مضغة ضئيلة من لحم وعصب تكتنز في شرايينها النحيلة الرقيقة من صور الأحداث وملامح الشخوص ودفء المشاعر ودفق العواطف ما لا قبل لجبل أشم بحمله! فسبحان من أبدع خلق الإنسان وهيأ له من الخصائص العجيبة والمزايا الفريدة ما جعله بحق المخلوق الأكرم بين صنوف خلائق الله جميعا.إنها الذاكرة التي تستأثر بحيزها الأثير من مخ الإنسان لتروي له صحيفة تاريخ حياته بكل ما اعتلج بها من نسمات الأفراح العابرة,و ليالي الأحزان الكالحة ,ففي ذلك الحيز المتناهي في الصغر والضيق اجتماع الأضداد وائتلاف الأنداد,إنها خزانة الثروة النفيسة التي يتباهى بامتلاكها الفقراء والأغنياء على حدّ سواء . ويفرّق علماء النفس بين نوعين من أنواع الذاكرة :الذاكرة طويلة المدى المعروفة اختصارا ( LTM) وهي ذاكرة تقاوم النسيان وتحتفظ بالمعلومات والخبرات وتستحضرها بسهولة ويسر,والذاكرة قصيرة المدى ( STM ) التي لا تقوى سوى على استذكار ما قرب عهدها به من أحداث ووقائع.وهنا تتحول الذاكرة إلى (حافظة ),والناس يتمايزون في قدراتهم في هذا الجانب تحديدا,إذ تجد فيهم من يحفظ القصيدة حين يسمعها لأول مرة ,ومن يتمكن من حفظ الأسماء الطويلة والأرقام الصعبة والمتون العلمية بقدرة فائقة ,وتجد فيهم أيضا ذا الذاكرة الغربالية التي لا تمسك شيئا,فهو يكاد ينسى أسماء أبنائه وأقرب الناس إليه! غير أن الذاكرة هنا تتحول إلى جهد عقلي خالص ينحصر في دائرة المعلومات والحقائق ,ولا ريب إذن أن يتفاوت فيها الناس كما تتفاوت قدرات العالم والجاهل والخبير والأخرق!.وما يعنينا هنا هو تلك الذاكرة التي يتساوى فيها الناس جميعا ,إنها ذاكرة (الذكريات) التي لا علاقة لها بالأرقام والنصوص بل بالعواطف والمشاعر ,ففي حياة كلّ منّا حوادث لا تمحي مهما مرت عليها السنون وتتابعت علىوقع حوافرها خيول الحادثات ,إنها ترتبط دوما بشخصية إنسانية تتصل بنا بطابع من الخصوصية فنحن نحبها أو نبغضها وأحيانا تحمل لها الذاكرة العجيبة الشعورين معا:حب حين تستذكر لها موقف صادقا جميلا,وبغض حين تستعرض ما يناقض ذلك الموقف,ألم أقل لكم ابتداء أن ذلكم الحيز العصبي الضئيل بضج بتزاحم الأضداد الذين تعجز البسيطة بسعتها وامتدادها عن احتوائهم ؟!
ولئن كانت عادة المرء جارية دوما في السعي نحو ما يحسن حافظته ويعينه على التعافي من غوائل النسيان,فإن حكم العادة في مقام الذكريات قد ينقلب إلى ضده,فيغدو النسيان كالمعشوق المتمنع ,فالحوادث المؤلمة والمواقف المدمية تبقى ماثلة بكل ما فيها من تأجج انفعالي في شريط خزانة الذكريات مهما اجتهد صاحب الخزانة في التخلص منها متناسيا حينا ومتغافلا حينا آخر إلا أنها في كل مرة تنجح في التغلب على جيش النسيان و طي محاولات الكتمان لتعود مؤرقة للبال والوجدان,وفي عنفوان موقف التذكر الإجباري هذا يحسد المرء أصحاب الذاكرة الغربالية ظلما متمنيا أن تكون ذاكرته على شاكلتهم تخرقا وانسرابا غافلا أن أولئك المساكين ينسون كل شيء سوى ما تحفل به خزائن ذكرياتهم به من صنوف الألم وفنون العذاب ,وفي هذه الناحية فقط يستوي الحاسد والمحسود!.لكن ... أليس للذكريات المؤلمة وجوها حسنة لا تقوى على طمسها تباريح التذكر؟هذا ما سنعرض له في مقالتنا القادمة بإذن الله.