عندما يذكر إسم السودان فإن أول مايتبادر إلى الذهن هو صور الجوع والفقر والمآسي الإنسانية ويمر كذلك على المخيلة شريط من عدم الإستقرار والحروب والخلافات الداخلية والخارجية التي دخلتها هذه الدولة المترامية الأطراف في معظم فترات تاريخها السياسي سواء مع جيرانها من الدول الأفريقية أم مع العدو التقليدي لها والمتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية ، مما جعل البلاد تعيش في حالة صعبة من عدم الإستقرار السياسي والإنقلابات السياسية التي لا يفتأ أن يستقر الأمر بيد الفئة المنقلبة حتى تأتي مجموعة أخرى لتكرر نفس السيناريو وتسقط هذه الحكومة الوليدة وتستمر بهذه الصورة حركة الانقلابات في السودان إبتداءاً بانقلاب عبود مروراً بانقلاب جعفر النميري وصولاً بانقلاب حكومة الإنقاذ في عام 1989 . إن من الإنصاف أنك عندما تقيم الآخرين أن تبني رأيك على إيجابياتهم وسلبياتهم لا ان تتخذ من نصف الصورة أصلاً لحكمك ورأيك ،فالتجربة السياسية في السودان في الفترة الأخيرة شهدت تطوراً مذهلاً في مجال المشاركة الشعبية وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني وحرية الرأي من خلال الصحف ووسائل الإعلام الأخرى ، ولقد لاحظت ذلك خلال زيارة رسمية لجمهورية السودان قمت بها ضمن وفد شبابي من دولة الكويت للتعرف على الحياة الديمقراطية في السودان ودور مؤسسات المجتمع المدني كجمعيات النفع العام والنقابات وإتحادات العمال وإتحادات الطلبة في التنمية السودانية ، وفي معرض الجولات والزيارات التي قام بها الوفد أبهرني كثيراً المستوى العالي الذي تتمتع به هذه الدولة من حرية للرأي وتفعيل واضح للممارسة الديمقراطية السليمة على عكس الصورة المتشلكة عند الكثيرين من أن السودان ليس سوى دولة متخلفة نخر الفقر معظم أجزائها فإنك عندما تتجول في أنحاء العاصمة الخرطوم وتتجول بناظريك في أرجاء مركز المدينة فإنك تشاهد العشرات من الجمعيات والنقابات والإتحادات التي تملئ هذه العاصمة مما يعطيك انطباعا إيجابياً عن الحياة الديمقراطية الحية التي يعيشها المجتمع السوداني .
فلو نظرنا مثلاً لجمعيات النفع العام والنقابات والإتحادات العمالية والطلابية على مستوى السودان ، فإننا نلاحظ أن الدولة قد وفرت لهذه الجمعيات كافة سبل الدعم من أراضي خاصة لإقامة مقرات لها وحرصت كذلك على تقديم دعم مادي ومعنوي كبيرين في سبيل تطوير التنمية السودانية ومواكبة المدنية الحديثة في المجتمعات المختلفة ، على عكس ما نجده في دولتنا الحبيبة فبعد أن تنفس المجتمع الكويتي الصعداء من إعادة فتح باب التراخيص لجمعيات النفع العام بعد ان جمدت لفترة تجاوزت الثلاثين عاماً نجد أن وزارة الشؤون الإجتماعية وهي الوزارة المعنية بهذا الأمر قد فرضت شروطاً تقيد بصورة واضحة حرية الممارسة الديمقراطية لهذه الجمعيات من خلال منع تطرق هذه الجمعيات للمواضيع السياسية ومنعت توفير الدولة لهذه الجمعيات أراضي خاصة لإقامة مقرات لها ولا ننسى أيضاً ضعف الدعم المادي والمعنوي لهذه الجمعيات كما كان في فترة الستينيات ، إن المفارقة الغريبة في الموضوع أننا لو لاحظنا أن الجمهورية السودانية وعلى ما تعانيه من مشاكل إقتصادية وفقر وجفاف وغيرها من قضايا العجر الإقتصادي إلا أننا نجدها توفر الدعم المادي الجيد لجمعياتها ونقاباتها وتوفر لهم أراضي خاصة من قبل الدولة لإقامة مقراتها الخاصة ، وعلى النقيض تماماً نجد دولتنا الغنية والتي تسبح فوق بحيرة من البترول تقتر على جمعيات النفع العام ومؤسسات المجتمع المدني بالدعم المادي بصورة غريبة!
إن هذه المفارقة ليست على المستوى السياسي فحسب بل إنها تعدته إلى المستوى التعليمي فاالسودان وفي غضون عشر سنوات فقط إستطاعت زيادة عدد جامعاتها من 7 جامعات إلى أكثر من 30 جامعة بينما نجد اننا في الكويت مازلنا على جامعتنا العتيقة التي أكل الدهر عليها وشرب ، ولحسن طالعنا فلقد أقر مجلس الأمة الكويتي مؤخراً وبعد مخاض عسير بناء ثاني جامعة حكومية في البلاد في موقع الشدادية والتي يستغرق إنشاؤها حوالي عشر سنوات على أقل تقدير !! ، إننا لو لا حظنا أن المسئولين عن القطاع التعليمي في السودان استطاعوا أن ينشؤا في فترة وجيزة لم تتجاوز العشر سنوات أكثر من 20 جامعة بينما نجد أنفنسا لم نستطع منذ حوالي ثلاثين سنة على إنشاء جامعة واحدة جديدة .
إننا عندما ننظر إلى دولة كالسودان نرسل لها سنوياً مئات المساعدات المختلفة عبر الصندوق الكويتي للتنمية الإقتصادية العربية ونجدها قد سبقتنا في ميادين الممارسة الديمقراطية وتطوير المؤسسات التعليمية المختلفة ، فإنه يتحتم علينا أن نخجل من أنفسنا وأن نراجع حساباتنا وأن نحاول بناء مجتمعنا بناءً حديثاً متطوراً يمارس ممارسة ديمقراطية متكاملة وينعم بمؤسسات تعليمية راقية وأن نكون واعين مدركين للواقع لا أن يسبقنا الآخرون ونحن في أحلامنا الوردية .