لستُ بصدد الحديث عنْ أُسس عمَل البنوك التقليديَّة الرِّبويَّة، ولا حتى البنوك المصرفية الإسلامية، فهذا ليس فنِّي، ولا ناقة لي به ولا جمل، ولكنَّني سأُسَلِّط الضوء هنا على قضيَّة أراها من الأهمية بمكان لمستقبل المصارف المتوافِقة مع أحكام الشريعة الإسلامية وثقافتها، في ظلِّ المتَغَيِّرات الاقتصادية العالميَّة، وتَتَمَثَّل في استقطاب الكوادر البشريَّة "القيادية" العاملة في المصارف التقليدية؛ لتعمل على قيادة المصارِف الإسلامية، وهنا - وفي هذا السِّياق - أوَدُّ عرْض هذه الأسئلة التالية على سبيل المثال لا الحصْر:
هل يلتزم هذا القيادِي بأحكام الشريعة الإسلامية، في البُعد عن جميع التعامُلات والمعامَلات غير المتوافقة مع أحكام الشريعة؟
هل يأخذ آراء هيئَة الفتوى والرقابة الشرعية بصورة جدِّيَّة؟
هل يتأثَّر هذا المصرف الإسلامي بأيديولوجية قياديَّة جديدة، قد تُؤَثِّر سَلْبًا على ثقافته الإسلامية؟
هل يهتم هذا القيادي بمنْهج تطوير الموارد البشَرية؛ لِمُواجهة متطلّبات العمَل بالمؤسسات المالية الاستثمارية الإسلامية؟
هل يعي هذا القيادي تفسير قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [سورة المائدة: 5]؟
هل يكون دقيقًا في الضوابط والمعايير المحاسبيَّة للعمَليَّات المصرفيَّة الإسلاميَّة، ومنهجيَّة التمويل المصرفي الإسلامي ويلتزم بها؟
ما طبيعة دوره في تطوير الصناعة المالية الإسلامية؟ وما الأُسُس التي يسْتَنِد عليها في ذلك؟
أنا لا أتحدَّث هنا عن الخبرات المصرفيَّة التراكميَّة لهؤلاء القادَة، ولا أتعَرَّض لإمكاناتهم المحترفة في هذا المجال، وبالتأكيد لا أتطَرَّق إلى قُدراتهم على قِيادة البنوك الإسلامية، وأخيرًا: لا أتَجَرَّأ على ملامَسة نواياهم القلبيَّة التي لا يعلمها إلى مَن أمر بتحريم الربا، وحُسن الظن، وإخلاص النية، ولكن أتكَلَّم عن نظامِهم الفِكْري القيادي وأنماطه الفكريَّة، التي يستخدمونها أثناء العمل، ونقله منَ المؤَسَّسات الماليَّة التقليدية إلى المصارِف الإسلامية، وأثر ذلك عليها.
لكلِّ قياديٍّ قيمٌ يؤْمِن بها، ورؤية قياديَّة يتبنَّاها، وإستراتيجيَّة يعمل من خلالها، ولا شكَّ أنَّ ذلكَ يُوَثِّر على بيئة العمَل بشكْلٍ أو بآخر، وحتى أكون أكثر دقَّة؛ يُعرِّف د. خالد الجريسي - مؤلِّف كتاب: "القيادة الإداريَّة من المنظور الإسلامي والإداري" - القيادةَ الإدارية على أنها: "عملية التأثير الإيجابي في نشاط مرْؤُوسين، أفرادٍ وجماعات؛ بهدَف تفعيله، مع توجيه ذلك النَّشاط نحو تحقيق هدَف مُعَيَّن".
وعند تحليل ذلك بصُورة موضوعيَّة، وربطه بواقع الأشياء، نرى أنَّ هذا القيادي سوف يُؤَثِّر بصورة مباشِرة، وغير ذلك على النشاط الإنساني والعملي لهذا المصرف الإسلامي، والذي يتمَثَّل في طريقة تواصُل وسلوكيات العاملين به من جهة، ومعارفهم ومهاراتهم من جهة أخرى؛ ليشكل منها بعد فترة زمنية ثقافة جديدة، يتبنَّاها المصرف عند تنفيذ المهام المطلوبة، وفي جُلِّ تعامُلاته اليوميَّة؛ سواء أكانت الداخلية - أي: بين الموظَّفين أنفسهم - أم الخارجية، والمتمَثلة في العُملاء والمستثمرين.
أسوق هذا الكلام من باب الحيطة والحذر، وليس من باب السلبية، وغلْق الأذهان، فلا أودُّ أن أرى مؤسساتِنا الماليةَ والاستثمارية الإسلامية وقد أصبحتْ "شِبْه" إسلامية، ولا أُحَبِّذ تمييع العمل المصْرفي الإسلامي حتى يحاكي الحوكمة، والعمل المؤسسي المالي العالمي، خصوصًا إذا ما علِمنا أنَّ هناك حاجة حقيقية وماسَّة لتطوير مؤسسة المال الإسلامية وخدماتها.
من جانب آخر - وهذا مهم جدًّا - نستطيع الاستفادة مِن هؤلاءِ القياديين، الذين يعمَلُون في البنوك التقليدية على الارتقاء بالمؤسَّسات الإسلامية، من خلال دمْجِ معارفهم القويَّة، ومهاراتهم المحترفة مع مَن يعمل أصلاً في المؤسَّسات الإسلامية، من قادة، وتحت مظلَّة هيئة الفتوى والرقابة الشرعية، وبعد ذلك أعتَقِد أنَّ هذا المزيج القيادي والإداري والتخصُّصي، الذي يتوافَق وأحكامَ الشريعة - سوف يرتقي بالعمل المؤسسي الإسلامي؛ بل سوف يقوم على تطوير نُظُم العمَل المؤسَّسيَّة الإسلامية ومنتجاتها المبارَكة وتحسينها، مُفضلاً بأن يتبنَّى الجميعُ النهج الإسلامي بوصفه "دِينًا"، قبل أن يكونَ طريقة لجمْع المال واستثماره، من خلال عمل مؤسسي وقيادة وقادة.