مضى كانون الثاني، وانسلّ ليبني له رسماً بين السنين العجاف، كثيرٌ هم الذين ولدوا فيه، وكثيرٌ هم الذين رحلوا في قوارب أيامه، ليست المشكلة في أن تعيش أو تموت؛ بل في أن تعيش ضعيفاً مقطوعاً من شجرة، كما كانت تقول جدتي رحمها الله! تلك التي كانت مدرسة في صبرها واحتمالها وشجاعتها على مواجهة الحياة!
أنا الآن في وسط الليل، وجنون الرياح التي تسابق المسافات، ولا تترك شيئاً إلاّ ضربته يميناً وشمالاً، تتمايل الأشجار، وتنحني أمام قوتها، وتهتز الأبواب والنوافذ، وتطير الأوراق، وكأنها في سباق! أو كأنّ الرياح تطارد شبحاً أرعبها، أو تطلب ثأراً قديماً جددته الذكريات والدموع!
أنا الآن وسط هذا الجنون، أتدثر بما أتاح لي الزمن الثقيل، من أغطية بالية، ورثتها عن أمي وأبي اللذين ماتا قبل أكثر من عشرين عاماً، أجلسُ في الفراش؛ حيناً أسبّحُ الله، وحين أغفو قليلاً، وحيناً أبكي!
قد لا تصدقون، أنّ أبي كان من أكبر الملاكين للأرض، كان سيداً في قومه، ألمْ تسمعوا بعبد الله الفيل!؟ إنه أبي! اسم عائلتنا يدلّ على سطوتنا وسيادتنا، وهو قديم أطلق على جدّ والدي رحمهما الله!
كان أبي نسخة من جدي، في خَلقِهِ وخُلِقِه، عصبيّ المزاج، حاد الذكاء، شديد الانتماء للأرض، طويلاً، أسمر اللون، قليل شعر الرأس، طيّب القلب، سخيّ الدمعة، كان كبار السنّ من الناس يأتون إليه ليلاً ويسمرون عنده، ويتنافسون بالحظوة في مجلسه، ويناقشون شؤون الأرض بما يوفر عليه أحياناً عناء التفكير، ثم يعرضون عليه العاطلين عن العمل، ليعملوا في أرضه، تبرعاً حيناً وبأجر زهيد حيناً آخر، لكنه لم يكن يرض الظلم لأحد، فيأكل عرق جبين العمال، فكان يقدّم لهم المال، ويعطيهم من الزيتون تارة أو من القمح أو التين!
لكنّ الدنيا لا تدوم على حال، وهي كما قالوا " يوم لك ويوم عليك" وهي اليوم، علينا لا محالة!
من كان يظنّ أنّ ابنة ذلك الرجل صاحب المال والوجاهة ستمرّ عليها السنون عجافاً! بعد موت والديها، ثم تُتركُ وحيدة دون أخٍ أو أخت!
أنا لم أقصد الكذب، فقد كان لي أخت أكبر مني بعامين، لكنّها تزوجتْ خارج الوطن وماتت في الغربة! وسمعت أنها كانت تخبئ بضع حفنات من تراب الحاكورة، التي فيها بيتنا، وأوصت قبل أن تموت بأن توضع هذه الحفنات تحت خدها وأمام أنفها في القبر.!
لم أرها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وقد عبس الزمان بوجهها، فلم تنجب شيئاً من البنات أو البنين!
كانت تشبه أمي في طلعتها البهية، وتحمل في قلبها حنان أبي، والصحيح أن وجودها بعد موت أمي عزّاني وإن كانت بعيدة عن ناظري، وإن كانت تحت رجل آخر ليس من عائلتنا، فقد كان الرجل متديناً، يحبّ صلة الأرحام ويساعد المحتاجين، وكم بذل من الجهد في طلب زيارة لزوجته لتأتي إلينا، لكنّ الاحتلال كان يمنع ذلك بشكل عام، ولا يسمح إلاّ لمن كان يملك وساطة، أو يدفع رشوة للذين حفظوا وجوده ونسوا هويتهم وانتماءهم! كان المختار في قريتنا بسيطاً صريحاً، كان يقول ( لا تتوقعوا أن تأتي ابنتكم لزيارتكم، يخافون ألاّ ترجع للأردن، والباقي عندكم ..)
نعم، أذكرها حين كنّا نلعب في ساحة البيت مع أخي الصغير، وتختبئ وراء الفراش الذي كانت أمي تعرضه للشمس بين فينة وأخرى، وأحياناً تقطع حبل الغسيل المنصوب بين شجرة اللوز والكينا، وحين تصرخ أمي: (مين قطع الحبل)؟؟ تسبقها بالبكاء الحار وتقسم بالله أنها لم تفعل ذلك عمداً.!
