إن ما تعرفه الحركة الجمعوية في الوقت الراهن من دينامية وتطور، يفرض تبني سياقات معرفية جديدة، قادرة على الإجابة التنظيمية المتعلقة بالإشكاليات التي أصبحت تطفو على السطح، وتؤثر إيجابًا وسلبًا على الممارسة الجمعوية، ومن أبرزها: تلك المرتبطة بمسارات تداول المعلومات والقرارات وكيفية إشراك الجميع في عمل أي هيكل جمعوي قائم. علاوة على ذلك، مشكل التوثيق الذي يعتبر الداعم الأساسي، لتلك المعلومات والقرارات والسند الرئيسي لتراكم التجارب على مستوى الجمعيات. إن ذلك يحتم ضرورة الاستناد على نظام جديد لتسيير المعلومات والقرارات، مع كل ما تحمله في طياته كلمة (نظام) من دلالاتٍ ومعانٍ عميقة، من قبيل المَأْسَسَة الفعالة والنَمْذَجة الإيجابية، وما توحي به صيغ التعامل المحوكم من التدبير الجيد والتسيير الرشيد والأداء الشفاف والغاية ذات المصداقية والرؤية المتسمة بالنجاعة والكفاية. هكذا، ومن أجل ضمان فعل جمعوي يتسم بالريادة، والتأسيس لأخلاق جمعوية سامية، فإنه من المفروض على التنظيمات الجمعوية الأخذ بالمبادىء الكبرى والقيم الأساسية للحكامة الجيدة، والحرص على تطبيقاتها العملية، من حيث هياكلها من جهة، ومن حيث تسييرها من جهة ثانية.
وعلى ضوء كل ذلك، يتعين على الجمعية التواقة لتحقيق أهدافها وإنجاز برامجها، من منطلق تبينها للحكامة الجمعوية في صيرورتها المستدامة، أن تعمل وبحرص مستمر ومتواصل على ما يلي: أن تعقد اجتماعات هياكلها(الجمع العام، مجلس الإدارة، اللجان...) بشكل دوري ومنتظم. أن تراقب وتحاسب أجهزتها عبر القيام بالافتحاصات والتدقيقات اللازمة، إداريًّا وماليًّا. أن تقوي ديمقراطيتها الداخلية من أجل ضمان استمرارية مؤسستها بكل شفافية، وبالتالي تعزيز أسس بقائها المستند على ترتيب أمور بيتها الداخلي، وذلك قبل الانفتاح على محيطها الخارجي. أن تأخذ بعين الاعتبار انتظارات ومتطلبات الفئات المستهدفة ورغبات وطموحات أعضائها، عند تحديد الأهداف والإستراتيجيات، من منطلق أن الأبعاد الاستشرافية هي الكفيلة بتوطيد اللبنات المتينة للصرح الجمعوي. أن تراعي مبادىء سيادة القانون في إختياراتها وحل المشاكل التي يمكن أن تعترض عملها من خلال القيام بالتشخيصات الضرورية للاحتياجات وبذل الجهود الحثيثة لتلبيتها، بعيدًا عن كل ما يمكن أن يكدر صفو كينونتها الوجودية. وإجمالًا، وعلى ضوء هذه الخطوات يمكن بناء تصور تحليلي يؤكد مدى استجابة الفاعل الجمعوي لمبادىء الحكامة الجيدة وقيمها، وبالتالي قدرته وبفعالية وفاعلية على تعزيز رهاناته وأبعاده وتطوير غائياته وأهدافه المرسومة على مستوى قوانينه الأساسية، التي تعتبر النواميس المرجعية لتطورها وترسخها في أعماق المجتمع الذي تسعى الى تمثيله وتتوخى الارتقاء بمكوناته. أولًا : هياكل تسيير الجمعيات تتبلور الحكامة على المستوى الجمعوي في مجموع الأساليب و الآليات والأدوات، التي يتم عن طريقها التعبير عن الممارسات الجمعوية وضبط رهانات السلطة الجمعوية وتسيير الشأن المتعلق بالمجتمع المدني تسييرًا متسمًا بالرؤية الاستشرافية العميقة. فالحكامة الجيدة داخل المؤسسة الجمعوية، هي ذلك المسلسل المستمر من التكاملات الوظيفية أساسًا، بين المصالح المختلفة والأفكار المتصارعة، تتداخل فيه الهياكل المقررة والهياكل المنفذة، وترتبط على ضوئه القرارات الرسمية بالتوافقات الصريحة والضمينة بين أعضاء التنظيم الجمعوي والفئات المستهدفة من غائيات هذا التنظيم. من هذا المنظور المتطور، تأتي الحكامة الجمعوية، لتجاوز النقص الحاصل على مستوى تسيير الجمعيات، والمعتمد بالأساس على الاختصاصات الموكولة للمكتب المسير أو مجلس إدارة الجمعية كجهاز مركزي محوري، تجتمع في دواخله السلط التقريرية والتنفيذية، مع ضمان الروابط المستمرة بينه وبين المنتسبين للتنظيم الجمعوي المعني، وكذا اللجان التي يعتمل نشاطها داخل الهياكل الجمعوية. إنه من الواجب في هذا السياق أن يتم الاستناد إلى الأسلوب الأمثل في تسيير الجمعيات والارتكاز على مقاربة تعددية، تتفاعل فيها جميع مكونات الجمعية بشكل يضمن تواجد مبادئ رفيعة ،ومنها المصداقية، الشفافية، النجاعة والفعالية...
