كنت جالسًا على مكتبي في ليلة شتوية قارصة البرودة، أراجع دروسي وأنا أحتسي كوبًا من الكاكاو الساخن بتلذذ، لقد اقتربت الامتحانات وأصبحت على الأبواب، كشبح يقترب رويدًا رويدًا، فتتحدد ملامحه المقلقة يومًا بعد يوم، ورغم ذلك كنت مطمئنًا إلى حد ما من تحصيلي، فقد واظبت على حضور المحاضرات ومراجعتها من أول العام، ولكن إحساسي بتلك البرودة الشديدة في هذه الليلة أعطاني شعورًا عامًّا بالقلق والخوف والوحدة... شرد ذهني عن الكتاب المفتوح أمامي ونظرت مفكرًا في كشاف الإضاءة القابع على مكتبي بجانب رأسي، إنه يضيء لي ويعطيني بعض الدفء إلى درجة أني أتحسس بأناملي أحيانًا المصباح شديد السخونة بداخله، أملًا في حرارة مباشرة تسري بأطرافي، وإذا انطفأ هذا المصباح لسبب أو لآخر أفشل في قراءة دروسي بل وأشعر بالبرد أكثر، إلى هذه الدرجة ضعيف هذا الإنسان؟! وتدرج خيالي إلى أبعد من ذلك، ماذا لو فقدت مسكني هذا وأصبحت في العراء في ليلة شتوية كهذه؟! ماذا لو اختفت ملابسي الصوفية الثقيلة في تلك الطبيعة التي لا ترحم؟! ماذا لو لم أجد الطعام والشراب؟! وبهذا انتقلت بأزمتي الخيالية من طالب علم يأمل في الاستذكار إلي إنسان بدائي يطلب الاستقرار، ماذا لو... استفهام مقلق يشعرك بالعجز عن معرفة ما سوف يحدث وما ستفعله، ويفضي إلي التشتت في كثير من الأحيان، لذا لا داعي لأن أجهد ذهني بتلك الفلسفة وأكتفي بتحـصيل ما قد يساعدني علي إجابة أسئلة الإمتحانات ثم أفعل ما يحلو لي بعد ذلك.
وقبل أن أعود مستسلمًا إلي الكتاب القابع أمامي لمحت نملة صغيرة تمشي بجواره... في حالتي العادية كنت أمد سبابتي لأدهس النملة وألقي بها بعيدًا في غضب، ففي الصيف يوجد النمل في كل مكان حتي في طيات ملابسنا وداخل آذاننا، ولكننا الآن في الشتاء! والنمل لا يظهر في هذا الفصل، فهو يقبع في جحوره الخفية منتظرًا الفصول الدافئة ليخرج فيها، أما تلك النملة فأمرها غريب، إني لم أر أي نمل منذ أن بدأ هذا الشتاء القاسي بزمهريره، كانت تلك النملة تمشي بوهن تراه العين المجردة في ارتعاشة أطرافها وحركاتها غير المنتظمة، لم أمد إصبعي لأدهسها كما جرت العادة، بل ملت بجذعي للأمام كي أراها عن قرب، واقتربت بوجهي منها أكثر وأكثر، تأملتها، ثم بحثت من حولي وأسفل مكتبي فلم أجد أي أثر لنمـل آخر، إذن، هي وحيدة في هـذا الجـو البارد، حتمًا هي ضائعة ولا تعرف طريق العـودة، ولكن هل فــَـقــَدت طريقها منذ بداية الشتاء؟!... أي منذ حوالي شهر ونصف الشهر! لا أرى نتيجة غير ذلك حسب معرفتي الضحلة بسلوك النمل، فما سبب خروجها في هذا الوقت وأنا أعـلم أن النمل يتهيأ للبيات الشتوي بكل المؤن اللازمة للبقاء آمنًا في جحوره طوال فترات البرد.
