تحكي قصة شعبية شهيرة عن مسافر وصل إلى مشارف قرية متعباً جائعاً فتجلى له الشيطان بصورة رجل دمث من لحم و دم . استقبل الشيطان هذا المسافر بالترحاب فأجلسه إلى ظل شجرة ، ثم أطعمه حتى شبع و سقاه حتى ارتوى . و بعدها ساعده بإطعام دابته و جلب الماء لها لتشرب. لقد أسر السيد الشيطان السيد المسافر بطيبته و دماثة خلقه . طلب المسافر أن يتعرف بالشيطان ليحفظ له هذا المعروف . فعرّف الشيطان عن نفسه ببساطة قائلاً : - أنا الشيطان .
ذهل المسافر . و رد على الفور :
- غير معقول ......
- لم غير معقول ؟
سأل الشيطان .
أجاب الرجل:
- أنت رجل طيب كريم . أطعمتني و سقيتني و هذه أفعال ملائكة لا أفعال شياطين . يصف الناس الشياطين بالخبث و الشر ....
هز الشيطان رأسه قائلاً :
- أبداً أنا هو الشيطان . و أنا أتصرف دائماً بهذه الطريقة ...
سأله المسافر :
- لم يتكلمون إذا عنك هذه الطريقة السيئة و ينسبون لك كل أفعال الشر مع أني لم أر منك إلا الخير ؟!!
هز الشيطان رأسه قائلا إنه لا يعرف . و قبل أن يفيق المسافر من صدمته استأذنه الشيطان لأنه يود الذهاب إلى القرية المجاورة كي ينجز بعض الأعمال .
غادر الشيطان إلى القرية تاركاً المسافر يفكر كم أن الناس لديهم صورة خاطئة عن الشيطان وسرعان ما توصل لقناعة مفادها أن الناس قد ظلموا الشيطان ......
غاب الشيطان بعض الوقت و عاد إلى المسافر و ما إن وصل حتى اندلع إطلاق رصاص في القرية،و نشبت معركة هائلة بها .
سأل المسافر الشيطان بذهول :
- ماذا جرى ؟ ماذا فعلت بالقرية ؟
ابتسم الشيطان ببراءة قائلاً :
- أبداً لم أفعل شيئاً فقط حللت رباط العجل .
و تتمة الأمر أنه بعد أن حل الشيطان رباط العجل دخل العجل بأرض زراعية ، أكل قسماً من زرعها و خرب الباقي ، فغضب صاحب الأرض فضرب العجل فقتله ، فغضب صاحب العجل فضرب الرجل . ثم انضم الأقرباء كل إلى قريبه و اندلعت معركة في القرية .
هناك شياطين كثيرة مثل هذا الشيطان في عالمنا العربي . يبدون طيبين مثقفين مهتمين بقضايا الأمة و مهجوسين بمصيرها . لكنهم فجأة يحلون عقدة رباط العجل و يقفون متفرجين ببراءة الأطفال على الحرائق التي أشعلوها ، و المعارك التي افتعلوها . و عقدة رباط العجل في وطننا العربي اليوم هي الماضي ، و صراعات القوى الأساسية ، التي أنهكت الأمة خلال الخمسين عاما الماضية ، أعني الصراعات بين التيارات الماركسية ، و القومية ، و الإسلامية ، و ما يتفرع عن ذلك من صراعات فرعية ........
و أهم هذه الصراعات اثنان : واحد بين التيارين القومي و الإسلامي و هو صراع أنهك الأمة و استهلك خيرة كوادرها و أقام تعارضات مزعومة لا أساس لها على أرض الواقع بين الدين و القومية مع أن كلا الإنتمائين ينتمي إلى دائرة لا تتعارض مع الأخرى . و الصراع الثاني هو الصراع داخل التيار القومي نفسه ، بين الناصريين و البعثيين و قد كان لهذا الصراع فعل مدمر على حركة التحرر العربية برمتها . و نتج عنه نتائج وخيمة لم يستفد منها سوى أعداء الأمة .