فيصبح بذلك الجمع العام هو أعلى سلطة تقريرية والموجه الرئيسي لخط سير الجمعية، في حين يفوض للمكتب المسير اتخاذ وتنفيذ باقي القرارات ووضع النظم والقواعد اللازمة لضمان التسيير الجمعوي الجيد وضمان التجسيدات الحقيقية للمخططات والبرامج. أما بالنسبة للجان الموجودة في السياقات الجمعوية، فتلقى على عاتقها مسؤولية القيام بالأنشطة، مع الخضوع المستمر لعمليات المتابعة والمراقبة والتقييم. ولتوضيح كل ذلك يمكن الوقوف على التطبيقات التالية: الجمع العام: يعد الجمع العام، الهيكل التنظيمي الأول للجمعية المؤسسة، كما أنه يشكل التمظهر الأبرز لتحديدات السلطة التقريرية ودقة ضوابطها، لتتناغم هنا – وبشكل دائم – التواجدات النظرية والعملية. ولا يمكن إجراء كل ذلك، إلا عبر الحرص على تناول إيجابيات الحكامة الجمعوية من خلال القيام بالمهام الثلاث التالية: -تفويض سلطة التسيير العام للجمعية، وذلك تفاديًا لأحادية القرارات وانفراديتها المقيتة، وجعل ممارسة النشاط الجمعوي ممارسة متميزة بالكفاءة والفاعلية، ولن يتأتّى كل ذلك إلا عبر الحرص الأكيد على انتخاب الجهاز الحكاماتي المتمثل في المكتب المسير. -تحديد التوجهات الاستراتيجية العامة والقادرة على رسم الرؤى المستقبلية والتصورات الاستشرافية للجمعية والمساهمة بالتالي في الرفع من أداءات الفعل الجمعوي ككل. -مراقبة الإنجازات بالمقارنة مع رسالة الجمعية والربط المستمر بين التصورات والمنجزات وفق رؤية تقييمية- تقويمية. المكتب المسير: بالنظر لاعتباره الجهاز التنفيذي للمؤسسة الجمعوية، يتعين فعله ذو أدوار حيوية من قبيل: تيسيرتدخلات واختصاصات الأعضاء المسيرين والهياكل التنظيمية، الضبط الإستراتيجي لميكانيزمات العمل الداخلي والخارجي للجمعية، التوسط في حل المشاكل العالقة والنزاعات القائمة المفترض تواجدها في الممارسة الجمعوية وتفويض عملية اقتراح وتنفيذ الأنشطة للجان... ولأَجْرَأة هذه الأدوار وغيرها يمكن تجسيد وظائف المكتب المسير كما يلي: هيكلة وتنظيم اللجان: وذلك بغية التنفيذ الناجع للتوجهات الإستراتيجية التي يحددها الجمع العام والمتبلورة عبر أنشطة يعمل المكتب المسير على إحداث لجان لإخراجها إلى حيز الوجود، مع ضمان الطرق الكفيلة باستثمار هذه اللجان الاستثمار الأفضل من أجل فعالية قصوى وأداء متميز. وتتم عملية تنظيم اللجان من خلال تحديد: الهدف المتوخى، العدد المكون للجنة والمؤهلات الواجب توفرها في: أعضائها، مهامها وحدودها، طرق إدارتها وكيفية اشتغالها...
التخطيط: كأي مجال من المجالات المراد الوصول إلى غائياتها الإيجابية، يؤشر وجود هذا العامل الحاسم أو غيابه على مدى وحجم التموقع المتقدم للفعل الجمعوي، حيث إن دراسة فرص نجاح أو فشل برامجه، هي رهينةٌ ـ وباستمرار ـ بمدى الاستناد على التخطيط كأداة أساسية لتحقيق الطموحات المرتبطة بهذه البرامج، رغم أن الكثير من الفعاليات الجمعوية تجعل من العمل الغير المخطط، الآلية الأكثر استخداما من طرفها لضمان تواجدها الدائم في الساحة الجمعوية. إلا أن ذلك يكون في نهاية المطاف على حساب الآثار الإيجابية المبتغاة. ولمزيد من التألق التخطيطي وتفادي الملاحظة السابقة، ينبغي على التخطيط أن يتسم بالدقة والتخصص لتوفير إمكانيات حقيقية للنجاعة والفعالية. المتابعة والمراقبة: فالحكامة الجمعوية الجيدة تفترض أن تكون هناك متابعة مستمرة للإنجازات والسهر على حسن سيرها، وذلك عبر الوقوف على جملة من المؤشرات، ومنها أساسا الحضور الدائم للمسؤول عن اللجنة لإجتماعات المكتب المسير، إعداد التقارير الدورية عن الأنشطة المقامة من طرف اللجنة وتقديمها للمكتب المسير.
تعبئة الموارد المالية والكفاءات البشرية: وتبرز الموارد المالية من خلال حرص الجمعية على توفير السيولة المادية الكفيلة بإنجاز مشاريعها وأنشطتها وبرامجها. وهي إما موارد ذاتية (انخراطات الأعضاء، مداخيل الأنشطة...) أو موارد خارجية (المنح والإعانات والهبات...). أما على مستوى تعبئة الكفاءات البشرية، فإن ذلك يرتبط بمدى ترسخ ثقافة التطوع وكذا بمدى توفر الجمعية في حد ذاتها على كفاءات جمعوية، تجعل من الرفع من قدراتها التسييرية والتنظيمية هدفها المأمول . إن تحليل كل ما سبق، فيما يتعلق بهياكل تسيير الجمعيات يوضح مدى أهمية البعد الحكاماتي في صيرورة المؤسسة الجمعوية، ويجعل مساراتها لا تتوقف عند حدود البعد الوظيفي، بل تتجاوز إلى البعد الغائي، والبعد الاستشرافي كبعدين مهمين يرسمان معالم حكامة جمعوية رائدة. ثانيًا: هياكل تسيير المعلومات إن النظام المتعلق بتسيير المعلومات على صعيد الفعل الجمعوي، يفترض بالدرجة الأولى، الوقوف على عمق الأشياء وكنه الأبعاد، عبر وضع التشخيصات الضرورية، ثم الإنطلاق نحو مساءلة التجسيدات الممكنة وجعلها تحظى بالمتابعة المستمرة والتقييم النابض للقوى التنظيمية لهذا النظام المتبلور على شكل نسق قيمي وظيفي، يستوجب وضع قواعد صارمة وناجعة لتداول المعلومات بين الأعضاء والهياكل. ويتم كل ذلك من خلال تبني مسارات متعددة، تتمظهر في أشكال مختلفة (دائرية، تصاعدية، تنازلية)، والتي لن يكتب لها النجاح، ما دامت لا تجسد في دواخلها مبدأ فصل السُّلَط : سلطة التوجيه والمحاسبة (الجمع العام)، سلطة التخطيط والمتابعة والتقييم (المكتب المسير)، ثم سلطة الإقتراح والتنفيذ (اللجان). أشكال تسيير المعلومات: يمكن الوقوف على هذه الأشكال من خلال ما يلي: المسار التصاعدي: يتمثل هذا المسار في البدايات الاقتراحية المرتبطة بالأنشطة المزمع القيام بها والمتبلورة من طرف اللجان، وذلك كأول حلقة في مسلسل تداول المعلومات والقرارات، ثم يتبع ذلك حلقات المصادقة والتخطيط والتنفيذ والتقييم، وليختتم ذلك بالرفع من القدرات التمكينية على مستوى تسطير التوجهات العامة للجمعية. المسار التنازلي: وهو المسار الذي يشترط فيه تحديد التوجهات العامة، كأول خطوة من طرف المكتب المسير، لتقوم اللجان، بتنفيذ الأنشطة، ولتأتي بعد ذلك مراحل التتبع والتقييم. المسار الدائري: وهو المسار الذي لا يفترض البدء بحلقة محددة، بل إن تطبيق نظام تداول المعلومات والقرارات يرتبط بتطورات المسارات الداخلية للجمعية، ومن ثم عدم الخضوع لأية مرحلة من المراحل (الاقتراح، التخطيط، التنفيذ، المتابعة والتقييم...) لإنجاز كل ما يمكن أن يساهم في ترسيخ أسس الحكامة الجيدةجمعويًّا.
