حين كنت في طريقي إلى الكلية أدرت مفتاح المذياع لأستمع إلى أخبار الصباح,وإذا بي أسمع تسجيلا لتصريح أحد وزراء الخارجية العرب المجتمعين وقتها في تونس للتشاور حول القمة العربية المرتقبة ,وكان التصريح جوابا عن سؤال عن الموقف العربي من المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير, حقيقة لست أذكر من التصريح إلا الجملة الأولى منه لأنها كانت ذات دلالات عجيبة أشغلتني عن متابعة بقية ما قاله الرجل, كل ما أذكره أنه قال بنبرة منبرية: ( نحن ... لا نقبل)!!كانت الـ(لا) قد خرجت من فيه بطريقة جعلتني أتوهم أن مخرجها من قاع الحلق لا من طرف اللسان والشفة كما يزعم اللغويون!. لا أنكر أن التصريح المذكور قد رفد نفسي الموهنة بطاقة شعورية منشّطة,وبدا أن السماء وإن تلبدت بغيوم اليأس والإحباط إلا أن نجم (لا) المتوهج ينير ظلامها على استحياء,فلقد افتقدناها زمنا طويلا حتى خشينا أن تكون قد حُذفت من معجمنا اللغوي بدعوى مكافحة الإرهاب!لقد شعرت وقتها أننا أمة لا زالت بالرغم من كل ما كان قادرة على قول (لا)! طافت بي هذه الـ( لا ) في رحلة ذهنية سريعة مستعرضة الأحداث القريبة عقب كائنة 11_9 ,من اجتياح أفغانستان وغزو العراق,ومصادرة حق الشعوب في الدفاع نفسها,وتغيير مناهج التعليم والتربية,وقصقصة أجنحة جمعيات الإغاثة الخيرية ونتف ريش المنظمات الإسلامية ,وغلق مركز زايد , و..و.. مما لا يحتاج إلى تذكر لمثوله الآن على مسرح الشرق الأوسط الكبير ! ثم يُراد لنا بعد ذلك أن نصدّق أن (لا) المذكورة تعني الرفض المنبثق من استقلالية القرار العربي, فليت شعري ماذا ستعني وقتها (نعم)!!.
حين سمعت تلك الجملة الطنانة تذكرت البيت الذي يصور حال المتعالمين الذين يسارعون إلى الافتاء في كل شيء:
يقولون (هذا عندنا غير جائز) * ومن أنتم حتى يكون لكم (عندُ) ؟!!!
و(نحن) تعادل(عند) في هذا البيت ,ولو رمنا تعديله لقلنا :
يقولون (نحن الرافضون لذلكم) * ومن أنتم حتى يكون لكم (نحن)؟!!!
وإذا غامرت بالبحث عن (نحن) هذه فستلقى عنتا كالذي لقيته مع (لا ), وسينتهي بك الأمر إلى اكتشاف أن لا وجود لها في غير التصريحات الهوائية وأروقة الجامعة العربية, فالأنظمة العربية تنتهج سياسة (الأنا) في التعامل مع التطبيقات الفعلية للمخطط الأمريكي,إذ يبادر كل منها إلى النجاة بنفسه ولو كانت على حساب التضحية بغيره ,إذ إن الحكمة التي ترفعها هذه الأيام هي (انجُ سعد فقد هلك سُعيد!),ولا أظنك ستجد صعوبة في تعيين كل من سعد وسُعيد!
الأمر الوحيد الذي يمكن أن يعبر عن (نحن) الغائبة- غيبة كبرى!- يتمثل في أن الـ (نحن) جميعهم متفقون على أن( لا ) باتت تعني (نعم),وأنها تذكّرنا بعسر النساء الذي عبّر عنه بشار بن برد وقد ظلم النساء!:
عُسر النساء إلى مُياسرةٍ *** والصعبُ يمكن بعد ما رمَحَا
إن (لا-نحن ) ليست سوى رمحة حيية ستؤول بلا ريب إلى (نعم ) كبيرة جدا,فنحن نسمع تصريحاتهم عن أن مناهج التعليم ( لن) تخضع للتغيير المفروض من أمريكا,وإنما هي تحديثات تتطلبها طبيعة التطوير وروح التغيير ,بينما لا تتوانى وسائل الإعلام الغربية عن كشف حقيقة ما يجري عبر فضح التصريحات السرية للمسؤلين العرب وممثليهم في الغرب والناطقة بما يضاد ذلك كلّه,إنهم لا يرضون بالإبقاء على ورقة التوت حفظا لما تبقى من كرامتهم وهيبتهم أمام شعوبهم! أوّاه! لو يعلمون كم نرثي لهم (نحن) المقهورين الساكنين بلاد ما بين الخليج والمحيط!!.