الكل هذه الأيام يتصدر ليفتيك في أمر المال والأعمال. الحمى الاستثمارية تجتاح الشارع تستحثها مباركة رسمية، وسيل من المشاريع (المبتكرة) العملاقة، وسوق أسهم واعدة تكاد تكسر حاجز الاثنتي عشرة ألف نقطة. في حين تعربد آمال جمة في نفوس الجماهير وهي تشهد وصول سعر برميل النفط لحدود الستين دولاراً. معالي الأستاذ خالد القصيبي وزير الاقتصاد والتخطيط ذكر في تصريح نُشر مؤخراً أن الاقتصاد السعودي يمر في الفترة الحالية بمرحلة ازدهار (فريدة) انعكست على جميع المرافق وأسفرت عن نهضة (عقارية)، وارتفاع في حجم سوق الأسهم والاستثمارات الوطنية والأجنبية، وتحقيق معدلات نمو اقتصادي كبيرة، مع انخفاض في معدل البطالة. وقدّر معاليه الفائض في السيولة النقدية لدى المواطنين حالياً بنحو الخمسمائة مليار ريال!
ثمة كلمتان ضمن التصريح أعلاه تلخصان ببلاغة شاعرية الواقع الاستثماري السعودي: (عقار).. و (أسهم)!
وبعبارة أخرى، فإن مواطني الدولة التي تمثل السوق العربية الأكبر إطلاقاً وتحتكر ربع نفط الأرض يوجهون نصف تريليون من عملتها للتداول في التراب.. وفي الهواء حيث تتأرجح القيم السوقية للشركات.
(المضاربة) في سوق الأسهم باتت نشاطاً تمارسه كافة الشرائح بفخر بغض النظر عن حقيقة مفادها أن تسعين في المائة من المتداولين يخسرون باستمرار فيما يواصل السوق صعوده كمثال بليغ للشفافية المفقودة ولاقتصاد الشائعات الذي يسيّر هذا السوق رغماً عن الجهود التي تبذلها هيئة أسست لتنظيم سوق المال.. يُلقي المدافعون عنها باللوم دوماً على (الهوامير) و (الحيتان) وعلى ثدييات بحرية أخرى كثيرة. ويكرس السوق الصاعد كالصاروخ للمفهوم (الغوغائي) للاستثمار. فقطاع الخدمات المعني بتقديم المنتج التنموي هو أسوأ قطاعاته قاطبة من حيث الأداء. وبالرغم من أن اللحوم الحمراء تعد مكوناً أساسياً لموائد ملايين أفراد الشعب فإن الشركة المساهمة المعنية بتجارة المواشي قد احتفلت بفرح مؤخراً بتحقيق خسائر تقل عن كل الأرقام القياسية التي تكبدتها خلال الأعوام الفائتة. كما أن إعلانات شركة تعنى بتصنيع الكابلات بتحقيق أرباح بلغت الخمسة ملايين من أصل مبيعات فاقت المليار ريال لم يشكل وقفة تأمل لـ (فرادة) الازدهار الاقتصادي الذي نحيا فيه.
معالي الوزير أشار كذلك لـ "نهضة عقارية".. وهو لعمري تعبير يستحق أن يسجل باسم قائله. فقد حق لنا أن نفخر بالحركة المسعورة لبيع وشراء المسطحات الرملية البكر، وبالإرادة الحديدة التي استقدمت العمالة الآسيوية الكادحة لتنفذ مشاريع المخططات حيث تتبعثر مكعبات اسمنتية قبيحة لا يلزمنا (نهضوياً) أن تصلها شبكات الكهرباء ولا الماء ولا الصرف الصحي.
ثم كان الربط في التصريح أعلاه بين الانتعاش الاقتصادي الذي يمثله سوقا الأسهم والعقار وبين انخفاض معدلات البطالة. ونحن حتى لو أمكننا أن نستوعب كيف يضخ ارتفاع سعر النفط التفاؤل في مؤشرات الأسهم، وكيف توفر هذه سيولة وقتية يتم دفنها سريعاً في مخطط ما بأرض قفر. فإننا لن نفهم كيف يؤدي ذلك كله لإيجاد الوظائف لآلاف العاطلين من الحرفيين والمهنيين بل وحملة بكالوريوس الترجمة والتاريخ وماجيستير الأدب المقارن.. اللهم إلا لو تم نقل كل واحد من هؤلاء من خانة (متسبب) إلى (رجل أعمال) بفضل البضعة أسهم التي اشتراها أو اكتتب بها.. أو فيما لو اتسعت سوق العقار النهضوي لتوظف كل أولئك مندوبين لمبعيات مكاتب العقار ومنظمين لمزادات المخططات ليهتفوا لكل ذي حظ سعيد "يستاهل.. يستاهل".
واقع الأمر أن الازدهار الاقتصادي الحالي يمثل فقاعة لن تلبث أن تزول وإن طال عمرها.. شأنها شأن (الطفرة) العتيدة قبل عقود. وما يؤسف له بالفعل هو تحوير النشاط (الاستثماري) لفعل (استعماري) تتظافر فيه الجهود لاستغلال الظرف وللاستيلاء على النصيب الأكبر من السيولة المالية في جيب المواطن العادي التي راكمتها في الأصل ثقافة مالية ضحلة لا تفهم إلا الربح السريع الخاطف، ولم تجد من يرتقي بها ويُفهم صاحبها كيف يوظف ماله ليستفيد ويُفيد وطنه في الآن ذاته.
هذه الفجوة في ممارستنا الاقتصادية شرعت الباب مفتوحاً لكل من أراد استغلال آمال المواطن العادي وتجريبها في مشاريعه الاستثمارية الفاشلة.. أو المفبركة.. والواعدة بأرباح تفوق خيالات المجانين تحت سمع وبصر الجهات الرقابية التي يفترض أن تردع وتحمي وتكفل الحق. فوضى الازدهار الاقتصادي هذه تمثلت دوماً في كل مشروع خرافي اكتظت حواسنا بإعلاناته حتى تتداول الصحافة الصفراء أخباراً متضاربة حول فرار أصحابه أو الحجز على حساباتهم بما فيها من ملايين المساهمين.. قبل أن يطل علينا مصدر أو مسؤول بخبر ظريف مفاده أن المشروع الذي أسمعت دعايته الصُم أشهراً لم يستكمل معاملاته النظامية بعد!
يقولون أن الاقتصاد السعودي يعيش أزهى فترة مرت عليه من عشرين عاماً. لكن هذا الزهو ليس يُرى في الوجوه القلقة الساعية لزيادة المدخول ولو ببضع مئات من الريالات.. ولا في المصانع التي كلّت من إنتاج (الشيبس) والبلاستيك والسماد الكيماوي.. ولا في مراكز الأبحاث ومدن التقنية التي لم يعرفها الناس لولا مثابرتها على حجب مواقع الإنترنت. هذا الازدهار الذي يعيشه الاقتصاد السعودي اليوم يجب أن يتم تكريسه لخطة تنموية طويلة المدى.. على نمط المحافظ الاستثمارية الواعدة التي تروج لها بنوكنا.. ليكون لدينا رصيد من البنى التحتية والصناعات التقنية والاستثمارت الذكية التي قد تكفل لنا مستقبلاً مريحاً بعد نضوب النفط.. مستقبل لا نضطر معه لتأجير الأميال المربعة من أراضي المخططات كمراعٍ للأبل التي ستنقلنا بدلاً من سيارت ما عدنا نملك شرائها مع انهيار سوق الأسهم الذي كانت تقود مؤشره شركات البتروكيماويات الكبرى.