نُشرت هذه القصة في كتاب "غابة الطين" للكاتبة حياة الياقوت الصادر عن دار ذات السلاسل، 2015.
استشاطت الإمبراطورة "ر." غضبا من رفضه، وقالت بحدة ممزوجة بالكبرياء المفرطة: "وهل عيّنتُك مستشارا لغويا إلا كي تضمن لي المرونة والاستمرارية؟! الشباب الدائم، هذا ما أحتاج إليه أيها الهَرِم الخرِف! جد لي اسما جديدا. مع كل اسم جديد، تنبجس لي هوية جديدة، وأعود إلى ريعان الصبا، أجري بين الناس وأندس وأجوس، ولا يملك أحد السرعة للقبض عليّ. أنجع وسيلة للسيطرة على الإنسان هي اللغة. اللغة إكسيري، كل اسم جديد يدهنني بالزئبق، أغدو لامعة وعصية على الاصطياد."
حكّ المستشار اللغوي خده، ثم قال بهدوء: "لكني قلق عليك يا مولاتي. لا أعجز عن إيجاد الأسماء، لكن كثرة أسمائك قد تُفشل الخطة."
"خطة؟ وما شأنك أنت بالخطط؟ أنا المعنية بالتخطيط. أنت مصنع ولّاد للأسماء، هذا هو سبب وجودك هنا. لقد كبرت سنك وضعفت حالك، ولا أريد أن أنهي خدماتك، فأنا –رغم كل الشناعة التي أُعرَف بها- أقدّر الذين يخلصون لي. لقد خدمتني لآلاف السنين، ومن الجحود أن أطردك. لكن تعنتك يجعلني أفكر في ذلك جديا." ردت الإمبراطورة.
موجة من الأنفة التي نكأتها الإهانة تمور في صدر المستشار اللغوي الذي تخلّى عن حِلمه وقال: "أنت يا سيدتي تعاملينني كما لو كنت أجيرا. عامليني –ولو لمرة واحدة- على أني رفيق كفاح!"
رفعت ذقنها باستهزاء وقالت له: "رفيق كفاح؟! أنت تتعدى حدودك يا هذا!"
حاول المستشار اللغوي أن يتمالك نفسه، لكن التنور فار، وفاض لسانه بالقول: "هل أذكّرك أن أول تحوّلٍ لك من كائن ممقوت إلى محمود كان علي يديّ؟ هل نسيت أن فكرة إعادة إنتاجك من خلال إيجاد اسم جديد لك بين الفينة والأخرى كانت فكرتي أنا وحدي؟ هل تذكرين وجهك حينما قلت لك أن عليك أن تغيري اسمك إلى "إكرامية"؟ في البداية ضحكت بغباء، وقلت إن الاسم ليس أنثويا بما فيه الكفاية. لم تفهمي المقصد من وراء الاسم. وحينما فهمت، كانت هذه انطلاقتك الحقيقة، كانت تلك ولادتك نجمةً. أنا مكتشفك، وأبوك الروحي يا هذه. أنت –الملعونة- صرت جزءا من سلاسة الكرم. لقد ارتقى بك الحال من إثم شنيع، إلى شيء لا يستطيع صاحب الحق الحصول على حقه دونك. أنا –بقوة اللغة التي لا فكاك للإنسان منها- صنعت سلطانك، وأنتجت مجدك."
هزت كتفيها باستهزاء وقالت: "نعم، نعم. ولقد كافأتك وأنعمت عليك بتعيينك مستشارا لغويا. ماذا تريد بعد؟ هل تريد أن تحل وتعقد نيابة عني؟! هل تريد أن ترثني وأنا أنبض بالحياة؟ تبا لك!"
تجاهلها تماما، وأكمل حديثه:
"هل نسيتِ أني أول من ابتكر تعابير طريفة للإشارة إليك. تعبير يقال وحوله غيمة من الضحك. أنا صاحب نظرية التطبيع من خلال إعادة التسمية، ونظرية التطبيع من خلال الفكاهة، ونظرية استخدام الكناية في إعادة بناء الصورة الذهنية. كناية عاميّة ظريفة مثل "يدهن سيره" شاعت وانتشرت، حتى أن مستشارك اللغوي لشؤون اللغة الإنكليزية ترجم التعبير نقلا عني "To grease someone’s palm". لقد أصبحتِ –على ما فيكِ من قبح- شيئا منعشا، صرت دهنا شافيا للأكف المشققة المكدودة. أنا حولتك من شيطانة إلى سلطانة بقوة الكلمة.
