النظرة المسطحة للحدث والاجتزاء المتعمد له من سياق الوقائع يمثلان خطرا داهما يهدد الكتابة الموضوعية التي تعاني الأمرين على يد كثيرين ممن نصبوا انفسهم حماة لها وانصارا فالحفل الغنائي المزمع إقامته نهاية الاسبوع ينبغي ألا ان ينظر اليه باعتباره مجرد تجمع للزمر والطبل ومن ثم فلا مسوغ ـ في نظر كثيرين ـ للانشغال بإعلان النكير عليه لا سيما والبلد تموج بفضل انصار حزب الفرح والمرح بمثل هذه (الفعاليات) الطربية العامة منها والخاصة! غير ان الأمر مختلف جدا بالنسبة لحفلة النجم الخارق (السوبر ستار) اذ انها تمثل حلقة جديدة من مسلسل تافه متطاول بدأ في بيروت هذا الصيف وحط رحاله هذه الأيام في بلاد الخليج في اطار حملة تخديرية اشغلت العالم العربي عن معايشة كثير من الأحداث الجسام وتحولت الى ما اصطلح على تسميته بحرب (رويدا وديانا) تلك الحرب الضروس التي خاضت غمار غبارها رؤوس كبيرة تتربع على رأس السلطة السياسية، فقد كان الأمر خطيرا الى هذا الحد! ولست أدري لماذا يتداعى الى ذهني البريء (يوم الكلاب الثاني) احد ايام العرب المشهورة في الجاهلية في هذا السياق بالذات مع ان اليوم الجاهلي المذكور كان بضم الكاف لا كسرها,!
ان من اعظم صور الغش للأمة المرزأة وأقبح اساليب الفت في عضد عزيمتها الواهنة ان يسعى الاعلام العربي الى ترسيخ مفهومه الشاذ لمدلول النجومية الخارقة في عقول فتيانها وفتياتها، فالنجم الخارق ليس ذاك المجاهد البطل الذي يفجر نفسه مدافعا عن شرف الأمة منتقما لصيحات الثكالى مقتصا لدماء الضحايا بل هو مطرب ناعم يترنح يمينا وشمالا على مسرح الغناء باثا لواعج الغرام والهيام! أليس بالغريب حقا ان يجود ابو الوليد الغامدي ـ المجاهد العربي ـ بروحه على سفوح الشيشان وتسيل دماؤه الزكية على رباها الاسيرة ولا يحظى بسطر واحد من إعلام القيان والغلمان، بينما تملأ صور ديانا ورويدا وملحم السهل والوعر!.
في العقود الماضية كان اعداؤنا يكتفون بهزيمتنا على ارض المعركة تاركين لنا المجال رحبا لنخوض ضدهم حربا كلامية على طريقة (اوسعتهم سبا وأودوا بالابل) حشوها بيانات الشجب والاستنكار وشعارات الثأر والقصاص وخطب الوعيد والانتقام للتنفيس عن وطأة الهزيمة الثقيلة لكنهم باتوا اليوم يستكثرون علينا ذلك الدور (النياحي) ـ وان قرأتها (النباحي) فلن تُبعد ـ اذ لم يعد مسموحا لنا ان ندعو عليهم في جوامعنا حفاظا على علاقاتنا الدولية! بل ان انشطتنا الثقافية باتت تحت مجهر الرصد ومنظار المراقبة بدعوى تحصيننا من عدوى التحريض على الكراهية والتشجيع على الارهاب، وكان مركز زايد للمتابعة والتنسيق آخر الضحايا، فقد اغلق بطريقة مهينة هزت وجدان كل عربي ابي لا يمت الى قبائل (السوبر ستار) ولا الى مواليها بصلة!
والمفزع الآن ان هذا السرادق العظيم المنصوب للعزاء بمصائب الأمة المتلاحقة كشآبيب المطر الصاعق سيتحول بفضل الاعلام السخيف وانصاره السطحيين ـ المنتسبين لليبرالية واخالهم لم يقرأوا من ادبياتها سطرا! ـ الى ملهى ليلي صاخب ترقص فيه النوائح وتهتز فيه جموع المعزين طربا ووجدا، بينما يتولى اقارب الفقيد الراحل دور توقيع الانغام وعزف الألحان, هذا هو الوضع باختصار وكل من يروم معارضته او التخفيف من غلوائه وصخبه سيوصم بأنه من انصار الحزن والكآبة، لأن هذا الشعور المتولد بسبب ما تردت اليه الاحوال المأسوية يمثل الخطوة الأولى في مسيرة التغيير، وليس للتغيير من سبيل في هذا العالم ذي القطب الاحادي الجانب ما لم تكن نقطة انطلاقه: بوابة البيت الأبيض!