كان إخوانه وزملاؤه في الموقع يتساءلون عن سر اهتمامه المفاجئ بهندامه الشخصي ، بعدما كان في الماضي يطلق لحيته ولا يمشط شعره إلا نادرا وفي المناسبات ،إلى أن جاء ذلك اليوم الذي زار فيه قائد كبير الموقع ، واخبره " أبو خالد " عن رغبته في الزواج بعد أن تجاوز عمره الثلاثين عاما ، ولم يعد قادرا على احتمال حياة العزوبية .
- ومن هي سعيدة الحظ ياابا خالد ؟
قال القائد ، فأجابه أبو خالد بخجل :
- أنها فتاة سوريه من مخيم اليرموك
ابتسم القائد وقال مازحا :
.- من طين بلادك حني خدادك ، كما يقول المثل الفلاحي في بلادنا
رد أبو خالد بانفعال :
- وهل تريدني أن انتظر حتى نعود إلى فلسطين و أتزوج هناك ؟
ضحك القائد وضحك المقاتلون من حوله ، فيما دلف أبو خالد إلى داخل المغارة وهو يندب حظه وسوء الطالع الذي قاده إلى ما هو فيه ، وجعل الآخرون يسحرون منه ، وخاصة عبد الله البدوي المقاتل الذي لم يكن يشعر بالمودة نحوه ، وكان يلقبه ب"ديك الحبش " و يقول فيه أبياتا على مسامعه مثل :-
ديك الحبش مقيل في الوادي.
ناظر تايجيه شيخ الصياده .
قال متمتما وهو يمدد جسده المتعب على السرير : -
- سوف أوفر المزيد من النقود وأتقدم لحطبتها ، ولن أدعو هؤلاء لعرسي ...... لكن كيف سأوفر وراتبي لا يتجاوز السبعين ليرة سورية ؟ سوف اطلب من أهلي في نابلس إرسال نقود لي ....وستفرح والدتي عندما تعلم برغبتي في الزواج .
القائد يطالبني بالانتظار حتى عودةنا إلى البلاد ؟
لابد انه يمزح معي ؟
قال ثم غط في نوم عميق بعد أن أعياه التفكير ،الذي كان خلاله يسترجع مشهد وجه حبيبته " سناء " التي تبتسم له عندما التفاها لأول مرة في سوق المخيم ، فيفتر فمه عن ابتسامة .
أصيب "أبو خالد " بعد ذلك بمرض استدعى نقله إلى المستشفى ، وبقاؤه فيه لمدة أسبوع ، كان خلاله يتوقع أن تأتي" سناء " لزيارته في المستشفى ، لكنها لم تأت ، وكان هو يجد الأعذار المناسبة لها :
- ربما هي لا تعلم بوجودي في المستشفى ؟
وربما منعها والدها من الحضور ؟
وربما............؟
وربما............؟
لكنه علم بعد خروجه من المستشفي من احد أصدقائه في المخيم ، أن الفتاة قد أجبرت على الزواج من ابن عمها ،الذي تقدم لخطبتها بعد موافقة والدها . فأصيب بصدمة عصبية قادته إلى الجنون ، وراح يركل كل ما يجده في طريقه داخل الموقع وهو يصرخ قائلا :-
- يدي أتجوز......يدي أتجوز .
كان قائد موقع الفدائيين الواقع قرب قرية مسيحية في شمال دمشق ، يخشى من أن تؤدي حالته النفسية المتردية لى افتعال مشاكل مع المدنيين الذين يمرون من داخل الموقع ، وخاصة الراهبات اللواتي اعتدن المرور منه في طريقهن إلى مزرعة الأبقار التابعة للدير ، لجلب الحليب والعودة إلى الدير مرة أخرى ، فأمر بمراقبته وإعفائه من الحراسة ريثما يتم التحقق من حالته الصحية .
ووقع بالفعل ما كان يخشى منه قائد الموقع ، حين هاجم " أبو خالد " امرأة من سكان القرية اعتادت المجئ لأخذ الخبز الجاف لإطعام دجاجاتها ، وحاول اغتصابها داخل المغارة لكن المرأة قاومته ولم تمكنه من نفسها ، وعادت إلى البيت ممزقة الثياب ، فعرف زوجها بالأمر واتصل بالمسئولين عنه لإبلاغهم بما حدث .
قال القائد لزوج المرأة :
- خذ هذا المسدس وأطلق النار عليه إذا أردت .
فرد الزوج قائلا :-
- لا حرام بعدو شاب ، لكنه مخبول لا يدري ماذا يفعل
- إذن ماذا تريدنا أن نفعل ؟
- لاشئ أرجو أن تبعدوه عن المنطقة ..
وجرى نقله إلى لبنان على أمل أن تتحسن حالته النفسية هناك ، لكنه بقي على حاله يركل كل ما يجده في طريقه وهو يصرخ بقوة : يدي أتجوز ..........يدي أتجوز ..
وقع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 82 ولم يغادر" أبو خالد " موقعه العسكري ، وظل ممسكا ببندقيته وهو جالس على سريره تحت الشجرة ، وحين أحاط به الجمود الإسرائيليون وسددوا بنادقهم نحوه وهم يصرخون به قائلين :
- وقف وارمي سلاحك
فلم يلتفت إليهم وظل ممددا على السرير ، وقبل أن يهموا بإطلاق النار عليه جاء رجل عجوز من سكان القرية واخبرهم بأنه مخبول ولا يدري ماذا يفعل .
فتقدم منه احد الجنود وانتزع منه سلاحه ، ثم اقتادوه أسيرا إلي معسكر "أنصار" في حنوب لبنان، الذي كان يجرى فيه احتجاز مئات الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين .
*قصه ضمن مجموعة قصصية ستصدر قريبا للكاتب تحت عنوان " ناقة درويش وقصص اخرى