ليس بغريب أن تصدر الحماقة عن أصحاب الغفلة وأرباب الغباء فالشيء من معدنه لا يستغرب ولا يستهجن، لكن ما يستغرب حقًّا هو تلك الحماقات التي يرتكبها العقلاء، وقد يقال: كيف يجرؤ العاقل على ركوب حماقة ما ووصفه بالعقل يقتضي اجتنابه ذلك واحتراسه من مقارفته أيما احتراس؟ والحق أن العقلاء ليسوا بمعصومين من ذلك، وإنما الامر نسبي، فمن أكثر من الحماقات تحول من حزب العقلاء إلى حزب الحمقى، وإلا فهو بوصف العقل حري قمين، غير أن خطورة حماقات العقلاء تكمن في أنها تروج على كثيرين ويخفى أمرها فلا يتنبه لها، وتضيع وسط الزحام فتمر مرور الكرام بلا حساب ولا عتاب, كما أنها في كثير من الأحيان تفوق في ضررها وشؤمها حماقات الحمقى وطوّام المغفلين!. وشر ما رأينا من هذا النوع ما يرتكبه أصحاب المبادئ وأرباب الفكر وحملة شعارات الثقافة والعلم، إذ المفترض في أولئك القوم أن يكونوا أشد العقلاء حرصًا على استقامة تصرفاتهم وسلامة سلوكهم من الخبط والشطط، لكنك تجد كثيرًا منهم يعيشون حالة من الانفصام بين ما يعتنقونه من قيم ومبادئ وما يقومون به من ممارسات فعلية على أرض الواقع، ويتجلى الحمق على أصوله حين يظنون أن مثل هذا الاضطراب الخطير قد يخفى على عامة الناس، فحينما يرفع سياسي شعار الدفاع عن ذوي الدخول المحدودة وحقوق المسحوقين فإن متابعيه يتوسمون فيه الوفاء لذلك الشعار بحيث يقاسم هؤلاء المساكين همومهم ويشاطرهم آلامهم ولا يقتصر دوره على المشاركة الشعورية المجردة التي لا تكلفه شيئًا، بل عليه أن يسعى جاهدًا للقتال من أجل ذلك حتى لو اضطر إلى مواجهة قوى الفساد متجشمًا في ذلك ما يلاقيه من نصب وتعب، لكن السياسي يقع في حماقة (كبيرة) حين يظن أن خطبًا حماسية وصرخات يطلقها مزمجرة لا تجاوز حنجرة كفيلة بأن تكسوه بردة من الصدق وثوبًا من الشجاعة في عيون البسطاء، بينما يجتهد في الخفاء بالمتاجرة بقضاياهم في سبيل تحقيق مجده الشخصي وتضخيم ثروته المترهلة ليسقط بذلك ورقة التوت التي كانت تستر خداعه ودجله.
ومن المضحكات في هذا الباب التي لا يتورع عن مثلها مشاهير الحمقى ما تراه ممن نصَّبوا أنفسهم حماة لحرية الرأي وأنصارًا للتعددية ومبدأ القبول بالآخر، فهم يتظاهرون بذلك في شعاراتهم الفكرية وبرامجهم السياسية لكنهم حين يواجهون في الميدان مخالفيهم ينقلبون إلى رعاة للاستبداد فتستوطن جسومهم أرواح ديكتاتورية شريرة فتراهم يجتهدون في خلق آراء مخالفيهم ومنعهم من التعبير عن ذلك بأي صورة مهما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وحسبك بذلك حُمْقًا وتغفيلًا!
وشر الثلاثة: قوم اتخذوا من رفع شعارات الدين وتطبيق الشريعة تجارة، فاكتسبوا بذلك تعاطف عامة الناس ممن تتملكهم المشاعر الدينية الصادقة، حتى إذا بلغوا بذلك ما بلغوا أروا أولئك الأتباع المساكين كيف تؤكل الكتف، وصيروا الدين قنطرة موصلة إلى جمع حطام الدنيا والفوز بمتعها الزائلة، وأما الشريعة وحقوقها فآخر ما يشغل بالهم ويؤرق ليلهم! ولا عزاء للمغفلين.