في الحادي والعشرين من شهر نوفمبر، وفي مساء ممطر، وتحديداً عند الساعة الثامنة مساء ، كانت زحمة غير عادية في أرض المعارض، حيث ازدحم الكتّاب ومتذوقي الأدب والعلم والمعرفة، إضافة إلى جمهور غفير من الحضور وهواة الاطلاع ، لا أعلم ما الدافع إلى كل هذا الازدحام، فهو مزعج بالنسبة لي على الأقل ؛ لأنني لا أٌطيقه.

في هذه الأجواء وصل غيث في سيارته الميتسوبيشي البيضاء من الطراز القديم يسير في الزحام متحمّلاً كمّاً هائلاً من النكات والسباب الذي يتعرض له بسبب صغر سيارته. يا للأسف، عقول فارغة تنظر إلى السيارة الفارهة ولا تنظر إلى العقول التي بالمعارف هائمة، وبعد عناء طويل وجد مكاناً لسيارته، فركنها ، ثم ترجّل منها ومعه كتاب صغير لا يتجاوز التسعين صفحة.

 

غيث، شاب بسيط ،هادئ، ضعيف البنية، ، يرتدي نظّارة طبية. حمل الكتاب بيده وضمه إلى صدره وهو في حالة قلق وتوتر، وسار متجهاً إلى القاعة المنشودة، متجاوزاً السيارات المتدفقة في الشارع حتى وصل إلى القاعة رقم (7).

دخل القاعة وهو في ذهول من كثرة الحضور، واستمتع واندهش بالمكان وهو مزدحم بالناس ، رجال ونساء ، فتيات وشباب ، المكان يزدحم بازدياد وهو يتلفّت إلى كل جهة يبحث وينظر إلى عناوين دور النشر. إلى أن سأل أحد موظفي استعلامات المعرض عن دار الإبداع للتأليف والنشر، فأعطاه الموظف ورقة إعلانات فيها أسماء دور النشر المشاركة وموقع كل دار في القاعة.

أخذ منه الورقة وشكره. نظر إلى الورقة وأخذ يستدل إلى موقع دار النشر المقصودة، فمشى باتجاهها وهو قلق ومتوتر وغير واثق من نفسه، ويبدو مضطرباً حتى رأى طابوراً مصطفّاً في أحد الممرات، ورأى دار النشر وإذْ به حفل توقيع لإحدى الروائيات المشاهير في دول الخليج العربي ، وقف بالطابور ينتظر ويصّبر نفسه. وطال به الانتظار، وأصبح مغيباً عن الواقع فاقداً التفكير حتى وصل إلى المؤلفة وإذا بها المؤلفة "هند" وهي ذات هيبة وجمال وشخصية ونرجسية وقوة، وقف مذهولاً أمامها ونظر إليها، فهي امرأة ستينية جميلة ممتلئة قليلاً، لونها برونزي برازيلي، ونظر إلى مدير أعمالها إلى جانبها -وهو أنا محدثكم- فهو قد جاء إلى معرض الكتاب ليهديها كتابه، لأنه من أشد المعجبين برواياتها.

تتناول" هند " أحد كتبها الموضوعة أمامها على الطاولة، وتفتح الغلاف وتسأله:

ما اسمك؟

- ( بارتباك ): غيث

تحرر له التوقيع ومهر الإهداء ، ثم تعطيه الكتاب. وهو بالمقابل يتدارك الأمر ويهديها كتابه قائلاً:

هذا كتابي وهو عبارة عن مجموعة قصصية أهديها إليكِ. هند" وهي تتناول منه الكتاب ":شكراً لك.

أما أنا ، فقد أشرتُ إليه أن يعطي الفرصة لغيره ممن يصطفون وراءه من القراء والمعجبين.

وفعلاً استجاب، وأدار ظهره وهو " يحاكي عقله "هكذا فقط.. أخذت مني الكتاب ولم تعرني اهتماماً وبكل برود أنصرف!؟ ضاق صدر غيث كما ضاقت به أرض المعارض كلها وصارت كالأشباح بالنسبة له وتغيّر لونها، وأصبح الناس من حوله كالزومبي يحاولون التهامه بنظراتهم، إنه – حقاً - في مكان غريب و كئيب.خرج مسرعاً، ثم ركب سيارته وانطلق بسرعة جنونية غير مبالٍ بأبواق السيارات من حوله ، يا إلهي. لقد جن جنونه.

رجع إلى المنزل مستاء ومهموماً، وجلس وحيداً على السرير وأغلق الأضواء وأسدل الستائر وتلحّف بالغطاء وحاول خنق نفسه. ونام ليلته غير مرتاح.

وفي صباح اليوم التالي استيقظ غيث من نومه وهو متهالك مهموم ،ورفع الغطاء عن رأسه واستجمع قواه وتنفس بقوة وأخذ شهيقاً قوياً وأخرج زفيراً أقوى، ثم نهض من الفراش وأزاح الستارة وفتح النافذة. تغيّرت ملامحه وأصبح أقوى من قبل، مفتول العضلات قليلاً. دخل الحمام واغتسل، ومن ثم ارتدى ملابس رياضية مريحة ، وبعد ذلك تناول طعام الإفطار وهو عبارة عن رقائق الذرة وحليب كامل الدسم ، ثم بدأ يتصفّح التلفون وتويتر وحساب الكاتبة "هند "حتى وجد عنوان الفندق الذي تسكن فيه، فهي تسكن في فندق الشيراتون ، حمل مفتاح السيارة وانطلق باتجاه " الشيراتون".

ركن سيارته بالجهة المقابلة للفندق، وترجّل ماشياً بخطى سريعة حتى دخل الفندق عبر بوابته الكبيرة، وكان ضخماً ورائعاً، جلس بالردهة يراقب المارين والعابرين والمسافرين. حقاً- فهو كمحطة انتظار.

الساعة تجاوزت الثامنة صباحاً، جلس على الأريكة القابعة باللوبي والمطلة على الردهة وباب المصعد حتى يبصر أكبر مساحة بالفندق؛ ليرصد "هند" لعله يراها عند قدومها أو خروجها.

انتظر قليلاً. وجاء إليه النادل يسأله عن شرابه المفضّل، فقال أريد شاياً. وجلس ينتظر حتى تجاوزت الساعة التاسعة والنصف تقريباً وإذْ المؤلفة هند تطل من باب المصعد وهي بكامل أناقتها. وتبعها غيث ومشى إليها. ووقف أمامها وهي تجلس على كرسي طاولة الطعام، وكان أمامها كرسي شاغر لنفس الطاولة، فطلب إليها إذا بالإمكان أن يجلس معها، فنظرت إليه باستغراب. وهل أنا أعرفك حتى تطلب مني الجلوس؟ فقال لها: لا، ولكن أنا أعرفك. أنتِ الكاتبة هند، فقالت أهلاً وماذا تريد؟

فسحب الكرسي الذي أمامها وجلس عليه ، ثم قال:

أنا أعطيتك كتابي بالأمس. هل أعجبك؟ آآه. نعم تذكرت، إنه موجود بغرفتي ، وسوف أعدك أنني سأقرأه.

- كلا. هذا كان بالأمس، أريدك أن تقرئي الكتاب، أما الآن أريد أكثر من ذلك!

"مستغربة" وماذا تريد إذاً؟ أريد أن تحبّيني لمدة أسبوع !

-   أأنت مجنون؟!

أنكرت عليه، فأمسك يدها، وقال: إما أن تحبّيني لمدة أسبوع أو أنتحر وأقتل نفسي.

خافتْ هند وتسمّرت في مكانها. وغادرها غيث بعد أن ترك ورقة مكتوب فيها رقم هاتفه ومضى.

شعرت هند بخوف شديد. أخذت الرقم وتركت الطاولة حتى قبل أن تتناول طعام الإفطار، ورجعت إلى غرفتها باحثةً عن الكتاب وهي في حالة صدمة وخوف وحَيرة. حتى وجدت الكتاب، وأخذته بيدها وهي بين ذهاب وإياب داخل الغرفة، وينتابها شعور بالقلق.

