كنت قبل البعثة أعني بعثة الدكتوراه - مدرسًا في إحدى المدارس الثانوية، وحينما عدت أدراجي إلى الجامعة بعد حصولي على الدرجة العلمية ملتحقًا بكلية الآداب وجدتني قد انتقلت من ثانوية إلى ثانوية، وإن كانت ثانويتي الأولى أحدث في بنائها من ثانويتي الجامعية! فقد انتقلت كلية الآداب من مبناها القديم في الشويخ إلى كيفان انتقالًا مؤقتًا كما يقولون، وما زالت في مبناها المؤقت منذ عقد من الزمان وستظل هكذا لعقد أو عقدين حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا ويتم بناء المدينة الجامعية في الشدادية المحروسة عجل الله فرجها!
وفي كلية الآداب ميزة لا تجد لها نظيرًا في الكليات الأخرى، فمبنى الكلية الذي يحتوي على أقسامها العلمية ومكاتب الأساتذة بمنأى عن القاعات الدراسية المبعثرة في ثلاثة أدوار من مبنى الثانوية القديمة، وبين المبنيين طريق وارفة تظللها الشمس وتمد عليها رياح السموم رواقًا من ظل ذي ثلاث شعب! بينما ينعم منسوبو الكليات الأخرى بممرات ظليلة مكيفة! وإذا رميت ببصرك إلى القاعات الدراسية وجدتها فقيرة التجهيز، ولا نتحدث هنا عن التجهيزات التكميلية التحسينية، ولكن عن شرائط لا غنى لمؤسسة علمية من توافرها حفاظًا على سمعتها الأكاديمية، ففي هذا الصيف اللاهب يشكو الجميع من سوء التكييف وعطل معظم أجهزته المتآكلة، ومع كل صيف تتكرر الشكوى وتتكرر عين المأساة على وعد بصيف مقبل مكيف, وأما التجهيزات الصوتية فهي على درجة من الغرابة والطرافة، فثمة مكبرات للصوت (مكروفونات) يحار الاستاذ في التعامل معها لأنها غير قابلة للتعديل، بما يتناسب مع وضع المتكلم وكثيرا ما نضطر الى اسنادها بالحقيبة لتصبح في وضع ملائم لفم المتكلم الذي ان لم (يقبلها) فإن صوته لن يجاوز منضدته، أو المنضدة المزرية فكأنها مقترضة من مطبخ صعيدي في خيطان، ولاتزال اللوحات السوداء (السبورات) متصدرة قلب القاعة ومن حولها تتناثر اصابع الطباشير كما تتناثر احلام الاساتذة في قاعة مهيأة جيدة!
ولسنا ننكر الجهود التي تجرى لاصلاح هذا المبنى التاريخي (!) غير انها أشبه بمحاولات تجميل عجوز سبعينية لا تزيدها الاصباغ الا قبحا ودمامة، فالمبنى المذكور في حكم المتوفى اكلينيكا ولن تفلح محاولات الانعاش في اعادته الى الحياة! ومن غرائب كليتنا ذلك المشهد المتناقض الذي يلف كافتيريا الطلاب من جهتيها، فوجهها يزدان بالخضرة الرائقة والاشجار الجميلة، ولكن (قفاها) يشكو من ورشة مقامة في الهواء الطلق حيث تجد الصناع والعمال يشتغلون دائبين في اعمال النجارة والحدادة والصبغ وتتناثر مخلفاتهم حتى انها لتكاد تغلق طريق الخارج من مبنى الكلية فلو كان السائق شوماخر أو سعيد الهاجري فلن يفلح في تفادي انقاض البناء الملقاة على ميمنة الطريق!
بقي أخيرا، أن نتوجه بالشكر الجزيل للادارة الجامعية على الحواجز الشوكية التي زرعت أخيرا وسط الطريق لردع هواة السير عكس التيار، وكأن كليتنا العجوز لم يكن ينقصها الا هذا الانجاز الجليل! وأعلم حال كتابتي هذه المقالة انها لن تغير شيئا من الواقع المر، فما أكثر الشاكين قبلي وبعدي ممن ذهبت شكواهم صيحة في واد أو نفخة في رماد، لكنها نفثة مصدور لا يملك الا قلمه للتنفيس عما يراه من بخس لحقوق هذه الكلية العريقة المحبوسة في جحر الضبعة البائس هذا، بينما تحظى كليات (النخبة) برعاية فائقة وعناية خاصة، والواقع شاهد صدق على ما أقول!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية