يمكن القول بأن تقويم البرامج العامة والمحلية هو حجر الزاوية في أداء الإدارة العامة والمحلية وتطوير هذا الأداء، بيد أن العديد من وحدات الإدارة العامة والمحلية العربية تعاني في الأغلب الأعم من مشكلات رئيسية في إجراء تقويم علمي فعال للبرامج العامة والمحلية، ولوحظ أن هذه المشكلات قد تعود بالأساس إلى عدم وجود إدراك بالقدر المنشود لدى الكثير من العاملين في الإدارة العامة والمحلية لمفهوم التقويم العلمي وأسسه وآلياته؛ ومن ثم يجدر بنا في هذا المقال محاولة إلقاء الضوء بشكل سريع على الإطار المفاهيمي لتقويم البرامج العامة والمحلية.
بداية فإن التقويم في اللغة (حسبما جاء في معجم المصطلحات الفقهية، والمعجم الوسيط، والمعجم الرائد، وغيرها من المعاجم) لها عدة معان، منها: أحسن تقويم (أكمل تعديل وأحسن صورة)، وتقويم النصاب (وضع قيمة له)، وتقويم السنين (حساب الزمن بالأيام والشهور)، وتقويم البلدان (تعيين مواقعها وبيان ظواهرها)، وتقويم السلعة (تحديد البدل العادل عنها)، وتقويم النقود (إعادتها إلى قيمتها الأصلية)، وتقويم الأسنان (إصلاح إعوجاجها)، وتقويم السلوك (تعديله).
أما بالنسبة للمفهوم العلمي لتقويم البرامج والمشروعات، فهناك عدة تعريفات كل واحد منها يشير إلى استعمال مقياس أو معيار قيمي لنتائج برنامج ما، حسبما أشار Dunn William في كتابه Public Policy Analysis: A Introduction، بينما يعرف البنك الدولي World Bank التقويم على أنه عملية دورية لتقويم مدى جدوى وأداء وكفاءة برنامج أو مشروع ما وتأثيره فيما يتصل بالأهداف الموضوعة، وهناك تعريف آخر للتقويم أشار إليه Blaine Worthen وآخرون بأنه استخدام مقاييس أو معايير ذات سند علمي لتحديد قيمة برنامج ما ومدى فاعليته وذلك طبقا لهذه المعايير؛ وهكذا فإن التقويم يستخدم مناهج وطرقًا بحثية تتضمن تحديد معايير للحكم على جودة برنامج، ثم جمع كافة المعلومات عن هذا البرنامج لتطبيق هذه المعايير عليه؛ وذلك من أجل التوصل إلى توصيات تهدف إلى الوصول بالبرنامج إلى أعلى درجات الفاعلية.
ويمكن ملاحظة أن معظم التعريفات متداخلة، وترتكز على عنصر هام، وهو التوصل إلى حكم ما بشأن قدرة برنامج ما على تحقيق أهدافه؛ وذلك استنادا إلى أسس علمية، بيد أن تعريف البنك الدولي يضيف عنصرا هاما وهو دورية ذلك التقويم؛ الأمر الذي يقتضي إجراء تقويم أثناء عملية التنفيذ وذلك من أجل المبادرة بتصحيح أي خطأ أولا بأول، ويثير ذلك الأمر بدوره موضوعا هاما وهو فعالية الرقابة على التنفيذ وإجراء تقارير دورية علمية، وهي عملية في غاية الأهمية وتتطلب جهدا كبيرا ومنظما.
ويعد التقويم عملية مهمّة لتفعيل إدارة المؤسسات العامة والمحلية؛ إذ في وسعه أن يلعب دورا مهمّا على أربعة مستويات : أولها: -التأثير في عملية تحليل السياسات العامة وصياغتها، وثانيها: -تحسين عملية تخصيص الموارد وإعداد الموازنة، وثالثها: -تحسين برامج ومشاريع الاستثمار وذلك من خلال إسهام عملية التقويم في إحداث ثقافة للإنجاز داخل المؤسسات الحكومية المحلية، ورابعها: -مراجعة المهام الرئيسية للمؤسسات العامة المحلية ومدى جدواها وأدائها وتكلفتها؛ مما قد يؤدي إلى إعادة تنظيم هذه المؤسسات.
ومن ثم تهدف عملية تقويم المشروعات العامة والمحلية إلى التوصل إلى عدة نتائج، أبرزها: التحقق من أثر الخدمات المحلية على متلقيها، وتحسين آليات تقديم الخدمات المحلية لتصبح أكثر كفاءة وأقل تكلفة، والتأكد من أن ما يتم تنفيذه فعلا هو ما تم التخطيط له، ويتم هذا فى حالة إجراء تقويم أولي، وتوضيح أهداف البرنامج المحلي وعملياته وأنشطته ونتائجه والتأكد من مدى ترابطها ومدى أفضليتها بالنسبة للبدائل الأخرى؛ وذلك لمساعدة المخططين على الدقة في الاختيار والتأكد التام من مدى فعالية البرنامج المحلي في تحقيق أهدافه المنشودة.
ويمثل التقويم (كما أوضحت د.سلوى جمعة)المرحلة الأساسية الأخيرة من مراحل تحليل السياسات بعد المراحل الثلاث الأولى وهي: طرح السياسات ووضعها في جدول الأعمال، ثم صياغتها، وبعد ذلك صناعة القرار الخاص بها؛ حيث يؤدي التقويم (كما أشار Dunn William) عدة وظائف رئيسية في عملية تحليل السياسات أهمها: هو تقديم معلومات صحيحة تكشف عما تم تحقيقه من الأهداف المنشودة، كما يستخدم التقويم في إجراء تعريف جديد أو مراجعة لبدائل سياسات ما؛ وذلك من خلال توضيح مدى ضرورة التخلي عنها واستبدالها بأخرى.
وثمة مؤشرات أساسية متداخلة لعملية التقويم (كما أوضح Dunn وآخرون) يمكن التوصل إلى كل مؤشر من خلال الإجابة على تساؤل رئيسي، وذلك على النحو التالي: تقويم الفعالية Effectiveness (يتطلب ذلك الإجابة على تساؤل: هل تم تحقيق النتائج المستهدفة؟)، وتقويم الكفاءة Efficiency (يثير تساؤلا بشأن مدى حجم الجهود اللازمة لتحقيق النتائج المستهدفة)، وتقويم الكفاية Adequacy (يتطلب الإجابة عن تساؤل:إلى أي مدى يسهم تحقيق النتائج المستهدفة في حل المشكلة المستهدف حلها)، وتقويم العدالة Equity (يشير إلى تساؤل: هل الأعباء والمنافع موزعة بشكل عادل بين الأطراف المختلفة ذات الصلة بالبرنامج المحلي؟)، وتقويم الملائمة Appropriateness ( يتم من خلال الإجابة على تساؤل: هل النتائج المستهدف تحقيقها مفيدة؟)، وتقويم الاستجابة Responsiveness (أي هل تستجيب مخرجات برنامج ما لحاجات وتفضيلات الأطراف المستهدفة؟)، وتقويم القدرة على الاستمرارية Sustainability (أي هل يمكن الاستمرار في تنفيذ برنامج ما أم يتعين تعديله؟)
وأخيرا، تتعدد النماذج العلمية لتقويم البرامج العامة والمحلية، ويتوقف استخدام أي من هذه النماذج على عدة عوامل، أبرزها توقيت إجراء التقويم؛ حيث عند إجراء التقويم قبل بداية أو مع بداية تنفيذ البرنامج المحلي يتعين استخدام نموذج الإطار المنطقي logical framework، وعند إجراء التقويم أثناء تنفيذ البرنامج يتعين استخدام نموذج تقويم سير العملية process evaluation، وعند إجراء التقويم بعد انتهاء البرنامج المحلي مباشرة يتطلب استخدام نموذج تقويم النتائج outcomes based evaluation، وعند إجراء التقويم بعد مرور فترة ليست بالقصيرة على تنفيذ البرنامج المحلي يتطلب الأمر استخدام نموذج تقويم الأثر impact based evaluation .
التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي.