لا أدري متي وافقت علي إقامة حفل الخطوبة الخاص بي!... بل ولم أعلم من هي خطـيـبتي إلا حين رأيتها في الحفل وهي تتلقي التهاني من الحضور الكرام... لم أرها من قبل حقاً!... ولكن الغريب هو أني لم أفكر في الارتباط من قبل... مطلقاً... يبدو أن الأمور قد تغيرت... متي؟!... لا أعلم... علي الأقل في تلك اللحظة... كما أدركت أيضا أن تلك الحفلة السعيدة مقامة في منزلنا... وأنه يعج بأناس لم أرهم في حياتي قط... كان أول من بحثت عنهم ممن أعرفهم هي أمي... فذهبت إلى غرفتها مباشرة ووجدتها جالسة في حالة غضب رافضة الخروج للحفل... لم أعلم أيضاً سبب هذا ولكني كنت أتوسل إليها بأن ترضي وتخرج للناس بوجه مبتسم... كنت كمن يصارع باستماتة كي لا يفسد الحفل، وكأن روحي متعلقة بنجاحه علي أكـمل وجه... أصرّت علي غضبها فأتيت لها بالفتاة... عفواً... خطيبتي، كي تحـن ولا تفسـد سعادة هذه المسكينة... ثم تركتهما وذهبت لغرفتي كي أرتدي سـتـرة الحفل... لم أجد إلا سترتان... الأولي ذات لون ذهبي ولكن عندما ارتديتها عانيت من خشونة قماشها وثقله الغير عادي، فألقيت بها علي أقرب كرسي ثم ارتديت الأخرى... كان لـونها أخـضـر جميل... أما بنطالها فكان لونه أصفر داكن!... تقززت من خلطة الألوان البهـلوانـية وقذفت بتلك السترة من شباك الغرفة، وقـررت أن أكـمل حـفلتي بملابسي هـ... مـهلا!... ماذا أرتدي الآن؟!... إنها ملابس نوم!... فهل سأحضر حفل خطوبتي بتلك الملابس؟!... ويبدو أن خطيبتي قد قرأت أفكاري تلك فأتتني مهرولة وهي تتوسل إلى أن أرتدي أي سترة مناسبة مثل التي يرتديها العقلاء في حفلات خطبتهم... ولكني تمسكت بموقفي، ثم لفت انتباهي بعض الصياح بالقرب مني، فوجدت اثنين من المدعوين المسنين المجهولين – بالنسبة لي طبعاً – يتبادلان السباب وعلي وشك التشابك بالأيدي... لم يباليا بوقار سنهما المتقدم ولا بالمكان المتواجدين فيه، ووجوب تقديم التهاني لا رفع الصوت بأفظع الألفاظ... لم يباليا حتي بأن العروسين يقفان علي مقربة منهما، فما كان مني إلا أن تقدمت إليهما محاولا تهدئة الموقف وتذكيرهما بأننا في مناسبة سعيدة... لم يهتم هذان المخبولان بما أقول وأخرج كل منهما سيفاً ورقياً من بين طيات ملابسه وبدءا في التبارز... انسحبت من وسطهما مسرعاً وابتعـدت ممسـكاً بيد خطيبتي حتي وصلنا إلى باب المنزل... لاحظت كم المدعوين الهائل ومقدار الصخب الذي يحدثونه من أحاديثهم الجانبية، كما زادت حيرتي من أني لم أميّز ولو حتي شخصاً واحداً منهم... أين أبي؟! وأين أخواتي وأهل العـروس؟! أين أقربائي؟!... أين أصدقائي المقربين؟! أم أنهم في وقت الشدة يختفون كالأشباح!

 

- أنت أيها الخطيب؟!... أريد أن أتعارك معك حالا!

التفت إلى قائل تلك الجملة العجيبة، وفوجئت بشخص قصير سمين، يطير في اتجاهي مثل المصارعين المحترفين ليصطدم بي ونقع أرضاً في عنف... لم يبال أي أحد من مخابيل الحفل بما حدث، واستمر الكل في محادثاته الجانبية... تدحرجت أنا وهذا الشخص متخطين باب المنزل وأصبحنا في عرض الشارع المظلم نتبادل أقسي لكمات وأسوأ كلمات... لا أدري ما الذي جعلني في قمة غضبي محاولا قتل هذا الرجل... كانت قوة كل منا متكافئة إلى حد بعيد، وظل الصراع دائراً بيننا في صورة دحرجة مستمرة تصحبها بعض لكمات سريعة ومحاولات خنق فاشلة، حتي ابتعدنا عن المنزل بمسافة غير قصيرة... ثم سمعنا صوتاً جباراً أشبه بطاحـونة عملاقة... توقفنا عن الشجار ونهضنا ملتفتين حولنا في ذهـول... اصطبغ لون الليل حالك السواد بحـمرة شديدة... وانتشر غبار وضباب بصورة مفاجئة في الأفق وعلي المسافات البعيدة المضيئة... نظر لي غريمي المجهول للحظات بوجه يعلوه هلع شديد، ثم تراجع بضع خطوات إلى الوراء وهو يتلفت لما حوله بعصبية... وانطلق يجري مبتعداً بهستيريا حتي ابتلعه الظلام من أمامي.

كنت أتلفت بدوري محاولا فهم ما يحدث... ولكني لم أحظ بأي إجابة وسط هذا الطوفان من المواقف العجيبة المريبة... حاولت أن أعود إلى منزلي وفشلت... شارع يفضي إلى شارع دون تمييز، حيث كل الشوارع متشابهة ومتشابكة... كنت أشعر بأني مثل خيط صوفي يدور ويدور مكوناً كرة ضخمة تزداد وزناً وتعقيداً كلما دار حولها دورة بعد دورة... تسمرت في مكاني... التفت حولي مجدداً محاولا إدراك ما أنا فيه من غموض... لمحت من بعيد خيال شخص آت ناحيتي في تؤدة... اقترب الخيال أكثر ووضحت ملامحه إلى حد ما، فأدركت بأنه شخـص هـزيل جداً يجـر شخصاً مستلقياً علي محفة قماشية بسيطة... نظرت في اتجاه آخر فـلمحـت أيضاً شخصاً هزيلاً يجر هزيل علي محفة مماثلة لسابقتها... نظرت في اتجاه ثالث ورابع... أيضا نفس الأشخاص الذين بدأوا يظهرون بكثافة علي نفس الحالة في الشوارع المحيطة بي، كما أدركت أن الكل يأتي باتجاهي وكأني أنا مركز هدفهم ومرادهم!... عجـّـت الشوارع بهؤلاء الناس الذين انقسموا ما بين شخص متهالك يجر نفسه ومن معه بصعوبة بالغة، وبين شخـص آخـر مجرور هالك علي المحفة المتآكلة مثلهم... كما صعقت لدي إدراكي بأنهم أقرب إلى الهياكل العظمية المكسوة بطبقة رقيقة من الجلد المشدود... تجمّد الدم في عروقي أكثر، وتزايدت قرعات قلبي بين ضلوعي، وبحركة سريعة تركت مكاني فجأة وانطلقت عبر الشوارع بلا هدف... بل في الحقيقة كان لي هدف محدد وواضح، وهو أن أبتعد عن هذه المخلوقات... كما كنت أتمني أن أجد منزلي أمامي لأحتمي به من تلك الكوابيس المفزعة... فحتماً مصاحبة بعض البشر الغرباء ثقيلي الدم في حفلة خطوبة فاشلة أفضل من مواجهة هياكل عظمية لا تحوي من الدم شيئا، رغم إحساسي الداخلي المريع بأن هؤلاء الغرباء هـم تلك الهياكل المتهالكة!... ولكن... هل ترك هؤلاء الحفلة وتقمصوا بسرعة البرق تلك الشخصيات البالية لمجرد إخافتي؟!... وأثناء حفل خطوبتي؟!... حقاً لا أعلم.

ركضت وركضت حتي أدركني التعب والإجهاد... فأبطأت من سرعتي شيئاً فشيئاً حتي توقفت وأنا ألهث بقوة، ثم انحنيت راكعاً لآخذ بعض أنفاسي العميقة.

تكرر صوت الطاحونة الجبارة ولكن بصوت أعلي بكثير من المرة السابقة... بل وكان مصدر هذا الصوت خلفي تماما، فالتفت جزعاً لأري ديناصوراً عملاقا يلف رقبته الطويلة بسرعة ناحيتي ويفتح فمه الواسع وينقض عليّ ليبتلعني وأدخـل جوفه قبل أن ادرك الموقف برمته...

وعندما أفقت من صدمتي وجدت نفسي راقداً في جوف هذا الوحش، ولكنه لم يكن جـوفاً مظـلماً رطباً، بل كان مضيئاً نظيفاً مثل قاعة احتفالات كبري، وكان يحوي الكثير من الآلات الميكانيكية التي تتحرك بلا توقف... فأدركت بأن هذا الديناصور ما هو إلا آلة متخـفية بشكل هـذا الوحش لسبب مجهول!... درت ببصري لعلي أجد ما يساعدني علي فهم ولو جزء يسـير مما يحدث لي... فلمحت شخصاً يرقد علي مقربة مني وقد شرد ببصره في ناحية بعـيدة عـني... يا إلهي!... إنه... إنه... انتفضت من مكاني واقتربت منه لأتأكد بأن هذا الشخص هو ذلك القصير السمين الذي عاركني في حفل خطوبتي وتسبب في كل ما حدث لي... وتأكدت منه... وفي لحـظات كان الغضب الهادر قد ملأ عروقي وتناسيت كل شيء فيما عدا أني أريد أن أنتقم من هذا المؤذي... ويبدو أن أنفاسي الغضبى قد تراءت إلى مسامعه فالتفت لي ثم برقت عيناه بالمفاجأة، وانتفض بدوره من مكانه في رشاقة رغم وزنه الكبير... وقبل حتي أن ترتسم علي وجهه أي علامات تدل علي ما يشعر به تجاهي، صحت به غاضباً:

-   أنت أيها الغريب؟!... أريد أن أتعارك معك حالا!

وطِــرت في اتجاهه مثل المصـارعين المـحـترفين لأصـطدم به ونقع أرضاً بعـنف... في جــوف الآلة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية