بين يديّ صورة لمقال في جريدة اسمها The Whig Standard، وهي الجريدة المحليّة لـ (كِنغستُن)، البلدة الصغيرة في شرق أونتاريو بكندا. العدد صادر يوم 10 سبتمبر 1983. والمقال.. للمفاجأة.. يتحدث عن العاصمة الرياض.. "مدينة المليار دولار" كما أسماها الكاتب ووصفها بالتي "ترفع خِمار التقاليد عن وجهها شيئاً فشيئاً "
لماذا اهتمت جريدة كندية بسيطة بالرياض قبل 24 سنة؟ وكيف كانت صورتنا لدى الرأي العام الغربي في ذلك الوقت؟ قبل بعابع الإرهاب وصدامات الحضارات وصور "الدعاية السلبية" الأخرى؟
يقول الكاتب أن عاصمتنا تشهد طفرة عمرانية هائلة لتتحول إلى مدينة عصرية براقة. مدينة تستقطب أعتى الخبرات الهندسية والإنشائية في العالم بغرض تغيير وجهها الصحراوي إلى آخر تغمره الطرقات الفارهة والواجهات الرخامية. الرياض كانت تحتفل آنذاك بمطار دولي خرافي، وبحي ديبلوماسي فاره، وبمشاريع متوالية تُوفر فرص العمل لأفواج من الوافدين والعمالة اللازمة لتغطية النقص في الأيدي العاملة الوطنية. يوضح المقال أن السعوديين يعانون من نقص في الخبرات العلمية والتقنية أيضاً. وأن آمالاً كثيرة معقودة على الأجيال الناشئة الشغوفة بالتكنولوجيا للإنطلاق بالبلاد إلى ذروة من العصرنة والحداثة. يربط الكاتب بين هذه النهضة العمرانية والبشرية المرتقبة وبين مداخيل النفط القياسية التي تتيح مجالاً غير مسبوق للرياض على خارطة المدن العالمية الكبرى.
ماذا أيضاً؟ يتكلم المقال إياه عن إشكاليات الحداثة. وكيف أن الرياض، كمثال للحاضرة السعودية النامية، تعاني بين الحاجة للأجانب وغير المسلمين متعهدي عقود التنمية، وبين الثقافة التقليدية المتهيبة من كل أجنبي. بين مظاهر المدنية السطحية، وبين غياب دور السينما ومنع النساء من سواقة السيارات. ويختتم الكاتب مقاله –المنشور في 10 سبتمبر 1983- بالتساؤل حول قدرة أعمال الإنشاء الرهيبة على تغيير العقليات والأذواق بالسرعة التي تغيّر بها المنظر عبر الأفق.
* * *
حين تقرأ هذا المقال الكَندي لأول مرة، فإنك لا يسعك إلا أن تتحقق من التاريخ بين فينة وأخرى. أن تتأكد من أن هذا الكلام.. هذا الذي تسمعه أيضاً وتقرأه اليوم عبر الصحف ومواقع الإنترنت والقنوات الفضائية.. هو نفسه قد قيل وطرح ونوقش قبل 24 سنة.. قبل ربع قرن!
ستحس بالدوار وأنت تفكر أننا.. وسوانا.. أولئك المحسوبون في خانات الأعداء أو الأصدقاء لا فرق.. أننا كلنا نخوض ونفكر في ذات التساؤلات والهموم. وأننا.. لازلنا ومنذ ذلك الوقت.. ننتظر أن يهل علينا "المستقبل المنظور" بإجابات لتساؤلاتنا "المصيرية جداً" التي لم تتغير.
وأنت تتأمل فيما نشرته جريدة بلدة (كِنغستُن) الصغيرة قبل 24 سنة عن الرياض، فإنك سينتابك إحساس بـ (الدوران حول المحور). ستتذكر لا شعورياً الـ (بُومَارَانْغ). تلك الأداة المعقوفة التي ابتكرها سكان أستراليا الأصليون.. تطير لتضرب هدفها ثم تلف في الهواء لتعود ليد راميها.. أو لتصيبه في وجهه إذا كان (غشيماً) لا يجيد استعمالها.
كرد فعلٍ طبيعي فإن عقلك سيعقد مقارنات شتى بين الآن والماضي. لا شعورياً ستتفكر في (رابغ) وفي تلك الجامعة التي في (ثوَل). ثم ستتأمل في حال الجبيل و (كليّة البترول) والرياض وعلاقتنا بـ (الآخر) سنة 83. كم كان سعر برميل البترول سنة 1983؟ كم هو اليوم؟ ما الذي أُنجز بين الفترتين. أنجز الكثير بلا شك. لكن ما قيمته؟ هل نحن مكتفون وراضون؟ هل شكلنا منذ ذلك الزمان (علامة فارقة) حقاً على المشهد العالمي؟ لماذا؟ ولماذا نجزم اليوم بأننا سنحدث تغييراً حقيقياً عطفاً على المعطيات الراهنة.. التي لم تتبدل كثيراً خلال الربع قرن الماضي!
لماذا تحرك سوانا بعدنا بدهور وسبقونا؟ من هو المسؤول عن هذا الالتفاف حول الذات والعودة لذات النقطة وذات الأولويات وذات الأحلام خلال 24 سنة وأكثر؟
تعالوا نلعب مع التاريخ لعبة. تعالوا نحتفظ بالمقالات التي يكتبها الآخرون هنا وهناك عنّا هذه الأيام. عن مشاريعنا الاستثنائية الطموحة وخططنا لتغيير وجه بلادنا ووجه العالم.. المدعومة بازدهارنا وبمداخيل نفطنا القياسية. فلنلتق -إن كان لنا عمر- بعد 24 سنة من اليوم ولنتأمل في الذي صار ماضياً وفي الذي سيكون حاضراً. أعدكم بأننا على أية حال سنضحك كثيراً. سنضحك إما رضى وفخراً.. وإما على ذلك الذي عادت البومارانغ وأصابته في منتصف وجهه.