{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30
إني أعلم ما لاتعلمون؟ غيب قداسته مطلقة! يختص به المولى تعالى في طيات غيبية بلا حدود يستخرج المعنى مدققا نتائجه في ضوء رصد علاقتها بأسبابها سبحانه جل في علاه!
وتتبع خطوة القرار الإلهي خطوة إيضاح تبين ملامح ذلك الغيب غير المدرك أو المتصور، إنه أمانة العمران وما يتبعها من مسؤولية تجاه كل الخلائق في تكريم واضح وصريح للإنسان، فقال تعالى:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } الإسراء70
لقد انطلق الاختيار الرباني من الأوسع المغيب إلى الأضيق الواقع في تعاكس للأصلح الذي يُصّدره التمكين بأسباب القوة والمنعة وفق النهج الإلهي بعد التخيير الذي اختاره الإنسان طائعًا وختمه خالقه بصفتين أساسيتين في الطبع البشري الجمعي (ظلوماً جهولا!)
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} الأحزاب72
حتى إذا ضاقت الحلقة أكثر واتضحت أكثر سطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُزيل كل غموض ويفصح بلا التباس
( كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا:
فما تأمرنا؟ قال: "فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم )
رواه مسلم
واستيفاءً للقول وتعميقًا للرؤية، ينعطف الكلام في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليظهر مفهوم الخلافة بجوهره العظيم الذي يحقق مقاصد الاستخلاف الإلهي (عمارة الأرض) بصلاح كل الخلائق لا الإنسان وحده!
(وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون ) (وأعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)
إنه تعاقد الأمة السائرة على شرع الله، تختار مرجعيتها على أسس إلهية، يقول ابن خلدون في مقدمته:
"وأحكام السياسة إنما تُطلع على مصالح الدنيا فقط، يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم، فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم، وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومن قام فيهم مقامهم وهم الخلفاء، فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة، وأن الملك الطبيعي: هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة: هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا"
لقد اسُتخلف الإنسان من الخلائق، واستُخلفت جماعة بشرية من بين جماعات أخرى، واستُخلف قائد رباني من آخرين، فما أساس التعاقد بين الأمة ومنتخَبها؟ إنها المرجعية الإلهية.
اختيار على أسس الصلاح والإصلاح، أمانة يؤديها القوي الأمين، طاعة من الأمة المنتَخِبة في سيادة للشرعية الإلهية واختلاف مرده إلى هذه الشرعية .
{إنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً{58} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً{59} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً{60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً{61} النساء
وفي التطواف في سياق الاستخلاف الإلهي تهجس هواتف شتى تنطلق من عمق المعنى وعمق التجربة البشرية، لها من الظلال والعتمة والسطوع ما يجعلها مفعمة باستقصاء نوازع الضمير بين أطراف تعس حظها وسعد مرات
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} يونس14
فإن كان أحد الطرفين كما وصفه خالقه تعالى ظلومًا جهولا في جهد التوافق والترافق بينهما يعيش أضغاث أحلامه الخادعة في عربدة شيطان جاء عقاب أخروي دنيوي دقيق سبحانه ما أحكمه! في تصعيد يستنطق كل بدهيّة للفكر السياسي الإسلامي بدون فرية انغلاق يدمغ بها ذلك أن وفاء الطرفين هو إيفاء وتحقيق لمسؤولية الأمانة التي حُملت مع بداية الخلق وتجددت حين أصبح كل منهما مختارًا للآخر، أمة اختارت حاكمها مستَخَلفًا فيها بخيار جماعي، وحاكم تقدم يحمل الأمانة طوعًا، وهذا عين التعاقد بين الطرفين يتوازن بين ضمير الفرد وسلطان الجماعة!.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً} فاطر39
{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} الأنعام133
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} هود 57
ولا يتضرج أحد هنا بدماء قتل الخلافة الإسلامية فحين نطوف بآفاق الموروث ونستدعي رموزه بوحي من العودة إلى سنوات التجربة الأولى نبوية أو راشدة لا نقول بالضرورة العودة إلى المسميات للنظم وإنما يكفي توسم إشراقات أبعادها في مغايرة ظروف الوقت حيث يبقى الحلم ملتهبًا ولكنه لا يفقد المجتمع الراشد وعيه ولا يغيبه عن واقعه فلا بأس إذن من تفكيك الصورة وإعادة تركيبها.
التدقيق اللغوي للمقالة: سماح الوهيبي.