حين انطلقت قناة (الحُرّة) الإخبارية من واشنطن قبل عام، نالتها حملة شعواء بوصفها بوقاً أميركياً موجهاً. ولأن إذاعة (الحُرّة) تزامنت مع تدهور في العلاقات العربية-الأميركية على المستويين الشعبي والرسمي بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها فقد عُدت القناة جزءاً من مخطط مؤامراتي لتلميع الثقافة الأميركية ولغسل دماغ المتلقي العربي عبر بث فضائي يُطبخ في واشنطن بصرف النظر عن كل المزاعم التي ساقها المدافعون عنها من قبيل كونها سبيلاً للتقريب بين التوجهات والتعرف على الرأي الآخر بل وتقديم صورة أكثر نزاهة للخطاب الإعلامي العربي!
إذا كانت الحساسية التي تم بها استقبال (الحُرّة) وطاقم مذيعيها مفهومة على ضوء صرعة مقاطعة المُنتج الأميركي التي سادت لفترة، فإن متابعة عابرة لفضائيات عربية أخرى تثير تساؤلات حول نوع المعايير التي نقيّم من خلالها السيء والمقبول فيما نشاهد ونقرأ ونعايش.
قناة 33 التي كانت تُبث من دبي على سبيل المثال، تم تحويلها مؤخراً لقناة فضائية فارهة حملت الاسم الانجليزي one. وَعدت الحملة الإعلانية لـ one بتقديم مفهوم مختلف تماماً للبث الترفيهي، لتخرج علينا قناة حافلة بالأفلام والبرامج والمسلسلات المسلية بحق، والمُنتَجة بأكملها في استوديوهات الولايات المتحدة الأميركية. بعد تدشين one بأسابيع أعلن مركز تلفزيون الشرق الأوسط (mbc) عن إطلاق قناته الرابعة التي اقتصر اسمها على الرقم 4، على أن يُلفظ بالإنجليزية (فُور). خُصصت هذه القناة لبث حلقات المسلسلات والبرامج الحوارية والترفيهية الأميركية الخالصة، في حين تُركت إذاعة الأفلام الأميركية لشقيقتها الكبرى (تو) – أقصد 2-.
وهكذا فالقناتان (وَن) و (فُور) مُكرستان بالكامل للإعلام الترفيهي الأميركي على اختلاف أشكاله. وكلاهما تتنافسان على ما يبدو لإبهار المشاهد العربي بصفوة البرامج الأميركية.. والأميركية فقط.. التي تتصدر قوائم المشاهدة في بلادها وتغطي المواد الإخبارية والحوارية والمسابقات وبرامج تلفزيون الواقع والمناسبات الفنية والمسلسلات والأفلام وحتى الرسوم المتحركة الموجهة للبالغين.. في استفزاز صريح لكل من يعاني من أي حساسية (مَرَضيَة) تجاه مخططات أمرَكة الفكر والنشء العربي. موجة الأمركة في كلتا القناتين تمتد لتشمل كامل المادة المساندة التي تقدمانها حيث تعلنان عن أوقات بث البرامج باللغة الإنجليزية وتستخدمانها للرسائل المذاعة بين المواد وحتى الإعلانات الترفيهية والدعائية التي تتكفلان بها. وتبدو اللغة العربية فيهما نشازاً في اللحظات النادرة التي يتلفظ فيها مذيعوها ببعض كلماتها التي تتخلل جملاً بلهجة أميركية قحة.
لابد من الإشارة إلى أن القناتين أحسنتا حتى الآن الاختيار والتنفيذ وفق الجدوى الاقتصادية، فهما ترفيهيتان ومسليتان بامتياز ولا شك في أنهما ستحققان نسب مشاهدة تتصدران بها منافسات الفضائيات (العربية). وأنا من خلال عرضي هذا أقر بمتابعتي لكليهما لأنهما تشكلان امتداداً لفترة أنهيتها تواً طالباً في أميركا. لكن ثمة تساؤلات تطرح ذاتها طالما نحن بصدد مناقشة ما يجدر بالمتلقي العربي أن يشاهده في بيئته العربية على قناتين (عربيتين) غير مشفرتين. ومع كون القناتين تذاعان من دبي بأموال خليجية وتصر كلاهما على إدراج توقيت السعودية بمواعيد بثهما، فربما نحن معنيون بمناقشة هذه التساؤلات أكثر من سوانا. إذ مع إقرارنا بضرورة إطلاع المشاهد العربي على ثقافات مختلفة على نحو يثري ذائقته الفكرية إيجاباً، فبماذا ستعنينا متابعة البرامج الحوارية النسائية الأميركية؟ لماذا يجب أن نطّلع على المقابلات التي تناقش مشاكل العلاقات غير الشرعية بين المحارم أو الشواذ في المجتمع الأميركي؟ هل يهمنا حقاً البرنامج الذي يتم فيه اختيار امرأة ما لتغيير ملامح وجهها وجسدها بسلسلة من العمليات التجميلية كي تحظى بالقبول بين نظيراتها الأميركيات؟ وهل يجدر بنا أن نذيع برنامجاً من طراز (تلفزيون الواقع) تتنافس فيه عشرات الحسناوات لإغواء شاب ثري ليرتبط.. وربما ليتزوج.. بواحدة منهن؟ هل يفترض بنا أن نشاهد أخبار قناة ABC فقط لأنها الأكثر متابعة في أميركا ولأننا هكذا "سنشاهد ما يشاهده الأميركيون" كما تتشدق به إحدى قناتينا المعنيتين؟ لماذا يتم بث حفل توزيع الأوسكار ثلاث مرات خلال أيام على قناة (عربية) ما؟ حتى لو تجاوزنا كل تلك الاستفهامات على أساس أنها مبنية على اختلافات في الذائقة قد لا تفسد للود قضية، فماذا عن أكوام المشاهد الحميمة والعبارات الفجة التي تذاع على كلتا القناتين بكل بساطة. حلقات المسلسلات والرسوم المتحركة المخصصة للكبار التي تذيعانها حافلة بالتلميحات الجنسية و.. هل أجرؤ على ذكر ورود مشاهد عارية خاطفة في واحدة على الأقل من تلكم القنوات؟ تحسب للقناتين الحرفية التقانية العالية في سبيل بث يُقدم في قالب بصري ولغوي أخّاذ لكنه مع ذلك يكرس للمفهوم الأميركي المادي والمبهرج للحياة بشكل قد يتنافر لأول وهلة مع العقلية التقليدية للمتلقي الشرقي قبل أن يغدو بفضل مداومة المشاهدة طبيعياً واعتيادياً.
بالنظر للخطر الذي لم تزل تمثله فكرة (الأمركة) مقابل الهشاشة الثقافية التي تعاني منها مجتمعاتنا، إضافة لطبيعة القيم والأخلاقيات السلبية التي تبثها هذه القنوات بالفعل، فإنه ينبغي الوقوف ملياً على طبيعة (الترفيه) الذي تسوّق له هاتان القناتان وسواهما عبر تبنيهما لثقافة ولخطاب محض غربيين. وبعد كلٍ.. فلربما لا تكون قناة كـ (الحُرّة) على كل تلك الدرجة من السوء.