يبدو أن الهم الذي يشغل وزير المالية المغربي، "فتح الله والعلو"، هو البحث دائمًا وأبدًا عن التوازنات الماكروإقتصادية حتى ولو أدى الأمر إلى التضحية بالنمو والتنمية. وقد يقبل المرء بهذا مؤقتًا إن كان هذا الاختيار يحقق النتائج المراد تحقيقها، أي القضاء على الاختلالات ،لكن ما لا يمكن قبوله هو التضحية بالنمو وبالتنمية دون تحقيق أي تقدم هيكلي بخصوص التوازنات الماكروإقتصادية. فحسب أغلب المحللين الاقتصاديين لن ولم تتجاوز نسبة النمو 1,2 في المئة سنة 2005 بالمغرب. وبالرغم من ذلك يبدي وزير المالية تفاؤلا يفوق الحدود بقوله أن المهم هو تحقيق التقدم في تقوية التوازنات الجوهرية. إلا أن المعطيات المتوفرة من شأنها معاكسة هذا القول بالتمام والكمال.
فمصاريف الدولة سنة 2005 كانت ثقيلة وثقيلة جدا، إذ أن سياسة المغادرة الطوعية ستكلف خزينة الدولة ما يناهز600 مليون دولار برسم سنة 2005 فقط، أما صندوق الموازنة عليه صرف 600 مليون دولار كذلك لتغطية الفارق بفعل ارتفاع أسعار النفط. وهذا علاوة على وجوب أداء 150 مليون دولار سنويا ابتداءا من 2006 إلى صندوق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. وهذه كلها مصاريف أثقلت كاهل الميزانية، وستنتج لا محالة انعكاسات متتالية، بل هزات مالية. كما أن المغرب ليس في مأمن تام من الجفاف.
وهذه الاختلالات الظرفية تنضاف إلى الاختلالات البنيوية التي أضحت معروفة الآن لدى العام والخاص، لا سيما تلك المتمظهرة في عجز الميزانية التي ما فتئ يتعمق على امتداد 3 سنوات الأخيرة والذي تجاوز نسبة 5 في المئة. وهناك كذلك المديونية التي وصلت إلى ما نسبته 67 في المئة من الناتج الداخلي الخام (بأرقام سنة 2005 حسب مصادر فرنسية).
وعموما إن الإشكالية الأساسية تكمن في كون المغرب يصادف صعوبات جامة في تعبئة وتوسيع موارده (المتمدة أساسا على الضرائب) هذا في وقت تفوق مصاريفه مصاريف الدول القريبة منه من وجهة الدخل المقارن.
فمن الملاحظ أنه على امتداد 10 سنوات مثلت كتلة الأجور ما يناهز 36 في المئة من الناتج الداخلي الخام، في حين لم تتجاوز هذه النسبة 10 في المئة في البلدان المشابهة للمغرب. كما أن المصاريف العسكرية تناهز ما تفوق نسبته 4 في المئة من الناتج الداخلي الخام وهي مصاريف مازالت غير قابلة بالمرة للمناقشة بالمغرب بفعل عقلية تكرّست لدى نوابنا الذين يبدو أنهم أجبلوا على اعتبار بعض المصاريف من قبيل تحصيل حاصل ما عليهم إلا المصادقة عليها جملة و تفصيلا دون النبس بكلمة وإلا كانت وطنيتهم أو ولاءهم للوطن قاب قوسين أو أدنى.
وأغلب المحللين الاقتصاديين يرون حاليا ضرورة اعتماد حلول عبر أعادة النظر في المنظومة الضريبية، لا سيما بخصوص الضريبة على القيمة المضافة عبر تحديد نسبة موحدة والتخلي عن الإعفاءات أو التقليص منها، وتغيير منظومة الضريبة العامة على الدخل بالتخفيف على الأجور الدنيا ورفع نسبة الضريبة بخصوص الأجور الطيطانيكية، لا سيما تلك التي لا تتناسب وحركية أليات إنتاج الثروات المضافة بالمغرب، وكذلك الحرص على تدبير الشركات بشكل أكثر جدوى وفعالية. وهذه، في نظرهم، إجراءات من شأنها أن تحسن في القريب العاجل موارد الدولة. لكنها إجراءات لا تروق وزير المالية المغربي الذي يصر على القول بأن الوضع بخير و "العام زين" و بالتالي لا داعي للقلق، فالأمور سائرة نحو التحسن باستمرار، ويبدو أن هذا التحسن لا يعاين معالمه إلا هو عكس ما يلاحظه عامة العباد.
وللتدليل على ذلك يقول الوزير أن متوسط نسبة النمو على امتداد 3 سنوات بلغ 4,6 في المئة فيما بين 2001 و 2004 مقابل 1,6 في المئة بين 1997 و 2000 و يتوقف السيد الوزير عند هذا الحد كالذي يتوقف عند "ويل للمصلين" إذ أنه يخفي توضيح أسباب ذلك حيث يتجنب عمدا توضيح أن نصف عجز الميزانية سنة 2004 قد تم تمويله بفضل مداخيل الخوصصة (التي اندثرت بتمويل لم يساهم ولو قيد أنملة في إنتاج ثروات مضافة وبذلك ذهبت عوائد قطاعات استراتيجية ،ضحى الشعب من أجل إقامتها على طول سنوات خلت، هباءأ منثورا).
وبالتالي فإن التحسن الذي طبل له وغيط السيد الوزير لم يكن إطلاقا نتيجة لآلية مستديمة فعلية سوف تتكرس في اتجاه التحسن، وإنما لم يكن، وحصرًا، إلا نتيجة لموارد استثنائية و ليس دائمة انتهى مفعولها توا دون أن تترك أي أدنى بصمة في البنية الإقتصادية للبلاد أو في إحدى آليات حركيته الآنية أو المستقبلية.
وهنا بالضبط تنكشف عورة هذا التحصيل الذي تم التطويع به يمينا و يسارا بثقة في النفس فاقت الحدود. وذلك باعتبار أنه لا يمكن، وهذا بإجماع المحللين الاقتصاديين، الاعتماد على الثقل الضريبي ولا على الموارد الاستثنائية للخوصصة كبرهان على أن الأمور تسير نحو التحسن. وهذا ما أكده كذلك تقرير البنك الدولي في الموضوع، والذي أقر، باعتماد طريقة دبلوماسية غير محرجة، بأنه بالرغم من النتائج المحققة فإن عجز الميزانية لا زال قائما وبقوة وسوف يسير نحو المزيد من التعمق على المدى المتوسط على الأقل.
فهل والحالة هذه، علينا بترويج التفاؤل المفرط أم دق نواقيس التحدير للنظر فيما يجب النظر إليه وإعادة النظر في ما يستدعي إعادة النظر؟ هذا هو السؤال.