و شياطين الحاضر لا يفعلون سوى أنهم يحلون عقدة الماضي فيبدأ كل واحد من موقعه السياسي الضيق بالنبش و التشهير بأخطاء الآخر و الادعاء أن ذلك التيار ، وحده و ليس غيره ، هو من سبب الكارثة التي أحاقت بالأمة . و بالطبع إذا قلت له إن ما تفعله مضر سيجيبك أنه يقوم بدراسة الماضي . و سيقدم لك مبررات علمية توجب النبش في الماضي حتى أسفل السافلين .............
إن عمل هؤلاء كعمل الشيطان ، أفعال بريئة لا قيمة لها ظاهريا لكنها تؤدي إلى معارك لا يستفيد منها سوى أعداء الأمة . و إلى تفتيت و شرذمة للقوى مع أن المطلوب هو تحقيق التلاحم بين مختلف تيارات هذه الأمة .
لسنا ضد دراسة الماضي و تقييم التجربة لكن هذا يتطلب شروطا غير متوافرة في الوقت الراهن ، أولها أن الهدف من أي عودة للماضي هو التركيز على نقاط اللقاء و التوحد لا على نقاط الخلاف و الشرذمة ، التي يجب أن تدرس لتجنب تكرارها في الحاضر لا لتأبيدها . ثاني الشروط أن يتوافر لكل الأطراف فرصاً متساوية لتشرح مواقفها الماضية و زاوية رؤيتها للأمور و مآخذها على التيارات الأخرى . لا أن يستأثر طرف بوسائل الإعلام لوحده و يبدأ بنقد تجارب الآخرين من موقعه الحزبي الضيق دون أن يكون للآخرين فرصة متساوية للدفاع عن موقفهم و شرح وجهة نظرهم . و ثالث الشروط أن يتحلى الدارس بحد أدنى من الحيادية فينظر إلى أفعال الأطراف المنخرطة بالصراع بشكل حيادي لا تؤثر عليه انتماءاته الإيديولوجية .....
و ما عدا ذلك تكون العودة إلى الماضي فعلا من أفعال الشيطان هدفها شرذمة القوى الحية في المجتمع العربي من إسلامية و قومية و ماركسية . و بدل العمل على بناء جبهات عريضة تخاطب تحديات الحاضر و المستقبل سيبقى كل تيار ، بهذه الطريقة ، متخندقا في الماضي يطلق النار على أشباح الماضي في حين أن العدو الأمريكي الصهيوني يفتك بنا يومياً .
إن الإخلاص للأسلاف لا يكون بتكرار سلوكياتهم بل باقتباس الجوهري من تجربتهم و بتجنب أخطاءهم .
و حديث الماضي كأغنية الشيطان ، تستطيع أن تحدد متى ستبدأ به لكنك بالتأكيد لن تعرف متى ستنتهي منه ، هذا إن انتهيت . لأن كل الأطراف تملك حججها و براهينها على صحة مواقفها الماضية و لدى كل طرف قائمة طويلة بأخطاء الطرف الآخر ، لذلك فإن أي شخص يحسب أن تياره كان على صواب دائم هو شخص واهم . إن لدى الطرف الأخر ما يجابه به منتقديه و لديه انتقاداته و ملاحظاته و قائمة لا تنتهي بأخطاء خصوم الماضي ، كما ذكرنا . و إني على قناعة أن كل التيارات ارتكبت في الماضي من الأخطاء فوق طاقتها و إلا لما وصلنا إلى الكارثة الحالية . لكن بعضهم ما زال مصرا على أنه يمتلك الحقيقة المطلقة ، و أنه وحده من كان على صواب و ليس في ثوبه الأبيض أية شائبة . إن مثله كمثل الجمل الذي يصفه المثل الشعبي بأنه لا يرى سنامه ........
هؤلاء هم شياطين الحاضر . إياك أن تتوهم أن لهم أنيابا أو قرونا على ما يشاع عن صورة الشيطان النمطية ، وإذا تحريت لن تكتشف أن لهم صلات مع الأمريكان بل هم يتحدثون عن مستقبل الأمة و يناقشون سبل خروجها من أزمتها كأي وطني حقيقي . هم من حيث المظهر و المفردات وطنيون . لكنهم يحلون رباط العجل فجأة..................