التصحر مصطلح يطلق في الأصل على زحف الصحراء إلى المسطحات الخضراء، فهي في كل عام تجتاح مناطق جديدة تخلع عليها ثوب اليبس والجفاف، ولذا فإن الدول المعرضة لهذا الغزو الصحراوي تبذل جهودا كبيرة حثيثة للوقوف في وجه الغزو الصحراوي, وإذا كانت ميادين الفكر تمثل المسطح الأخضر في دنيا الأنشطة الانسانية المختلفة، فإنه يمكننا القول إنها معرضة بصورة أكبر لخطر التصحر في مجتمعنا الصغير، عاما بعد عام تتكشف الحقائق عن تراجع الشأن الفكري إلى دركة متأخرة من سلم الاهتمامات والأولويات لدى المواطن العادي، وقد يبدو الامر غير جدير بالاهتمام والبحث في نظر كثيرين ممن يرون الثقافة من ضروب التكميلات والتحسينات التي يمكن لعجلة الحياة أن تستمر في الدوران بمعزل عنها، ولكن الفحص عن آثاره الواقعية كفيل بالكشف عن حجم خطره ومقدار ضرره. في الأيام الخوالي كان الأساتذة يتواصلون فيما بينهم على ضرورة الاعداد العلمي الجيد قبل المحاضرة لئلا يفاجئهم أحد الطلاب بسؤال ذكي يضع مكانتهم في نفوس الطلاب على المحك، وكانت قاعة المحاضرة لا تخلو عادة من نقاش حيوي يبدد أجواء الركود وسحب الخمود، ويكشف عن تفاعل ايجابي مثمر مع القضية موضوع الدرس، لا سيما ان كانت تتصل بالشؤون السياسية والفكرية، فكنت تستقرئ الانتماء الفكري للمتحاورين عبر دفاعهم عن وجهات النظر التي يعتنقها التيار الذي ينتمون اليه، هكذا عشنا أجواء الجامعة قبل نحو عقدين من الزمان، أما الآن فلا تكاد تجد شيئا من ذلك بحسب تجربتي الشخصية في التدريس لأربع سنين، فالطالب لم يعد يكترث بالمشاركة في نقاش جدي أو اثارة اعتراض على ما يلقن من افكار وما يطرح على منضدة الدرس من آراء، لأن الأمر برمته لا يعنيه!! فثمة سيل عرم من الملهيات والمشغلات التي تستأثر باهتمامه وتستحوذ على عقله وهواه، ولم تعد القضايا الفكرية والثقافية مثار فضوله، ومن ثم فليس يعنيه أن يتخذ منها موقفا مؤيدا أو معارضا كما كان الأمر في الجيل السابق، ولو ان الخطب اقتصر على قاعات الدرس والحوار لهان، فقد تعداه إلى الحلبة الكبرى التي يفترض أن تتربع على ساحتها قضايا الفكر والرأي، أعني بذلك حلبة الانتخابات الجامعية، ففي العقد الأخير بدا واضحا لأي مراقب ان الجانب الفكري لم يعد يشغل بال كثير من الطلاب، ولذا فلا تعجب ان تجد قوائم انتخابية جديدة تحقق نجاحات كبيرة وبسرعة مذهلة، وحين تبحث عن تصنيفها الانتمائي فإنك تضعها في خانة (اللافكرية) مع ان انتخابات الجامعة كانت تمثل قبل مصطرع التيارات السياسية للمجتمع الكويتي، فهي الساحة التدريبية الأولى لتنشئة كوادر العمل السياسي لأي تيار، وليس بغريب ان يكون معظم من يتولون قيادة العمل السياسي الآن طلابا سابقين تشهد انتخابات الجامعة بصولاتهم وجولاتهم, أما الآن فإن (الانتماء الفكري) يشكو من كساد سوقه وبوار بضاعته، ذلك لأن صناعة الفكر تتطلب القراءة والاطلاع والحوار والمعارضة وهي ملكات ثقافية بالدرجة الأولى، وحين تتراجع الثقافة فإن ذلك يستلزم بالضرورة تقهقر الفكر، وتغدو (اللافكرية) هي الانتماء الوحيد الميسر الذي لا يحتاج إلى تصديع الرأس بأدبيات النظريات والمذاهب، وبذا تغدو انتماء من لا انتماء له!!