أذكرها حين كانت تمثل دور الأمّ التي أنجبت ولداً وبنتاً وتعاملني أنني ابنتها وأخي الصغير ولدها .. كان عقلها أكبر من عمرها، كانت تتهمني أنني دائماً متجهمة عابسة (لا أضحك للرغيف السخن)، ربما كانت محقة في ذلك! حين أقارن نفسي بمرحها وحبّها للحياة والتطلع للمستقبل بأمل مشرق ...
أقول لكم بصدق، أنا أتذكر جيداً جاءها ذاك الرجل خاطباً، لقد رأتنا عمّته التي كانت متزوجة في القرية، ذات مساء ونحن عائدين من قطف الزيتون، كان الرجال يسيرون أمام جماعات النساء العائدة من العمل، وبينما كنّا نتجاوز الحقل بقليل، إذ رأينا امرأة ومعها بناتها تقف وتشير إلى واحدة منا! بصراحة لم أفهم المقصود ساعتئذ، لكنها انفردت بأمي، وسرنا غير بعيدين عنهما مع بناتها، وحدّثَتها قليلاً، ثم لحقت أمي بنا، ولحقت المرأة ببناتها، وحين سألنا عن الأمر، ضحكت أمي، وقالت (كل شي بوقته منيح)، وبعد الغروب طلبت إلينا أن نغير ثيابنا، ورأيتها تحدّث أبي خلوة، لكنّ صوت أبي كان مرتفعاً على عادته، ولم أسمع إلاّ قوله: - أنا لا أريد أن أزوّج الصغيرة لتبقى الكبيرة عندي، إذا رغبوا فليطلبوا الكبيرة، ثم قال : ( هذا ما عندي ) .
لم أكنْ أستطيع التفكير طويلاً بما سمعت، كل ما أعلمه في الزواج أن الرجل يرسل أمّه أولاً ثم أهله ويقرأون الفاتحة، والأب صاحب القرار الأول والأخير، وقد علمتُ بعد ذلك أن الزواج كان في البدء لي، لكنّ إصرار أبي على تزويج أختي باعتبارها الأكبر، وموافقة أهل الخاطب هما اللذان جعل من أختي أمّاً ومني عانساً إلى اليوم، وقد جاوزت الخمسين سنة!
أنا الآن أمدّ بصري إلى الوراء لا إلى الفضاء! أبحث في فناء المنزل فلا أجد لوزاً ولا كينا، فباب منزلنا القديم الذي أسكنه أصبح على الشارع العام، فقد كبرت القرية واتسعت شوارعها، وتشكل مجلس بلدي، وكثرت المنازل، فقرر المجلس توسيع الشوارع، فهدموا السور الطيني وبنوا سوراً من إسمنت مقابل الأرض التي أخذوها، وذهبت الحاكورة لم يبق سوى شجرة تين خلف المنزل، وشجرة زيتون، لم يعوضوني شيئاً مما سلبوه! ومن أنا حتى أحصل على تعويض، فهذا زمان آخر، وزمان أبي ذهب إلى غير رجعة، كما ذهب زمان المختار بل زمان الأرض أيضاً! فأنا اعتدت أن أغمس يدي عشرات المرات بالتراب يومياً على مدى أربعين سنة، وأعرف حدود أرضنا في مواقعها، وكذلك نساء جيلي كلهن، أما اليوم فنحن نعيش غرباء عن هذا الجيل، لا يفهم من الأرض إلاّ البيت الذي يسكنه! وهو مستعد للبيع حين تلمّ به أدنى ضائقة!
أعلمُ أنّكم ستقولون أين أخوك؟ وكيف تقولين إنك مقطوعة من شجرة؟ وقد تحدثت عنه قبل قليل؟
نعم، كان أخي مرشود أصغرنا سنّاً، كان مرفهاً أو مدللاً كما كان يحبّ أن يسمع منا، كان الوحيد بين بنتين، فقد أنجبت أمي قبله أخوين اثنين لكنهما ماتا ولم يبلغاً سن يوم أو يومين! وبعد زواج أختي بقيت أنا وهو نتقاسم هموم الحياة، حلوها ومرّها، أكمل تعليمه الجامعي، وانتظر على أمل أن يعمل هنا في هذا الوطن، كانت الوظائف شحيحة، والتعليم بيد المحتل، لا يُعيّنُ شخصٌ إلاّ بوساطة! أو برشوة! كان أبي يرفض الوساطة ويرفض الرشوة، ويقول (لدينا أرض، وهي تحتاج لنا، وقد عشنا أعزاء من جناها وخيرها، فليعملْ بالأرض كما عملنا، هذا ما لدي ).
