لطالما أرّقني سؤال حول الانتشار الواسع لزراعة الحشيش في المغرب. إذ أخبرني نيوزيلندي مدمن أن "المغرب هو الجنة"، حيث تسير ساعات بالسيارة تصعد هضابًا وتهبط سهولا، ولا ترى على مدى البصر سوى الحشيش. تشمّه وتكيّف دون أن تتكلف حمله أو شراءه.
في هذا الصيف تمكنت السلطات المغربية من إتلاف ما يناهز 3600 هكتار مزروعة بحشيشة الكيف (الحشيش) بإقليم العرائش بشمال المغرب. علمًا أن هذه الزراعة تعتبر، أراد من أراد وكره من كره، المصدر الأول والوحيد بجانب التهريب، للدخل بهذه المنطقة للعديد من العائلات. وقد دامت هذه الحملة التطهيرية من 26 يونيو إلى 17 يوليو 2005، إذ تم تجنيد أكثر من 90 جرارًا ومئات العمال المياومين وأفراد الدرك الملكي وبعض الجنود والقوات الاحتياطية بمنطقة العرائش.
وقد قاد العمليات عن كثب وكيلين للملك (من وزارة العدل) ولجنة تقنية تحت إمرة عامل (محافظ) الإقليم عُيٌنت لهذا الغرض. وقبل بداية العمليات الميدانية قامت طائرات برش مواد كيماوية مبيدة للمزروعات الحشيش. والغريب في الأمر أن قائد المنطقة (التابع لوزارة الداخلية ) كان يحث أهالي المنطقة المستهدفة وأصحاب الأراضي التي أُتلف مزروعاتها على تحمل إطعام العمال على نفقتهم.
وزراعة الحششيش بالمغرب تغطي ما يُناهز 130 ألف هكتار وتعتبر مصدر دخل لأكثر من 800 ألف شخص. و كانت منطقة العرائش المستهدفة تستقطب كل سنة العديد من العمال الزراعيين لجني المحصول. هذه السنة حُكم عليهم بالبطالة، وبالتالي حُرموا من دخل كانوا يعتمدون عليه لتدبير أمور معاش أسرهم، لاسيما وأن جني محصول الحشيش كان يُوفر لهم عملا على امتداد شهرين أو ثلاثة أشهر.
وبعد مرور أكثر من شهرين لم يحصل سكان المنطقة على أي تعويض، وفضّل الكثير منهم النزوح إلى المدينة، لاسيما وأنهم أصبحوا ودون سابق إنذار بدون دخل يعيلون به ذويهم. كما أن الكثير منهم أحجموا عن إرسال أطفالهم إلى المدارس لعدم تمكنهم من توفير متطلبات الدراسة. و بذلك أصاب المنطقة على حين غرة شلل تام على جميع المستويات، باعتبار أن زراعة الكيف (الحشيش) كان المصدر الرئيسي والحيوي للدخل للأغلبية الساحقة لساكنة المنطقة.
وحتى الذين رغبوا ببيع أراضيهم لم يجدوا من يقتنيها منهم. و بذلك أصبحوا غارقين في ديون لأنه جرت العادة أن يقترضوا ما يدبرون به أمورهم طول السنة ليكون الأداء مع بيع المحصول، لكن هذه السنة لا محصول وبالتالي لا دخل وعدم القدرة على أداء الديون التي على عاتقهم، إنها وضعية مأسوية وجب على القائمين على الأمور النظر عاجلا كيف سيتعاملون معها لأنها أخذت تكتسي طابع مأساة إنسانية و اجتماعية واضحة المعالم.
وبخصوص اختيار منطقة العرائش دون غيرها للقيام بمحاربة زراعة الكيف (الحشيش) ، يقول المسؤولون أن هذا الاختيار قام على أساس أن زراعة الحشيش حديثة العهد بالمنطقة ولم تعرف انتشارا إلا منذ 10 سنوات خلافا للمناطق الأخرى. في حين أن سكان المنطقة يكذبون هذه المزاعم جملة وتفصيلا، وبالحجة و البرهان إذ أكد بعضهم أن هناك رسائل تم توجيهها إلى القصر الملكي بخصوص المطالبة بزراعات تعوّض زراعة الحشيش ليتمكنوا من التخلص من مضايقات ومساومات الدرك الملكي ولرجال السلطة التي كانت تخنقهم، علما أن الكثير الكثير جدًا من المسؤولين الأمنيين ورجال السلطة اغتنوا بشكل فظيع بواسطة تلك المضايقات والمساومات التي كانت لا تخفى عن الخاص والعام بل أن المسؤولين على الصعيد المركزي كانوا يحصلون على نصيبهم من الكعكة، علاوة على أن المناصب بتلك المناطق كانت تُباع و تُشترى بفعل ما تدر على أصحابها من أموال ملوثة.
ومن المعلوم أن هناك ظهير (مرسوم) ملكي بزراعة الحشيش أصدره الملك محمد الخامس سنة 1958 لسكان منطقة شفشاون، التي تجاور منطقة العرائش ولا يفصلها عنها إلا نهر. وتُنتج منطقة شفشاون المجاورة لمنطقة العرائش 60 في المئة من المنتوج الوطني للحشيش بالمغرب.
