(بِيضٌ صنائعنا سُودٌ وقائعنا خضْرٌ مرابعنا حمرٌ مَواضينا) ([1]).
صفحة الحياة لوحة غنَّاء أبدعها بارئ الأرض والسماء، فحفلت بعدد لامحدود من الألوان التي زيَّنت الكون، والإنسان، والنبات، والحيوان، والجماد. وتميَّز كل لون منها بدلالة جماليَّة ورمزيَّة جعلته أثيرًا لدى البعض ومنبوذًا لدى البعض الآخر حسب الجنس، والسن، والحالة البدنية والمزاجية؛ فاللون الأحمر معروف بدلالته المثيرة للأعصاب والرامزة للغضب والثأر، والأزرق باعث على الهدوء ورامز للصداقة والسكينة، واللون الداكن مُحبِط وجالب للاكتئاب ورامز للغموض والإبهام، والأسود دليل الفخامة والرِّفعة ورمز للحزن والموت، والأبيض دليل البراءة والصدق ورامز للسلام والصفاء... أما الأخضر فله التحية والسلام.
مَن مِنَّا لا يحب اللون الأخضر؛ الذي يزيِّن الحقول والبساتين، ويفتح ذراعيه مؤذنًا بالمرور عبر الإشارة في الطريق، ويزركش سندس أهل الحبور في جنَّات النعيم (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) ([2])؟ على ألا يغيب عن ذهننا أن النهج القرآني في تشبيه نعمة في الدنيا بأخرى في الآخرة إنما هو للتقريب لا للمضاهاة، فما مِن شبَهٍ بين نعمة في الدنيا وصنوها في الآخرة إلا في الاسم فحسب.
غاص العالم اللغوي (ابن جني) في أعماق اللون الأخضر فاستخرج الطراوة والليونة من حرف الخاء واستنبط الجريان والسيولة من حرف الراء؛ فاللون الأخضر مرادف للخير والنماء ورامز للنضارة والبهاء والشباب، وهو مُبهِج للقلب وباعث للأمل؛ حيث إنه لون إيجابي مئة بالمئة، كما أنه مريح للعيون إذ إن طوله الموجي وسَط بين الأحمر الطويل والأزرق القصير، وساحته البصرية أصغر الساحات البصرية مقارَنة بباقي الألوان. هذا مع علمنا بأن اللون ما هو إلا الترجمة الدماغية للموجات الضوئية التي تصافح شبكية العين وينقلها العصب البصري، فعلاقة اللون بالضوء هي كالنغَم بالنسبة للصوت.
من الخضراوات نتحصَّل على حديد القوة وسياج الأمان ضد الأنيميا ونقص الفيتامينات، وفي جوانب الطرقات تنفث الأشجار الخضراء إكسير الحياة من الأكسجين وتلتهم ثاني أكسيد الكربون، كما تغمر الطمأنينة نفوس المرضى حين يطالعون غرف العمليات الجراحية المكسوَّة باللون الأخضر.
ثقافة الألوان ليست معرفة جوفاء أو بضاعة مزجاة في قلم رسَّام أو فرشاة نقَّاش أو خيال مصمِّم أزياء، ولكنها لغة ذات جذور ضاربة في عمق التاريخ والأديان والحضارات، وفيها أُلِّفت كُتبٌ ومراجع، كما أضحتْ اليوم عِلمًا يدرسه الباحثون ويستخدمه المربُّون، والمُصلِحون، والأطبَّاء في تغيير السلوك وعلاج النفوس وربما الأبدان. وما تجربةُ خفض معدَّل الجريمة في قطارات نيويورك أو تراجع نسبة الانتحار على الجسر اللندني الشهير بمجرد إعادة طلائهما إلا جزءًا مِن كُل وغيْضًا مِن فيْض.
نظرةٌ إلى فوضى الألوان في شوارعنا، ومنازلنا، ومدارسنا، وملابسنا تؤشِّر على انخفاض قيمة الجمال و تدنِّي مستوى الذوق وضمور مساحة الإبداع، كما تنبِّه إلى أهمية الالتفات وحتمية النظر في تطبيقات عمليَّة تجعل من اللون أداة فاعلة في بعث الجمال، وإيقاظ الحواس، وتنمية الذوق، وجلب السكينة، وحُب الحياة، والتذكير بعظمة الخالق ([3])... على ألا تقف حدود براعتنا في توظيف اللون عند تجميل النساء، أو عند استبدال اللباس الأبيض بالأزرق ثم الأحمر في السجون حين يتنقَّل السجين بين الحبس للتحفُّظ ثم الإدانة فالإعدام، أو عند الستائر والطنافس في قصور الحكام والأمراء!!!
اللهم بيِّض وجوهنا ([4])، وألبِسنا خُضْر الحُلل، وأسكِنَّا دُهْم ([5]) الجنان.
([1]) الشاعر صفي الدين الحلّي.
([2]) الإنسان 21.
([3]) (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) النحل 13.
([4]) (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) 107 آل عمران.
([5]) (مُدْهَامَّتَانِ) الرحمن 64.
التدقيق اللغوي: أنس جودة.