تناولت هاتفها النقال واتصلت بي - محدثكم - وطلبت مني أن أحضر، وجلست على الكرسي وشرعت بقراءة الكتاب، ثم أغلقته وركنته على الطاولة التي بجوارها وأشعلت سيجارة، ومن ثم أخذت الكتاب مرة أخرى لتقرأه فعلاً.

بعد مضي ثلاث ساعات قرأت الكتاب كاملاً، وفوق الطاولة "منفضة" ممتلئة بالسجائر، وإذا بي أطرق باب الغرفة، ففتحت هند الباب وأدخلتني وطلبت مني الجلوس، فجلست وقالت لي أتذكر صاحب هذا الكتاب، وهي تمسك به، فقلت: نعم، أذكر. فهو الشاب الذي اسمه غيث، ولكن ما الأمر!؟ قالت: نعم، هو بالذات. لقد جاءني اليوم، وقال: أنه ينوي الانتحار.

أجبتها" مدهوشاً": ينتحر!؟

- نعم وأعطاني هاتفه النقال

إذن اتصلي بالشرطة!

-   كلا. أخاف أن ينتحر

وماذا تنوين أن تفعلي معه؟ هل تريدينه أن يأتي؟ أريدك أن تتصل به وتطلب منه أن يأتي ! ولكن هند؟! أرجوك اتصل به. حسناً.

وأخذت رقمه واتصلت به:

ألوو. ألوو. أأنت غيث؟! نعم. تعال إلى الفندق." هند" تريد مقابلتك! حسناً. سوف أكون موجوداً في الساعة الخامسة مساء، في ردهة الفندق، ثم أغلق الهاتف.

***

مضى أسبوع على لقائهما، وهما الآن يجلسان "غيث وهند" في إحدى مقاهي مطار الكويت الدولي، ويحتسيان القهوة، وبينهما انسجام وحب وعشق. بل وطلبت منه أن يأتي معها، فرفض معللاً أن اتفاقنا كان لمدة أسبوع واحد فقط، وتجوّلا داخل المطار وهي مستندة عليه وكأنها طفلة تحتاج حناناً، وقد صارحته بحبها له، وقال وأنا كذلك أبادلك المشاعر، فقد منحتِني أسبوعاً كاملاً من الحب، فماذا ينقصني أكثر من ذلك؟!

فأجابته: أريدك معي، فقال: سوف تجديني في قصصك ورواياتك، فأنا سأقوم بدور البطولة، وسأكون جنيّك السري الذي تحدّثينه أسرارك وصديقك المحب، وأكون كاسبر وحدتك. أرجوكِ أحبّيني مثلما أحببتك فقط، ولا أريد أكثر من ذلك.

يتركها غيث ويغادر، وينظر إليها ويغمز بعينه غمزة بها لغز كبير، ويمضي وهي مازالت بالمطار تنتظر موعد إقلاع طائرتها.

وأنا أنظر إليها باستغراب وتعجب!

***

خرجنا من المصعد أنا وهند، ومشينا إلى اللوبي، كانت الساعة المعلّقة في الحائط تشير إلى الخامسة حين شاهدنا غيث يجلس على الأريكة مغروراً، ويرسل نظرة خبث. وهو يرتدي الملابس الرياضية، ويظهر عليه التعب، وكأنه استيقظ من النوم للتو. وما إن وصلنا إليه حتى أشار إلينا بالجلوس وجلسنا.

جلست هند بعيدة عنه على أريكة أخرى وأخرجت من محفظتها المرآة لتعدل مكياجها، ومع ذلك تكلمت، أما أنا جلست بالقرب من غيث، ودار بينهما:

-هند "اتكأت قليلا وتنهدت ": إنه كتاب جميل!

-غيث: فقط هكذا جميل!

-هند" ردت عليه بقوة " ماذا تريد أن أقول لك؟ تريد أن أقول إنه كتاب رائع.. وأنت كاتب لا مثيل لك، ومن أفضل الكتّاب؟!

-غيث: كلا، ولكن عمري بيديك، ولا أعلم لمَ جعلتُ عمري بين يديكِ؟ فإما أن تحبّيني أو أنتحر!

فنظرتْ إليه هند. وسرحت بفكرها قليلاً، ثم قالت: كلا لا تنتحر. سوف أحبك ولكن لمدة أسبوع واحد فقط، فقال لها إذاً هيا بنا نذهب لأريك معالم الكويت. فوافقت هند وقالت: انتظر قليلاً ريثما أغير ملابسي، وأذهب معك، وفعلاً تركتنا وهي تنظر إليّ. ذهبت إلى غرفتها وأنا في حَيرة من أمري، ونظرت أمامي في زاوية المكان. يوجد مسرح صغير، ويجلس فنان تشكيلي على كرسي، ويرسم لوحة طائر سنونو أزرق يحاول أن يدخل القفص جاهداً، ولكن الباب مغلق، ونظرت إلى غيث فوجدت لونه قد اختلف، وأصبح نصفه أبيض ونصفة الآخر أسود، وكأنما صار مثل رقعة الشطرنج فيه شيء غريب.

عمّ الصمت المكانَ. وفجأة جاءت هند وهي تلبس فستاناً لونه أزرق جميل جداً أظهرها بعمر أصغر من عمرها الحقيقي، وسرّحت شعرها بطريقة جميلة مع لونه الأسود، وارتدت نظارة طبية كبيرة تظهر عينيها الجميلتين ولونهما الأسود، وقد صبغت شفاهها باللون الأحمر، وصوت كعبها ملفت للسمع، وقفت أمامنا وقالت: هيّا بنا وكأنها تعرفه منذ سنين. وقف غيث وذهبت معه. وأشارت إليّ أن أذهب معهما أيضاً. ذهبنا جميعاً، وطلبت مني أن نذهب بتاكسي الفندق، وأشارت أن أستأجر سيارة أجرة، وركبت هي وغيث بتاكسي، وأنا ركبت بالتاكسي الآخر الذي سار خلفهما، هما يضحكان ويبتسمان وكأنهما يعرفان بعضهما قبل سنوات، وكانت هند قليلة الكلام، بينما غيث هو الذي يبادر دوماً وحركاتهما تدل على حب ودفء مشاعر متقدة بينهما.

وصلنا إلى سوق المباركية. دفعت حساب التكسي وغادر المكان، بينما غيث وهند انطلقا يتجولان في سوق المباركية، وأنا وراءهما أفكر في حَيرة. لِمَ تتصرف هند هكذا؟

وصلا إلى كشك مبارك، ومرّا بجواره، وهو يشير إليه بيده وكأنه يخبرها عن معالمنا السياحة، وهي تنظر إلى الكشك، وتجوّلا في السوق مروراً في سوق السلاح وساحة الصفاة وسوق الحريم حتى وصلا إلى مطعم الشمم، وأنا معهما. وللأمانة في بداية الأمر كنت مستغرباً وأجاري الأستاذة هند، ولكن مع الوقت أصبحت خائفاً عليها، ولا أعلم ما الذي يريده غيث منها، أو لِمَ تفعل هي هكذا!

بعد تناول طعام العشاء طلبت هند الشاي ليحتسياه معاً، ولكنها شربت الشاي لوحدها، وأنا أنظر إليهما، كنت أريد أن أسال غيث لمَ لمْ يشرب الشاي؟ ولكني لم أجرؤْ، وأرجأتُ سؤالي لما بعد العودة إلى الفندق، وسوف أسأل هند عن الموضوع لعلها تجيبني.

وقفتْ هند على الرصيف، وأوقفت سيارة أجرة، وأنا مستغرب - لماذا؟ وركبت هي وغيث، أما أنا فأوقفتُ سيارة أجرة جاءت خلفها، فاستقلّيتها، وطلبتُ منه أن يلحق بالسيارة التي أمامه حتى وصلنا إلى الفندق ، ثم نزلنا وودعها وانصرفت وهو ينظر إليها، أما أنا فلحقت بهند وسألتها: ما هذا الذي يجري. ولِمَ كل هذا؟

فابتسمت، وهي سعيدة، وقالت سوف أجيبك عن أسئلتك في الوقت المناسب ، ثم ذهبتْ. وذهبتُ أنا إلى المنزل.

وفي صباح اليوم التالي جئت إلى هند لآخذها إلى إحدى الندوات المتفق عليها مسبقاً، ووجدتها تجلس مع غيث، وهي ترتدي بنطال جينز وتي شيرت أبيض وقد ربطت شعرها كذيل الحصان، وهما يضحكان ويبتسمان وكأنما يقف بجوارهما عازف كمان يعزف موسيقى رومنسية عاطفية. قطعت خلوتهما وجلست معهما في اللوبي، فابتسمت هند وقالت أهلاً بك، لمَ تأخرت؟ فأجبتها أنني جئت بحسب الموعد المحدد ؛ لنذهب إلى الندوة! فتساءلت: أي ندوة! فقلت: الندوة التي أقامتها دار النشر.. للتحدث حول مظاهر التجديد في الأدب لمعاصر، فقالت على استدراك. نعم، نعم. ولكن اعتذر منهم ؛لأن عندي أمراً أهم، وحاولت إقناعها للعدول عن قرارها، ولكنها رفضت إلا أن أعتذر لها منهم، فهي لن تذهب وغيث يجلس معها بلا حراك، وفجأة وقفتْ ونزعت سماعة الأذن ووضعتها حول رقبتها، ووضعت هاتفها بحقيبة يدها، ثم ذهبت مع غيث وسرعان ما استأجرتُ سيارة أجرة ولحقت بهما.

كانت وجهتهما إلى "الأفنيوز" هي وغيث، وكان "الأفنيوز" جميلاً كعادته ومبهجاً، يبعث السرور والدفء والحب. وسوق "الأفنيوز" سوق جميل مبهج يتجوّل به الناس ذهاباً وإياباً ويرتاده سياح وعشاق، وكبار وصغار. حيث يشاهد المرء به سلوكيات مختلفة، فهنا شخصان يتجادلان بصوت عالٍ، وهناك شاب وفتاه يمشيان إلى جوار بعضهما بعضاً في قمة الرومنسية والحب كحال غيث وهند اللذين وصل بهما المطاف للجلوس في ستار بوكس، وجلست قربهما، وطلبت قهوة "فربتشينو" أما هند، فقد طلبت عصير برتقال، وغيث لم يطلب شيئاً، وهذا حالي معهما، دائماً أجلس بالقرب منهما وكأنني عذول ، وقد حاولت كثيراً أن أنسحب وأترك لهما المجال، ولكني خائف على هند، ولا أعلم ما قصتها بالضبط في هذه العلاقة الغريبة.

هما يضحكان ويمرحان ومنسجمان إلى أقصى درجة من درجات الحب والسعادة والبهجة، وبعد ذلك تركا "ستار بوكس" وأخذا يتجولان في السوق، وأنا معهما، حتى صار الليل، فخرجنا من السوق وكان الليل ينصب خيمته السوداء في الفضاء، فغادرا السوق "غيث وهند" وكانا بقمة الرومنسية، أما أنا فقد تعبت من مطاردتهما وابتعدت عنهما، وذهبت- كالعادة - في سيارة أجرة أخرى وعدت إلى الفندق ومن ثم أخذت سيارتي وعدت إلى المنزل.

وهكذا توالت اللقاءات والحب. وكل يوم تأتي هند بشخصية مختلفة عن ذي قبل إلى أن قضت أسبوعاً، وانتهى المعرض وحان وقت عودتها إلى بلدها، حيث شاهدتها في الفندق تنهي حجزها والعامل يحمل حقائبها، ولاحظت معها غيث وكأنما أصبح هو مدير أعمالها، ولكن كيف ومتى؟

هكذا صارت تستغني عني وتمر بالقرب مني وتنظر إليّ نظرة احتقار وكأنها تتضايق مني، وركبت مع غيث بالتاكسي ولم تعرني أي اهتمام، وتمضي معه إلى المطار، فلحقتهما بسيارتي التي ركنتها في مواقف المطار، وذهبت لأبحث عن هند وغيث حتى وجدتهما يجلسان في كوفي شوب، وهما مثل عصفورين يجلسان على غصن شجرة مورقة، وأنا أطل عليهما عبر شرفة من كوخ بني وحيداً وسط غابة من أشجار الأرز ...