إنني أمام كارثة مصغـرة، وإذا أردنا أن ندرك ذلك علي طريقـتنا فعلينا أن نتخيل شخصًا ضـل طريق العودة لبلدته وجال في الصحراء تائهًا، وعلينا أن نضيف إنه في تلك الصحراء منذ شهر ونصف -هذا لو اعتبرنا أن مرور الزمن علينا وعلى النمل سواء- بلا أي مساعدة من أحد، كما أن الشتاء أقبل عليه في تيهه هذا وهو يرتدي الملابس الصيفية، فهل لنا أن ندرك حجم تلك الكارثة؟! إنها مصيبة إلى درجة أن هذا الشخص لابد أنه هالك قبل انقضاء ربع هذه المدة! فما بالنا بتلك النملة الضئيلة، يبدو أن تلك المسكينة قد تلمست بعض الدفء من ضوء مصباحي كأمل في بعض الطاقة، وحتمًا تحتاج إلي طعام، فهي أمامي تبدو كمن يموت جوعًا وعطشًا في صحراء مقفرة مهلكة.
قمت مسرعًا وأحضرت بعض ذرات السكر علي طرف سبابتي، ثم أسقطت تلك الذرات بجـانـبها، لم تبد صغيرتي أي اهتمام، رغم أن بعض ذرات السكر تماثلها حجمًا، اقتربت برأسي منها لأتأكد أنها علي قيد الحياة، حيث إنها توقفت عن التحرك وقبعت ساكنة تحت ضوء المصباح، لمحت حركة عشوائية بدرت منها فأحسست بنوع من الراحة ودفعت بإحدي ذرات السكر حتى لامست جسدها، عادت صغيرتي إلى سكونها مجددًا، شعرت بقلق وعدم قدرة علي مراقبتها جيدًا، فأخرجت عدسة مكبرة من أحد أدراج مكتبي ووضعتها أمام عيني، وهنا رأيت صغيرتي بحجم كبير واضح وشاهدت أرجلها وهي تتحرك ببطء شديد، كما لاحظت حركة قرون استشعارها العشوائية، كررت المحاولة مع ذرة سكر صغيرة في ربع حجمها تقريبًا فلم يتغير شيء، ولكن بعد أن ابتعد طرف إصبعي لاحظت أنها قد أحاطت ذرة السكر بأطرافها في ارتعاشة واهنة، غمرتني سعادة بالغة لما حدث وعـلت وجهي ابتسامة واضحة لم تظهر منذ أيام، ولكن بعد لحظات تكورت صغيرتي علي نفسها تاركة السكر من حولها وسكنت، تحولت ابتسامتي إلي علامات جزع وأنا أدقق النظر في جسدها الساكن، مددت سبابتي من جديد وحاولت أن أحركها أو أقرب السكر منها مجددًا فظلت علي حالها، أيقنت بعد دقائق من المحاولات الفاشلة أن صغيرتي قد ماتت، وأن سطح مكتبي كان مرحلتها الأخيرة في رحلة شاقة انتهت بالهلاك، ماتت صغيرتي وسط غذاء وفير، ماتت صغيرتي بعد أن احتضنت إحدى حبات السكر دون أن تقرب فمها إليها، لقد مات مسافر الصحراء الضائع بجانب بئر الماء، مات دون أن يشعر به أحد من عشيرته، ولكني شعرت بها، وشهدت موتها، لذا قررت أن أدفنها، فمسافر الصحراء الوحيد إذا مات لا يدفن، فمن يدفنه؟! وما أتعس هذا المصير، أحضرت علبة ثـقـاب فارغة، ووضعت صغيرتي بداخلها وأغلقتها جيدًا بشريط لاصق، ذهبت لحديقة المنزل في جو شديد البرودة ودفنتها تحت الشجرة الوحيدة بها، وحيد الغرفة يدفن، وحيدة النمل أسفل وحيدة الحديقة.
عدت إلي غرفتي والتقطت العدسة المكبرة التي تركتها على مكتبي، وبكل غضب قذفت بها بعنف في الحائط، فتهشم زجاجها السميك إلى قطع صغيرة أشبه بذرات السكر، أطفأت مصباح مكتبي، ثم استلقيت على سريري مرتعشًا مكتئبًا.
التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي.