إذا ربنا أراد، سأسافر إلى بلاد بره مع زوجتي في رحلة علاجية،.. يعني سنكون أنا وهي "راس"، وهذه تجربة لم أخضها من قبل، إذ لم يحدث أن استفردت بي منذ أن أنجبنا طفلنا الأول، لأن عيالنا ومن فرط تخلفهم الاجتماعي يعتبرون غرفة النوم الخاصة بنا أنا وأمهم ملكا مشاعا، بل وملعبا لكرة القدم والهوكي والمصارعة الحرة، وكثيرا ما عدت من العمل مرهقا ووجدت العيال قد اقتسموا سريرنا، فأضطر إلى اللجوء إلى إحدى غرفهم التي تكون عادة في حالة مقرفة.. علبة كولا تحت السرير، وملعقة تحت المخدة، وملابس باريسية مقلدة فوق الكرسي،... ومن ثم يبدو غريبا أن أكون مع زوجتي لكذا وعشرين سنة بمفردنا في فندق في عاصمة أوربية! وبصراحة فإنني لست من النوع الرومانسي، ليس لأنني جِلف بالميلاد، ولكن لأن الرومانسية على أيامنا كانت فقط في كتب المنفلوطي والروايات المترجمة، وكان الحب "عيبا".. وحتى الذين كانوا يقعون في الحب لم يكونوا يتحدثون عن القمر والنجوم، بل عن تكاليف السكن والبطيخ والخراف، لأن الحب كان يعني الزواج، والزواج يتطلب الجمع والطرح والإلمام بنظرية فيثاغورس (كتبت قبل سنوات مقالا عن أكاديمي سعودي قالت الصحف السعودية: إنه طلق زوجته بعد أن اكتشف أنها لا تعرف نظرية فيثاغورس، وخوفا على أخواتي السعوديات من التفنيش الجماعي، شرحت أن النظرية تقول: إن مربع الوتر في المثلث يساوي مربع الضلعين الآخرين، وهذه النظرية مفيدة في صنع الكيك والمعجنات، ومن ثم فإن لها انعكاسات إيجابية على الحياة الزوجية.. المحزن في الأمر أنني سألت زوجتي عن فيثاغورس فقالت لي: هل هو رئيس أوكرانيا؟)
ولكن مراسيم زواجي كانت في منتهى الرومانسية، ففي اليوم المحدد لعقد القران، شهدت الخرطوم محاولة انقلابية دموية، ولعلع الرصاص في كل أنحاء المدينة، وأعلنت الحكومة حالة الطوارئ وحظر التجوال.. مراسيم عقد القران عندنا بسيطة، وليس فيها زيطة وزمبليطة، وكل ما هناك أنك تدعو نفرا قليلا من كبار رجال العائلة وتتوجهون إلى بيت العروس حيث يقوم المأذون بكتب الكتاب، وتعقب ذلك جلسة سمر يتناول فيها الجميع المرطبات ووجبة خفيفة.. طبعا معظم المدعوين قرروا عدم المجازفة بحياتهم، ولم يصحبني إلا أشقائي، ورفض أكثر من مأذون مغادرة بيته لإبرام عقد الزواج، فاستعنت بصديق يعمل في الشرطة لنقل مأذون عبر الحواجز الأمنية، وتم كتب الكتاب، وبعدها تسللنا إلى بيتنا عبر الأزقة والحواري التي لا وجود للعساكر فيها.. ثم تقرر يوم الزفاف، فإذا بوزارة الإعلام ترشحني لبعثة دراسية في لندن "والسفر فورا"، وتأجل الزفاف سنة، ولكن وقبل الموعد المحدد له بيومين توفيت قريبة عزيزة لزوجتي فأجلنا الزفاف شهرا.. وقبل الموعد الجديد بأسبوع توفي خالي، وقالوا: لابد من التأجيل مرة أخرى فقلت لهم: إنها زوجتي على سنة الله ورسوله وبلاش زفاف وبطيخ.. أي كلام كده وللا كده سأطلبها في بيت الطاعة.. ولكن زوجتي أقنعتني بأن أهل الطرفين يريدون أن "يفرحوا" بنا.. قلت لها: أخشى أن يؤدي زواجنا هذا إلى انقراض عائلتينا.. فكينا يا بنت الناس من حفلات الزفاف والبروتوكولات عديمة المعنى؟.. المهم انتهى كل شيء على خير ودون مزيد من الخسائر في الأرواح، وها نحن نتوجه بعد كذا وعشرين سنة، إلى بلاد بره، حيث سنكون بمفردنا .. دعواتكم يا جماعة.