مراحل نظام تسيير المعلومات: وهي المتجسدة فيما يلي: * الاقتراح الدائم للأفكار والأنشطة والمشاريع والبرامج، باعتباره أول خطوة تؤسس لمبدأ التواصل داخل المؤسسة الجمعوية. *المصادقة على هذا الاقتراح من طرف المكتب المسير، وقيام اللجنة المعنية بالبرمجة المطلوبة. *وضع برنامج عمل اللجنة: حيث تقوم اللجنة المعنية بإعداد بطاقة تقنية، توضح المعلومات الكافية حول النشاط المزمع القيام به. التخطيط السنوي لمجموع الأنشطة والمشاريع والمصادقة عليها في حالة اقتناعه بجدواها. *تعبئة الموارد المالية والكفاءات البشرية المسيرة لجعل هذه المشاريع والأنشطة ترى النور في أقرب الآجال. *إنجاز الأنشطة، حيث أنه بعد الحصول على الموارد الضرورية، يعطى الضوء الاخضر للجنة أو الطاقم الإداري التابع للجمعية بإعداد أجندة التنفيذ وإحالتها على المكتب المسير. *التتبع والمراقبة: حيث يقوم المكتب المسير بتحمل مسؤولية تتبع إجراءات تنفيذ المشاريع ومراقبة المنجزات ونسب تقدم الأشغال بها، مما يضمن حكامة مستمرة في دواليبها. *التقييم: وهنا تتم عملية التقييم داخليا من طرف المكتب المسير. ويمكن الوقوف في هذا الصدد على ثلاثة أنواع من التقييمات: -التقييم المرحلي،المحدد للنتائج الظرفية والمرحلية -التقييم السنوي، المقدم للجمع العام على شكل تقرير مفصل أدبيًّا وماليًّا، -التقييم المرتبط بأداء المكتب المسير، وذلك بعد انتهاء مدة ولايته. *مراقبة الإنجازات والمحاسبة: تتم عملية مراقبة المنجزات، بالمقارنة مع رسالة الجمعية وأهدافها من طرف الجمع العام بإعتباره أعلى سلطة تقريرية. في حين أن المحاسبة هي المتمثلة في مناقشة أداء المكتب على مستوى إنجاز الأنشطة وعلى مدى إحترامه لمبادىء الجمعية وإلتزامه لقواعدها، وكذا تطبيقه للديمقراطية الداخلية. *رسم سياسة إستراتيجية عامة: وهي عبارة عن توجيهات يبلورها النقاش العام والمستفيض والمنتج لتوصيات تحدد البرنامج العام المقبل للجمعية استشرافيا. وعموما تجسد هياكل الحكامة في المؤسسة الجمعوية - نظام تسيير الجمعيات ونظام تسيير المعلومات – خطوات مهمة على صعيد التأثير الإيجابي في بلورة حكامة جيدة تنغرس بشكل يتميز بالكفاية والنجاعة، في الإطارات الجمعوية، وتجعلها ترسم معالم مجتمع مدني حقيقي، يعتمل ضمن محيط يتسم بالحيوية والدينامية ويتفاعل مع باقي مكونات الحكامة، من أجل ترسيخ الأهداف المتوخاة من أي فعل جمعوي جادّ، وعلى رأسها المساهمة في ضخ دماء جديدة على المسارات التنموية المنشودة.
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.