نحن اليوم في أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول)، من سنة 2008م، ولا زال الانفجار الماليّ الذي دوّى منذ عدة أشهر، في الأسواق المالية، في الولايات المتحدة الأمريكية، وانتشرت دوائره في العالم كله، كدوائر الزلزال، فتفاوتت آثاره بين بلد وآخر، بحسب تماسك بنيانه المالي، أو ضعفه؛ لا زالت "توابعه" و"ارتدادته" تتوالى، وتظهر هنا وهناك. هذا الزلزال الماليّ، صدّع جدران البنوك والمؤسسات المالية الكبرى، فأخرج ما فيها من سيولة نقدية، ومن مدخرات على مدى عشرات السنوات، فسبب أزمة مالية عظيمة، توصف بأنها عالمية.
هذه الأزمة، لا زالت تجرّ أذيالها الطويلة، ونخيّم بظلالها السوداء الداكنة، وتغطي كثيراً من دول العالم، وقد تمتد آثارها سنة أخرى - على الأقل - كما هي أرجح التوقعات الاقتصادية.
هذه الأزمة، لم تسلم منها دولة من الدول، بتأثير كبير أو قليل؛ لأن البنوك في العالم - ولا سيما التقليدية الربوية - ترتبط بشبكة عنكبوتية، لا يزال يحوكها مصاصو الدماء منذ عقود عدة، ليتمكنوا من التصرّف بمحافظ ومدخرات غيرهم، كما يتصرفون بمحافظهم ومدخراتهم الشخصية، أو أزيد.
وأقول (أَزْيَد)؛ لأنهم بالفعل أصبحوا يتصرفون بأموال وهمية مفترضة، إنما هي أرقام مسطرة على الورق، أو مخزّنة في ذواكر الحواسيب، وتصدر بها سندات سهمية، وبطاقات بنكيّة، ائتمانية وغير ائتمانية، يشتري بها حاملوها ما يشاؤون من العقارات والسلع، ويبيعونها، بأثمان فاحشة، ويوماً بعد يوم تعجِز البنوك عن السداد؛ لأن ما فيها أُفرغ في جيوب أو حسابات المقترضين المستثمرين، وأصبحت الأسهم ذاتها - ولا سيما العقارية منها - تباع مرات ومرات، حتى قبل وجودها أو وجود أصولها، أو قبل تمام بنيانها أو إنتاجها، ويتكرر الاقتراض أو القرض من المؤسسة المالية الواحدة، عدة مرات، للعقار الواحد، في مدة يسيرة، وكل واحد ممن دخل هذه اللعبة يبتغي الربح الأكثر، والفائدة الأكبر، والنتيجة هي: أن يربح أحد هؤلاء اللاعبين - وهو الذي اقتنص الفرصة، وخرج من اللعبة قبل انفراط عقدها - ويخسر الباقون، كلهم أو معظمهم، فكأنهم كانوا جميعاً في لعبة قمار، وليس في بيع وشراء، وإجارة وتجارة.
فأصبحنا في نادي قمارٍ دوليّ، كما عبّر بعض الاقتصاديين، وبعض السياسيين من قبل(<!--[if !supportFootnotes]-->[1]<!--[endif]-->).
ولُبّ الأزمة أنّ أسعار العقارات تضاعفت، أضعافاً كثيرة، وغالى أصحابها في أثمانها، ليتمكنوا من سداد الأقساط الكبيرة، المترتبة عليهم للبنوك، وعقاراتهم مرهونة لدى هذه البنوك، فعلق الجميع في الشبكة؛ إذْ لم يعد الأفراد المستهلكون قادرين على سداد الأقساط إلى مالكي العقارات؛ لأن البنوك توقفت عن الدفع لهم، وعجز المستثمرون عن إكمال ما بدؤوه من أبراج وناطحات سحاب، وليس لهم حق التصرّف بها، لأنها مرهونة للمصارف، والمصارف أصبحت عاجزة عن تقديم السيولة النقدية لإكمال البنيان، أو لإنتاج السلع، التي بيعت عدة مرات قبل أن يتم إنتاجها، فأصبح الجميع في حالٍ تشبه الشلل، أو ما يسمّونه الركود الاقتصادي(<!--[if !supportFootnotes]-->[2]<!--[endif]-->)؛ حيث ينتظر كل واحد الآخر ليبادر بالحل من جهته، عن طريق تنازله عن حقه، كله أو بعضه، أو يعلن إفلاسه، فيتقاسم الباقون ما بقي من آثار دماره أو حطامه، أو تركته إن كان قد مات بالأزمة القلبية، أو الجلطة الدماغية، نتيجة الأزمة المالية.
وتنادى "الكبار" في العالم، الذين يخشون على مصالحهم أو مصالح دولهم "العظمى"، مُصْبحين ومُمْسين؛ كيف ننجو من هذه الكارثة، التي حلت في ديارنا أو قريباً منها، وبدأت النيران تأكل ما قدمنا لها؟
ووضعوا حلولاً مستعجلة، هي أشبه بمسكنّات الألم، وأهمها: (ضخّ) النقود في البنوك الكبرى، المشرفة على الهلاك، لعلها تحافظ على الرمق الأخير فيها. ولكن إلى أي مدىً تستطيع الدول الاستمرار بهذا الضخ في العروق الجافة للمؤسسات المالية المحتضِرة؟.
أليس ما يضخّونه هو من مدخرات الدول، لدى البنوك المركزية فيها، وهم بحاجة إليها للتنمية ولدفع رواتب الموظفين لديها؟
ومهما قيل في هذه الأزمة من تكهنات من قبل بعض الناس، بأنّها مفتعلة من قبل دوائر سياسية أو اقتصادية معينة، ليجنوا ثمارها؛ فإن حقائق كثيرة واضحة يلمسها القاصي والداني، ومنها غلاء الأسعار، والتضخّم النقدي، وإفلاس كثير من الشركات والبنوك العملاقة، وضعف حركة البيع والشراء لغير الضروريات، في الدول الكبرى خاصة، كما تصلنا الأخبار المتواترة بذلك، فلا يمكن إنكار هذه الحقائق أو تجاهلها.
* * *
بعد ما سبق من تقديم وعرض، لو وقفنا وقفة تأمّلية قصيرة، لاكتشاف أسرار المشكلة، وأخذ العبرة مما حلّ بالقوم، لوجدنا الأمر يسيراً علينا –نحن المسلمين-؛ لأننا نعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ كلّ أمة أو قوم يحيدون عن النواميس العَقَديّة والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، التي رضيها الله للبشر، سينال عقابه -عاجلاً أو آجلاً- وسيسقط في شرّ أعماله.
ومهما مدّ الله عزّ وجلّ للظالمين في الأرض، فلا بدّ من أن يرينا فيهم من الآيات، ما يكفينا للاتعاظ والاعتبار.
وإنّ أهمّ القوانين التي يخالفها النظام الاقتصادي العالمي، هي قوانين العدالة الاقتصادية؛ فنجد الأقوياء يحتالون على الضعفاء، لاستفراغ ما في جيوبهم، ونجد الأغنياء طامعين بأقوات الجياع والفقراء، فيبتكرون من أساليب الاحتيال والطمع والجشع ما يحقق لهم ما يبيّتون.
ومن أخطر هذه الأساليب أكل الربا، الذي يسمونه الفائدة، والتصرّف بأموال الآخرين دون تفويض، والشركات الوهمية، وبيع ما لا يملكون، وبيع ما لا يقبضون، وما لا يضمنون، ...الخ.
وقد نادى بعض الاقتصاديين الغربيين، بأنّ الحل الوحيد للخروج من الأزمة، هو: أن تتناقص فوائد الديون حتى تصبح صفراً؛ لأنّ أساس المشكلة هو القروض الربوية والفوائد المترتبة عليها، حيث أصبحت الفوائد في كثير من الأحيان أكبر من القرض نفسه.
فسبحان الله العظيم القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [ فصلت: 53 ]. فدين الله هو الحق، الذي لا حق سواه، حيث لا ربا، أي لا فائدة بمفهومهم، أي أن تكون صِفراً(<!--[if !supportFootnotes]-->[3]<!--[endif]-->).
فها هم يكتشفون أخطاءهم بطريقة علمية، وهذا من آيات الله تعالى في الآفاق والأنفس.
وهذا هو الحلّ لأزمتهم المالية الربوية، التي طال غبارها كلّ جيب في العالم، ولا حلَّّ لهم سواه؛ لأنّ الله تعالى قال: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [ البقرة: 275]، وقال: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [ البقرة: 276]، وقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [ البقرة: 275]. وها هم يتخبطون في أزمتهم.
ولأنّ الرسول r وضع لنا قواعد البيع الصحيح، وقواعد التجارة الحقة، التي يستفيد منها جميع البشر، دون أن يكون هناك خاسر حقيقي، أو ظالم ومظلوم، ومن هذه القواعد والأسس:
1- تحريم الربا بنوعيه، الفضل والنسيئة، كما في قول الرسول r : " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ").)<!--[if !supportFootnotes]-->[4]<!--[endif]-->
وهذا الحديث الشريف يشتمل على قاعدتين ماليتين عظيمتين:
الأولى: وجوب التماثل، في الكيل والوزن ونحوهما، إذا كان جنس البدلين واحداً، في الأصناف الستة المذكورة وأشباهها، إضافة إلى التقابض في المجلس (يداً بيد).
الثانية: جواز الاختلاف والتفاضل في الكيل والوزن ونحوهما، إذا اختلف الجنس في البدلين، مع بقاء شرط التقابض في المجلس.