ما هذا. لم أحلم؟

نهض غيث، ثم تركها ومضى، وأنا ما زلت مذهولاً. ذهبت إليها لأسألها ما هذا الذي يحدث؟ ولمَ هذه النظرات؟ ولمَ هذه التصرفات؟ وإذا بها تصرخ وتنادي الشرطة، وعندما جاء الشرطي أخبرته أنني أضايقها، وأنني منذ أسبوع أقوم بملاحقتها من مكان إلى آخر. من أرض المعارض والفندق وسوق المباركية والأفنيوز. وأنها لا تعرفني.

وأنا في صدمة وحزن وجنون وغربة زاد اتساع المكان من حولي، ولفّت بي الدنيا، واسترجعت ذكرياتي معها وإذا بي أنا غيث ومن أشد المعجبين بها، وكنت أراسلها من قبل، ولكثرة حبي لها ظننت أنني مقرباً منها كصديق وحاضراً معها في معرض الكتاب، وأهديتها نسخة من كتابي، وأشارت إليّ أن أقف إلى جانبها كصديق، أنا عشت وهم الحلم بأنني حبيبها، وأنا من أخرج العاشق المحب، أنني أريد الانتحار وهي لم تعلم، إنما أوهام أعيشها لوحدي وأفترض أنها موجودة واسترجعت شريط ذاكرتي معها، بل لم أكن معها إطلاقا.

جئت إليها بمعرض الكتاب وأهديتها نسخة من كتابي، ولم يكن هناك مدير أعمال، بل أنا افترضته، وأنا انسحبت من نفسي مبتعدًا، ولم أكن أستطيع النظر إليها أو إخبارها بمشاعري.

عندما ذهبت إلى الفندق ورأيتها تخرج من المصعد وتذهب لتناول طعام الإفطار لم أكن معها، ولكن افترضت ذلك. نعم طائر السنونو الأزرق هو أنا الذي يريد أن يعود إلى الواقع، وعقلي الذي يريد العودة إلى جسدي حتى بعدما تناولت طعام الإفطار وذهبت إلى غرفتها. فأنا مازلت جالساً في اللوبي ونمت وتحلّمت ما حدث بالغرفة، وأنها قرأت كتابي ودخّنت السجائر، وأنا لا أعلم إن كانت حقاً قرأته أم لا.

عندما نزلتْ في اللوبي في تمام الساعة الخامسة لم يكن معها مدير أعمالها، بل نزلت وحيدة وركبت التاكسي وانطلقت، وأنا ركبت بالتاكسي الذي خلفها مباشرة، وطلبت منه أن يلحق بها حتى وصل إلى سوق المباركية وأنا أتابعها خطوة بخطوة وأتخيل نفسي حبيبها غيث الذي استعطف حبها وقبلت به عطفاً ،حتى عندما جئت إليها في اليوم التالي لم تكن تكلمني عن الندوة، بل كانت تتكلم بالسماعة وتوهّمت كلامها معي. وغيث تحبه شفقة، ومع ذلك رضيت به، وإذا به أيضاً حلم لم يتحقق.

ما هذا الحلم الجائر والوهم المستبد! حتى مع حلمي أحلم حلماً آخر لا أستطيع البوح بمشاعري تجاه من أحب، وأسلم مشاعري من طيف إلى طيف آخر ليشعر بإحساسي .

هربت من الشرطي كالمجنون أركض بالمطار حتى وصلت إلى مواقف السيارات وإذا بسيارتي الميتسوبشي البيضاء تنتظرني، فركبتها وانطلقت مسرعاً أعيش الواقع.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية