ربما بدا الأمر وكأنه لقطة عابرة لواحدة من الخيبات المهنية التي تعانيها صحافتنا المحلية. لكن المتابع لتفاعلات قضية رسّام الكاريكاتور السعودي (ع.غ) عبر عوالم الإنترنت ستتضح له أبعاد أخرى للمسألة تتجاوز بها حدود السطو الفكري لتقيمها شاهداً على ثقافة تُبجِّل الانتحال، ومُنجز حضاري قائم على وضع اليد؛ فيما حديث نَصُه "من غشنا فليس منّا" يحفر ذاته في ذواكر صبانا. القصة بدأت حين أشار البعض لإحدى المُدونات الإلكترونية أو الـ (Blogs) المعنية بفن الكاريكاتور، والتي يتسلى روادها (باصطياد) لصوص الرسوم الهزلية من حول العالم. ومن جملة ما أثمرت عنه عملية الصيد تلك كانت تسعة عشر رسماً كاملة لرسّام سعودي نشرها متفرقة على إحدى صحف الوطن وتتسم كلها بتطابق مذهل مع كاريكاتورات أخرى لرسامين أميركيين. المسألة كان يمكن أن تمر بسلام على الرسام وصحيفته – اللذان لا تجيز لي تقاليد الصحافة السعودية العريقة ذكرهما بالاسم – فيما لو استمرا في تغبية القارئ وتجاهلا الضجة التي لن تلبث أن تخمدها أحداث أكثر سخونة. لكن القضية اتخذت منحاً آخر لاعتبارين أساسيين.. فالصحيفة وقد استشعرت بشكل أو بآخر مسؤولية ما تجاه ردة الفعل المتنامية عبر منتديات الإنترنت التي باتت – للسخرية - تقوم مقامها في نقل نبض الشارع، سمحت يوم السبت الماضي لرسامها بتبرير فعلته أمام القراء بإفراد مساحة له في صفحة نقاشاتها. وبالرغم من أن عنوان المقالة قد حمل لفظة (العذر)، إلا أن متنه لم يحو رائحة الاعتذار! بل إن الكاتب استهله بقياس فعلته على تجارب سينمائية وتليفزيونية عربية، قبل أن يُعرّج على ما أثير مؤخراً حول (تأثره) ببعض مدارس الكاريكاتور الأمريكية، مبرراً زلّته تلك بفهمه الخاطئ لمفهوم (الاقتباس). ثم كانت الطامة حين اعترف الرسّام بأن أحد مسؤولي صحيفته قد نبهه قبل ثلاثة أشهر كاملة "بتغيير مفهوم الاقتباس لدي، ولا مانع من الاستفادة من خبرات الغير ولكن برؤيتي الخاصة"، كما ذكر هو حرفياً!
هكذا يتضح أن الصحيفة تحاول لملمة الموضوع وتصوير الواقعة كفصل في عملية التحول التي يمر بها أي فنان، مع أن المنتظر من مطبوعة بثقلها أن تحرص أولاً على تنقية صورتها أمام قرائها عوضاً عن أن تدفعها نخوة غير مبررة لأن تتستر على رسامها وتنصره ظالماً أو مظلوماً. ثمة سرقة لم تكن تستلزم في الأصل اعتذاراً بقدر ما تطلبت موقفاً تصحيحياً حاسماً.
المشكلة أن الموضوع يتجاوز في الواقع سمعة رسّام كاريكاتور أو الجريدة التي يعمل بها، ويتخطى الأمر إشكاليات الشفافية والاحترافية المفقودة في الإعلام السعودية ليصبح وصمة عار في جبين المجتمع السعودي ككل وفي صورته بعيني الغرب الذي نعرف أنه يرمقنا في حذر ويقرننا (ظلماً) بكل ما هو همجي وفوضوي وغير متحضر.
مُنتَحلات رسّام الكاريكاتور السعودي كان لها صدىً سيئ ليس في منتديات الإنترنت السعودية فحسب، ولكن في المُدونات الأمريكية أيضاً التي اكتشفتها قبلاً واستغلتها لتؤكد السمعة (الإرهابية) التي باتت لصيقتنا في كل ممارساتنا وتعاملاتنا مع الغير. فنفس صفحة الإنترنت الأميركية التي عرضت أصول الرسوم المسروقة و (مقتبساتها) قد أوردت كذلك تعليقات البعض على الموضوع ومن ضمنهم شخص ذكر أنه أجنبي يقيم ويُدرّس بالسعودية ويزعم أنه يعايش هذا الاختلاس الفكري طوال الوقت. يقول في هذا الشأن ما ترجمته: (الغش، أو انتحال المنتج الفكري، بالرغم من كونه مُعرَّفاً ومُشيناً في التراث الغربي، إلا أنه شائع وممارس على نطاق واسع في الثقافة العربية حتى أنه لا يشكل هنا وخزاً للضمير)... (منذ حداثتهم، يُلقن هؤلاء ألا يفكروا ولا يُسائِلوا أنفسهم. معظم ما يتعلمون ماهو إلا محض حفظ، وهو ما ينطبق على القرآن الذي يحفظون أجزاء كبيرة منه بدون أن يبادروا لفهمه وتحليله). ويواصل بقوله: (هذا التوجه يحكم كامل سلوكهم العلمي، في الرياضيات تجدهم يحفظون المعادلات ويسردونها بلا فهم... ونفس الشيء مع التاريخ)... (فيما يتعلق بطلابي فإن تقديمهم لأطروحاتهم الخاصة هو أمر جديد عليهم... بل هم يعمدون لاختلاس إنتاجات سواهم لاسيما مع تسهيلات الإنترنت التي تجعل الإذعان لقواعد الملكية الفكرية غير مبرر في نظرهم). يقول هذا المدرس الأجنبي المقيم بيننا: (هذا مجتمع تكتلي، فهم لا يفكرون فعلاً كأفراد كما نفعل في الغرب بل لا يشجعون ذلك. وهكذا فهم بانتحالهم ونسبتهم جهود الآخرين لأنفسهم، فإنهم يسايرون التقاليد التي تحرم الخروج عن الصف وتدعو لتجنب الابتداع والإتيان بالجديد... والكاريكاتورات المختلسة التي وجدتموها هي مثال آخر للمأزق الثقافي الذي علقنا به معهم).
هكذا تعكس هذه الآراء، راقت لنا أم لم ترق، الأثر الذي يخلفه سلوكنا الحضاري عند الغير. وتكشف الدرجة من الوعي التي يجب أن نرتقي بها لمستوى الحدث خصوصا أننا قد صرنا، كسعوديين، بؤرة تتركز فيها أضواء العالم، شئنا أم أبينا. وإنتاجنا، سواء أكان رسماً كاريكاتورياً أو عملاً راقياً في شأن ما بعد الحداثة، لم يعد منتجاً محلياً لا يسمع به سوى بنو عمومتنا ولا يشتريه إلا الجيران في الحي. لأن السعودي، فرداً ومنتجاً وخبراً، بات سلعة رائجة تجتذب أنظار التدقيق والنقد بدون أن توافق الأذواق بالضرورة.
رسامنا السعودي، من جهة أخرى، والذي لا تكفي تسع عشرة رسمة مُنتحلة لنفي موهبته الأكيدة، سواء في (الاقتباس) أو في الإبداع الأصيل كذلك بما أثبتته المئات من أعماله الأخرى، يظل متعلقاً بخيط من عذر. فهو يُذكِّرنا بأنه في النهاية ابنٌ لثقافته ولمؤسسته التي لم تعاتبه على فعلته، ولم تؤكد للغير مدى فداحتها، بل تسترت عليه حتى فضحه آخرون.. لتترك عقابه لنا.. ونصير هكذا كمن يقيم الحد على السارق في عام الرمادة.