في ذلك المقهى جلست وحدها، فتاة في أواخر العقد الثالث من العمر، كستنائية الشعر، بنية العينين، متوسطة الطول، لم تكن على موعد مع أحد لكنها كانت كالمنتظرة تتلفت حولها كل مادخل أحدهم إلى المقهى لتحسبه (بأمل كبير) هو !
جلست إلى الطاولة التي بجانب الباب، وراحت تنظر من النوافذ، حتى السيارات خارجاً لم تسلم أحداها من نظراتها المتفحصة، وضعت حقيبة يدها على الكرسيّ المجاور لها، وبقيت ملتفتة إلى الخارج إلى قطع خلوتها ذلك (الجرسون):
* أهلا بكِ، ماذا تحبين أن تشربي؟
نظرت إليه طويلاً بنظرات شاحبة وعيون متعبة أنهكها السهر والتعب. كانت تبدو وكأنها لم تسمع شيئا مما قال. استمرت في النظر.
* سيدتي، أهلا بكِ ماذا تحبين أن تشربي؟
* آه، شاي، شكرا لك.
مشى (الجرسون) متعجباً من تلك الزبونة غريبة النظرات ليحضر لها ما طلبت.
عاودت النظر إلى الخارج. كان رأسها مليئاً بالأفكار، كانت تفكّر فيه، بآخر لقاء، بآخر حديث جرى بينهما:
* سأسافر.
* نعم؟
* سأسافر، أجل. الحياة هنا لم تعد قادرة على منحي شيئاً. الظروف تغدو كل يوم أسوأ فأسوأ، الأبواب قفلت في وجهي، لم أجد عملاً ،لم أستطع أن ...
لم تسمع باقي الكلام حتى، كيف توقفت الحياة عن منحه الأشياء؟ وماتلك الأشياء التي يريدها غيري؟ سألت نفسها بألم ،وإلى أين سيذهب و لمن سأبقى أنا ؟
* وهل معنى ذلك أنك هنا لتودّعني؟
* سأعود، ثقي بي.
في تلك اللحظات قطعت سلسلة افكارها أغنية كانت تدور في ذلك المقهى لحظتها،و في قلبها منذ سنين:(أنساك .. لا يا حبيبي طول مانت حبيبي أنا مش هنساك في قلوب .....) كم حملت تلك الأغنية لها من ذكريات، كم حملت موسيقاها لها من احداث سعيدة وبهجات قلب وأمنيات , كيف لأغنية من أربع دقائق وبضع ثوانٍ أن تحمل ذكرى لقصة حب استمرت لسنوات وسنوات ؟
(حكايات و ذكريات وياك .. بتقول لك و انت عارف أنا أقرب حد ليك)
كم كان شعورها رائعا عندما كانت – أقرب حد ليه – و كم هو مؤلم عندما لم تعد كذلك. كم كانا يسعدان بسماعها كل يوم، كم أنستهم حزنهم ، كم أعادتهما لبعضهما بعد أيام من القطيعة.
* أحس أن هذه الأغنية قد كُتبت لأجلنا، كنت أسمعها طوال هذين اليومين، كم أبكتني!
* أنساك إزاي ياحبيبي هو إحنا حبيبي هنحبّ جديد ... راحت تغني له
دمّعت عيناه .. دمعت عيناها .. بين دموع الفرح وألم الفراق واللقاء والاشتياق ....
قطعت أفكارها ثانية عندما أتى إليها الجرسون ليقدّم لها كوب الشاي الساخن، ثم التفت ليعود إلى (البوفيه).
فجأة تحوّل الجرسون إلى عبد الله نفسه يمشي، إنها خطواته نفسها، طريقته في المشي، التفت حولها، ذلك الشاب الجالس وحيدا يرتشف قهوته،إنه عبد الله !! و تلك هي طريقته في الجلوس. لقد تحوّل في ثواني جميع الجالسين في المقهى إلى عبد الله. فهي طريقته في الكلام والحوار والضحك والابتسام وتلك هي نظراته وعيناه. لم يكن شعورها في تلك الأثناء واضحاً فهو الدهشة والخوف والذهول والفرح. لقد كان مزيجاً من المشاعر أفقدها صوابها، فخرجت مسرعةً كالهاربة من ذلك المقهى.
بينما هي تخرج و تقطع الشارع مسرعة، وجدته داخل السيارة المتجهة نحوها، فتوقفت في منتصف الطريق بدهشة شديدة لم تتجاوز دهشة السائق نفسه الذي لم يشعر إلا بتلك الفتاة المجنونة التي رمت نفسها أمام سيارته المسرعة. ارتمت على الرصيف وتجمّع حولها عشرات من عبد الله! لم تكن قادرة على فتح عينيها جيداً، لكنها استطاعت أن تراه قادماً، كان يقترب إليها بابتسامة، فابتسمت له. ها قد عاد الغائب، ها قد صدق وعده، اقترب اليها أكثر فأكثر وكانت ابتسامتها تزيد كلما اقترب،إلى أن مدّ يده إليها، مسك يدها وأخذها ورحل،إلى هناك، إلى السماء، ليكملا تلك الحكاية سوية في عالم الخلود.