أنا أيضا أول من تفتق ذهنه عن استغلال نزعة البشر إلى تسمية الأمور المعيبة بكلمات أجنبية، فاستعرت لك من التركية ألقابا تتلفعين بها مثل "برطيل" و"بقشيش" و"قهوة" وهي كلمات ذات معان بريئة في لغاتها الأصلية، وصارت تستعمل للتعبير عنك.
آخر اسم لك كان "تضبيط". أتجدين اسما أبهى من ذلك؟ الضبط والانضباط وكل هذه المعاني الجميلة، أنت جزء منها الآن. لقد دسستك في أَرُومة عريقة جدا.
أخبريني، هل يجسر اليوم أحد أن يدعوك باسم الحقيقي إلا حفنة من الحمقى لا يتقنون سوى التنظير والتزمير؟ هل تذكرين كيف كنت تتألمين حين يدعوك أحد باسمك الحقيقي المبدوء بحرف الراء؟ رِ، رِ،، رِشـ ..."
"توقف من فضلك!" صرختْ بفزع.
شعر بشيء من الانتصار، وتابع بهدوء: "أرأيتِ؟ هل نسيت كم تتوجعين حينما يصرح أحد باسمك الفج؟ تتصاغرين، تنقرضين؟ أنا الذي خلصتك من هذا كله. كل هذا الملك صنيعتي أنا.
ثم قارني إنتاجي بإنتاج مستشاريك بجميع اللغات، قارني الطلب عليك في العالم العربي، وستعلمين أني أنا صاحب الفضل. كل هذا الفساد أساسه لغوي. لو صلحت اللغة لصلحوا، ولفنيتِ. أنا أفسدت لغتهم من أجلك، لويت عنقها، ولولا هذا لما ازدهرتِ كل هذا الازدهار. اسمك يا سيدتي ذميم. مجرد ذكره يجعل الذاكر يتوجس، أما تلك الأسماء التي اخترعها هي التي منحتك القدرة على التخفي، أنا كبيرك الذي علمك فن التَّعْمِية. وأنت الآن تفرطين في الجرعة. دعي لي تحديد وقت إبراز اسم جديد لك يا صغيرتي."
صرخت الإمبراطورة كالممسوسة: "صه، صه! أنت ثرثار ومغرور جدا! أتمنُّ علي بهذه الخدمات التي دفعت لك أجرها؟! يا فهمان، يا فهمان، تعال بسرعة!"
أتى فهمان –معاونها الشخصي- يزف.
"اطبع لي بسرعة قرار إنهاء خدمات المستشار اللغوي النكد هذا!" أمرتْه بنزق. وخلال دقائق، هُرع فهمان عائدا إليها بالقرار الذي وقعته على عجل دون أن تقرأه حتى. سلم فهمان القرار إلى المستشار اللغوي الذي وقف يتأمل القرار باستخفاف، ثم قلب الورقة وكتب عليها شيئا. طواها وتوجه بها نحو الإمبراطورة.
"ما هذا يا هذا؟ أما زلتَ هنا؟" سألته.
قال لها بتحد ممزوج بالهدوء المصطنع: "أريدك أن تقرئي هذا قبل رحيلي. عُدِّيها أمنيتي الأخيرة."
شهقت الإمبراطورة، وطفا الذهول المشوب بالنشوة على وجهها حينما قرأت ما على الورقة، ثم صرخت: "ما هذا؟ قاتلك الله ما أبلغك! من أين أتيت بهذا الاسم البهي؟! ما أروعك أيها الهَرِم!"
مزقت الإمبراطورة قرار إنهاء خدمات المستشار اللغوي، ثم –مزدحمة بالبهجة- صاحت: "يا فهمان، يا فهمان! أحضر لي دفتر الشيكات لأجزيه على صنيعه."
"لا سيدتي، اسمك الجديد هذا رشوة مني إليك، مقابل أن تتراجعي عن قرار طردي. وقد حققت بغيتي." باغتها المستشار بقوله.
تمعّر وجهها، وتكاثرت علامات الاستفهام في رأسها.
صفعها بقوله: "كنتُ على وشك الاستقالة أصلا. لكن أردت أن أذيقك طعم نفسك، قبل أن أرحل لربة عملي الجديدة."
تقزّمت الإمبراطورة ر. قليلا، لكنّها تمالكت نفسها وسألت بصوت متحشرج: "وأين ستعمل؟"
أجابها بثقة لا تخلو من التشفي: "عندي عرض عمل مغر من الإمبراطورة حرب! فكّري فقط في كل الأسماء التي يمكنني أن أخترعها لها، فكّري!"
ورحل المستشار وهو يقفز ويدندن، كما لو لم يكن عمره آلاف السنين.