و يُقال أن هناك جملة من المشاريع الصغرى لتعويض زراعة الحشيش بمنطقة العرائش، زراعة أشجار الفواكه أو تربية النحل أو السياحة القروية، لكن يقول الفلاحون المتضررون كيف سنعيل أطفالنا و أسرنا في انتظار أن تعطي تلك الأشجار غلتها وأن يأتي السواح إن هم فعلا رغبوا في الاتيان قصد السياحة؟؟؟
علمًا أن زراعة هكتار واحد بالحشيش كانت تدر على صاحبها ما يناهز 5 آلاف دولار في حين أن الهكتار المخصص للقمح لن يدر أكثر من 600 دولار. و من المعلوم كذلك أن زراعة الحشيش تشكل مصدر دخل وعيش ليس للفلاح وحده و لكن كذلك كانت تشكل دخلا إضافيا أكيدا ، يتجاوز الرواتب الشهرية، لعناصر الدرك الملكي ورجال السلطة وهذا أمر لا يمكن نكرانه بأي وجه من الوجوه.
وقد يتساءل المرؤ كيف انتشرت زراعة الحشيش بمنطقة العرائش بهذه السرعة أي منذ 1990 حسب التصريحات الرسمية ولم تُحرك السلطات أدنى ساكن؟...يجيب القائمون على الأمور أنه لم يكن في الإمكان مراقبة المنطقة كلها، علمًا أن أغلب الأراضي ليست في ملكية الخواص و إنما هي أراضي تعود ملكيتها للسلالات الإثنية( أي أراضي الجموع و كلها تحت وصاية وزارة الداخلية ولا يمر أي قرار بصددها إلا بموافقتها و مصادقتها و مباركتها) وأراضي الأوقاف التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
وفي هذا الصدد أكد أحد المسؤولين بأن عقد عقد كراء تلك الأراضي ينص على التزام المُكتري بعدم استغلالها في زراعة الممنوعات لاسيما الحشيش، كما أضاف أنه أضاف لم يكن في إمكان الوزارة مراقبة كل الأراضي لوعورة الطرق ولقلة الوسائل، لكن ما نسي المسؤول أن يوضحه هو أن القائمين على الأمور كانوا على علم علم اليقين أن ما يجري في تلك الأراضي يشوبه الغموض وذلك لسبب بسيط وواضح للعيان وهو أن سومتها الكرائية ارتفعت بغتة و بشكل صاروخي لم يسبق له مثيل، و كان السبب واضحًا لا يخفى على أحد. إن مساحة الأرض التي كانت أجرة كرائها لا تتعدى 10 دولارات قبل 1995 أضحت بين عشية و ضحاها 800 دولار (أي 80 ضعفا). ألا يدعو هذا إلى الشك والريب ؟ لكن يبدو أن القائمون على الأوقاف والشؤون الإسلامية لم يكن يهمّهم لا حلال و لا حرام و لا الابتعاد عن الشبهة و لا إحترام مقتضيات عقدة الكراء و لا التعاليم الإسلامية في هذا الباب و إنما ما كان يهمهم آنذاك هو المدخول لا غير و إلا تنبهوا إلى الأمر و قاموا بما يلزم و لو بأضعف الايمان و هم القائمون على شؤن الدين بالبلاد.
ومن المعلوم أن الملك الراحل الحسن الثاني خصص خطابًا سنة 1993 لحث سكان الريف، المنطقة المغضوب عليها لأسباب سياسية بالأساس، أقول لحثهم عن التخلي عن زراعة الكيف (الحشيش) مقابل تخصيص إعانات لهم من تمويل الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذا لم يعط نتيجة، بل إن رجال السلطة والأمن في جملة من المناطق قد تجاهلوا هذا الطلب اعتبارا لما تدر عليهم زراعة الكيف من أرباح. ورغم أن جملة من الفلاحين قد امتنعوا عن طيب خاطر عن زراعة الكيف بأراضيهم سنة كاملة، عادوا إليها عندما لاحظوا أنهم لم يتوصلوا بأي شيء تكريسًا لما تم التصريح به علانية.
وخلاصة القول، باعتبار أن الدولة لم تهيء تدابير فعلية ترافق محاربة زراعة الكيف (الحشيش) بمنطقة العرائش فإن مئات من العائلات التي كانت تعيش من مداخيل تلك الزراعة هي الآن مثقلة بالديون ولم تجد أمامها مخرجا إلا اللجوء إلى المدن المجاورة مادامت أضحت عاجزة عن توفير ما تسد به رمقها وهذا واقع يجب الاعتراف به و السعي الحثيث إلى التقليل من انعكاساته التي يمكنها أن تكون وخيمة إن آجلا أم عاجلا.
و عموما مازال الغموض الكثيف هو سيد الموقف في هذا الصدد. و حتى و لو افترضنا أن زراعة الكيف (الحشيش) سيتم تعويضها بالأشجار المثمرة أو بتربية النحل أو بمشاريع السياحة القروية، فأين سيتم زراعة تلك الأشجار و إقامة تلك المشاريع ما دامت أغلب الأراضي ليست في ملكية من يزرعها، و حتى و لو تم زرعها متى سيتمكن الفلاح من جني ثمارها، و في انتظار ذلك كيف سيُدبر أحواله بدون دخل و لا عمل.
ألم يمكن من الأولى التفكير في هذه الأمور قبل تجييش الجرارات للقضاء على الزراعات، أم أن هذه أمور يبدو أن القائمين على الأمور لم يفكروا في إدخالها في الحسبان رغم أن مسؤوليتهم حاضرة بقوة في انتشار تلك الزراعة بالمنطقة؟