2- ألا يبيع ما لا يملك، وما ليس عنده، وأن يأخذ ربح ما لا يدخل في ضمانه. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عتاب بن أسيد إلى أهل مكة أن أبلغهم عن أربع خصال أن لا يصلح شرطان في بيع، ولا بيع وسلف، ولا بيع ما لا يملك، ولا ربح ما لا يضمن.(<!--[if !supportFootnotes]-->[5]<!--[endif]-->) وفي هذا الحديث شريف أربعة قواعد مهمة، تحقق العدالة في التعامل، والنظام الاقتصادي العالمي يخالف معظمها.
3- تحريم بيع الطعام ونحوه حتى يقبضه أو يستوفيه. عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يقبضه". قال ابن عباس: فأحسب كل شيء بمنزلة الطعام(<!--[if !supportFootnotes]-->[6]<!--[endif]-->). وعن حكيم بن حزام t قال: قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعا؛ فما يحل لي منها، وما يحرم علي، قال: "يا ابن أخي، إذا اشتريت منها بيعا، فلا تبعه حتى تقبضه"(<!--[if !supportFootnotes]-->[7]<!--[endif]-->). وهذه الرواية توافق ما ذهب إليه ابن عباس، من عموم النهي، وعدم اختصاصه بالطعام.
4- النهي عن بيع الكالئ بالكالئ. يعني الدَّين بالدَّين. عن ابن عمر –رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (<!--[if !supportFootnotes]-->[8]<!--[endif]-->).
* * *
وفي الختام : أتذكر قول أحد المستشرقين في القرن العشرين: "لو كان محمد (صلى الله عليه وسلم) بيننا لحلّ مشكلات العالم، وهو يشرب فنجاناً من القهوة"، فأقول: صدق هذا المستشرق في توقعه، ولكن دون شرب القهوة، فهذه الأحاديث الشريفة التي أوردتها آنفاً، وأمثالها، قالها الرسول r دون تكلّف، ودون دراسات اقتصادية معمقة، وإنما بوحي من الله، اللطيف الخبير، العليم بخلقه، وبما يصلحهم؛ تحلُّ فعلاً مشكلات العالم الاقتصادية والمالية، بكل يُسر، ودون تعقيد؛ لأن مشكلات العالم المالية سببها الرئيس مخالفة هذه المبادئ والقواعد، التي مرت، وكذلك مشكلات العالم الاجتماعية والصحية وغيرها، سببها الإعراض عن هدي الرسول الأعظم، صلى الله عليه وسلّم.
فلله دَرُّ إسلامنا، ما أعظمه، وما أعدله، وما أيسره، وما أشمله، وما أحوجنا إليه.
منهم رئيس وزراء ماليزيا السابق، مهاتير محمد، قال بعد الأزمة المالية التي عصفت بدول جنوب شرق آسيا ، قبل بضع سنوات: نحن نعيش في نادي قمار دولي، يربح فيه المهرة والمحتالون، ويخسر الآخرون. وقد كانت الأزمة المالية الآسيوية مفتعلة من قبل أصحاب رؤوس الأموال الغرباء عن تلك البلاد، بهدف تحطيم اقتصادات ما يُسمّى النمور الاقتصادية الآسيوية. وما فعلوه بغيرهم حلّ بهم الآن، بافتعال من غيرهم، أو بغير افتعال.
هذا التحليل للأزمة هو ما فهمناه، مما قرأنا من مقالات، وسمعنا من برامج خاصة، قدمه كثير من الخبراء والمحلّلين الاقتصاديين.
وقد كانت الحكومات الأمريكية والأوروبية تقوم بتخفيض نسبة الفائدة، عدداً من النقاط، كلما حزبهم أمر اقتصادي، أو حلت بهم ضائقة مالية صغيرة. ولكن لم يعد يُجدي هذا الحل، بل لا بُدّ من إلغاء الفائدة، قليلها وكثيرها، والعودة إلى النظام الاقتصادي الإسلامي، القائم على المشاركات، واقتسام الأرباح، أو تحمّل الخسائر، من جميع الأطراف. وقد أصبحت كثير من الدول الغربية تُفكّر جدياً، في إدخال النظام الإسلامي اللاربوي في أنظمتها الاقتصادية، وتسمح بإنشاء المصارف الإسلامية، كما حدث في بريطانيا، قبل سنوات، وستحذو فرنسا حذوها، ثم تتلوها دول أخرى، وربما الاتحاد الأوروبي بأسره، وهذا ما نأمله، حتى تظهر لهم آيات الله جلية.
[صحيح مسلم ، برقم 1587، ج3 ص1211]
[سنن البيهقي برقم (10836) ، وانظر نحوه في مصنف عبد الرزاق برقم ( 14215)، ج8 ص39]
[مصنف عبد الرزاق برقم ( 14210)، ج8 ص38]
[مصنف عبد الرزاق برقم ( 14214) وانظر المعجم الكبير للطبراني بالأرقام (3096- 3100)، ج3 ص194]
[سنن الدارقطني برقم 269 و 270]