لكنه سافر إلى العراق ومكث مدة، وأهرق من المال الكثير، ثم تغير ماء الفرات، وما عاد نخيله يثمر كما كان، فعاد إلى الوطن، وكان أبي قد جاوز الخامسة والسبعين، وبدأ السقام يتسلل لجسمه، ويُضْعِف قواه..
عاد أخي، ولم يعد، ذهب مدللاُ مرفهاً غير مبالٍ لا بالمال ولا بالأرض ولا بالحياة، ثم حين عاد وعايش واقعنا انقلب مائة وثمانين درجة، رافق أبي في آخر أيامه في مرضه، وحين مات أبي، ضاقت به الدنيا، وجاءني بعد اليوم الثالث من وفاة أبي وقال: لن أبرحك بعد اليوم، فأنت من تبقى من الشجرة، وسوف أعمل بكل ما أستطيع، ونعيش حياتنا كما نحبّ، وكي لا أظلمه، أقول بصدق لقد حاول أن يبحث عن وظيفة تناسب تخصصه، غير أنه لم يجد ما يحقق لنا الحدّ الأدنى من العيش الكريم، فأقنعه بعض أصدقائه ممن تشابهت حاله أن يعمل في حيفا، فهناك مال كثير، لكن قد يتطلب الأمر أن يبيت بضعة أيام في الأسبوع، ففكّر في الأمر، وعرضه عليه، فرفضتُ أولاً كي أظلّ وحيدة حزينة في غيابه، وقلتُ له : إنّ المال الذي تعتقد أنه سيسعدني، لن يستطيع أن يعزيني في غيابك لو حصل لي شيء! ثم أنت رجل صاحب شهادة جامعية، أمِنَ المعقول أن تعمل هناك في مطعمٍ أو ورشة بناء خادماً!!
ومضت أيام لم نتكلم إلاّ قليلاً، ثم فكّرت في مستقبله وشبابه، وهذا الزمن الذي تغير، وغيّر من أفكار الشباب فجعل همّهم البحث عن المال فقط، بعيداً عن الوسيلة، وبعيداً عن الأرض التي بخسوا حقها وأهرقوا قيمتها، وصارت لا تنتج شيئاً ولا تأخذ من تفكيرهم وقتاً ..فوافقت على كرهٍ مني ومحبة له، على أنْ يكون العمل مؤقتاً عند ظهور فرصة مناسبة له هنا في محيطنا، وذهب إلى جارنا وطلب منه أن يسمح لزوجته أن لا تقاطعني في زيارة بين الفينة والأخرى ...
وقد مضت سنتان ونحن على هذا الحال، أنا في البيت، وهو في حيفا، يأتي متعباً ينام ليله ثقيلاً، ويصحو متثاقلاً، ونتناول الإفطار والغداء معاً ثم، يذهب لأصحابه ويعود متأخراً ثم يسافر صباح الأحد ويعود مساء الجمعة وهكذا ...
وها قد مضى أسبوع، لم يقرع هذا الباب أحد، أين أنت يا مرشود! أيعقل أنك تغيب كلّ هذه المدة! أنت لا تدري أنّ جارتنا المسكينة التي تستودعني عندها أمانة قد ماتت بعد سفرك بيومين! وتركتْ في قلبي غصّة، زادها غيابك! كأنّك نسيت أنّ نظري بدأ يخفّ وجسمي هدّه الزمن وتقلباته! أقول لك قد تعبتُ الآن من الحديث، وملّني القلم، فإذا وصلتَ بالسلامة فاذهب إلى قبر أمّك وأبيك وقبر جارتنا واقرأ الفاتحة. والسلام ختام ...
انحنت قليلاً ومدّت يدها وأطفأت المصباح المتوهج، ورفعت غطاءها واستسلمت لنوم ثقيل ... كانت النوافذ محكمة الإغلاق، ومدفأة الغاز في الزاوية مشتعلة، ومضى الليل بساعاته الطوال يمتص هواء الغرفة، وهي في نوم عميق. هكذا مضت أكثر من عشرين ساعة وهي تمتص آخر حصتها من هذه الحياة التعيسة.
كان الغرفة على حالها، وحين التفت إلى خزانة والدته القديمة، وقعت عيناه على دفتر الملاحظات الخاص بها، وفي كلّ سطر كان يقرأه كان يرسل له ضربة خنجر من الحزن والندم ...ثم غاص في دموعه بهدوء، ودارت الأرض في رأسه بسرعة، وغاب عنه الوعي، حتى استيقظ وهي يمسح حبات التراب على قبر شقيقته...وعيناه تنتقلان بحركة لا إرادية بين قبر أمه وقبر أبيه...
هذه نهاية الرحلة إذن؛ سكون مطبق، وفراق لا لقاء بعده إلاّ هناك بعيداً بعيداً عن هذا الضجيج ...لكنها انتقلت من ألمٍ...إلى سكون عجيب!