
- إنا جوعان أريد خبزا
كان الطفل يبكي بحرقة ، وألام تحاول عبثا إقناعه بعدم وجود خبز في المنزل. فانتشله والده من بين يديها محاولا تهدئته ، بعد إن ناوله قطعة حلوى أعطاها له احد أصدقائه.
في ذلك المقهى جلست وحدها، فتاة في أواخر العقد الثالث من العمر، كستنائية الشعر، بنية العينين، متوسطة الطول، لم تكن على موعد مع أحد لكنها كانت كالمنتظرة تتلفت حولها كل مادخل أحدهم إلى المقهى لتحسبه (بأمل كبير) هو !
جلست إلى الطاولة التي بجانب الباب، وراحت تنظر من النوافذ، حتى السيارات خارجاً لم تسلم أحداها من نظراتها المتفحصة، وضعت حقيبة يدها على الكرسيّ المجاور لها، وبقيت ملتفتة إلى الخارج إلى قطع خلوتها ذلك (الجرسون):
انطلقت الشاحنة مسرعة نحو معسكر " صرفند " التابع للقوات البريطانية في جنوب فلسطين ، وزاد السائق من سرعتها حين بدأت الحجارة تانهال عليها من سكان القرية التي كانوا يمرون بها ، وراح يصرخ في العمال قائلا:-
- كفوا عن مداعبة سكان القرية ،فهم لا يحتملون المزاح .
- كووك.....كووك .
قال احد العمال مرة أخرى واختبئا بين الإقدام داخل الشاحنة ،فتوالت رشفات الحجارة نحوهم ،حتى ابتعدت الشاحنة عن القرية وانحرفت يمينا نحو الطريق الرئيسي .
- هذا حماري .
- لا حماري انأ .
- انه لي . لقد فقدته قرب الحدود . بعد أن أطلق علينا اليهود النار ونحن عائدون من القرية .. .
- لا.انه لي وبه علامة فارقة .
كان إخوانه وزملاؤه في الموقع يتساءلون عن سر اهتمامه المفاجئ بهندامه الشخصي ، بعدما كان في الماضي يطلق لحيته ولا يمشط شعره إلا نادرا وفي المناسبات ،إلى أن جاء ذلك اليوم الذي زار فيه قائد كبير الموقع ، واخبره " أبو خالد " عن رغبته في الزواج بعد أن تجاوز عمره الثلاثين عاما ، ولم يعد قادرا على احتمال حياة العزوبية .
- ومن هي سعيدة الحظ ياابا خالد ؟
الصفحة 9 من 35