في الوقت الذي احتفلت فيه شريحة كبيرة من المسلمين باليوم العالمي للقدس، الكائن في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، واحتفت العديد من المواقع الإلكترونية الإسلامية باليوم العالمي للقدس على الانترنت، الذي يقام سنويًا في 17 رمضان الموافق ذكرى غزوة بدر الكبرى.
قال أحد الكتاب في صحيفة محلية: (أما محاولة تغليف المطالبة بتحرير القدس بقدسية دينية، فهذا ما لا نجد له أي مبرر سوى تسويق فكرة التحرير وإلهاب مشاعر العامة، بأكاذيب ليس لها محل من التاريخ) 29/10 الفائت.
وفي الوقت الذي أفطر به إخواننا الفلسطينيون بقطاع غزة على وقع الرصاص والاغتيالات الصهيونية، وتسحروا على صدى قصف الطائرات والصواريخ الأمريكية الصنع.
كتب ذات الكاتب قائلاً: (توالى الغزاة على القدس منذ ذلك العهد، فمن الآشوريين إلى ... إلى العرب المسلمين إلى الترك إلى العرب إلى الإنجليز إلى الدولة الإسرائيلية الحديثة) نفس المقال.
ولخطورة الافتراءات التي ضمنها الكاتب مقاله، أجد أنه من اللازم توضيح العديد من النقاط التي تطرق إليها، فأقول ما يلي:
أولاً- إن الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة في حق المسجد الأقصى المبارك وبلاد الشام الطيبة متعددة وثابتة، بل إنه قد ورد في فتح بيت القدس بالذات نص نبوي صريح – بجانب كل النصوص الشرعية المعلومة - هو قوله عليه الصلاة والسلام:
(يا معاذ إن الله عز وجل سيفتح عليكم الشام من بعدي، من العريش إلى الفرات، رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة، فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام أو بيت المقدس، فهو في جهاد إلى يوم القيامة).
ثانيًا- إن المسلمين من صحابة أوائل رضوان الله عليهم، ومن عرب وكرد وترك لاحقين رحمهم الله، ليسوا غزاة أو محتلين لفلسطين الشامية بأي حالٍ من الأحوال!
فالمسلم مرتبطٌ بتلك الأرض المباركة منذ بنى مسجدها الأقصى سيدنا (آدم) عليه السلام، ومنذ حكمها الأنبياء المسلمون (داوود) و(سليمان) عليهما السلام، ومنذ سكن بواديها أنبياؤنا الكرام (إبراهيم) و(يعقوب) و(يوسف) عليهم السلام، وانتهاءً بإسراء النبي (محمد) عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام إليها، وإمامته للأنبياء عليهم السلام في مسجدها المعظم، ومعراجه صلوات الله وسلامه للسماوات العلى منها.
وهذا يدل على أن دخول المسلم للمسجد الأقصى – أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين – بالصلح أو الجهاد، لا يمثل إلا عودة الحق لأصحابه الشرعيين والدار لأهلها الحقيقيين، أولئك وهؤلاء العظماء من رجالٍ ونساءٍ وأطفال الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله:
(لا تزال طائفة من أمتي ظافرين على الحق، لعدوهم قاهرين حتى يأتي أمر الله وهم كذلك؛ قيل: يا رسول الله أين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس) رواه الإمام أحمد.
وها هو الشاعر (العربي) المسلم يناشد صلاح الدين (الكردي) والمسلم أيضًا التحرك لإنقاذ المسجد الأقصى المبارك من المحلتين والحفاظ على قدسيته قائلاً:
يا أيها الملك الـــذي ،،، لمعـــالم الصلبــان نكس
جاءت إليك ظلامــة ،،، يشكو بها البيت المقدس
كل المساجد طهرت ،،، وأنا على شرفي أدنــس
ثالثًا- إن قضية فلسطين المحتلة ليست قضية مسلمين مظلومين فحسب! إنما هي قضية الإسلام كدين وحضارة، وهي (أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، لا يصح التفريط بها أوبجزءٍ منها أو التنازل عنها أو عن جزءٍ منها، ولا تملك ذلك دولة عربية أو كل الدول العربية، ولا يملك ذلك ملكٌ أو رئيس، أو كل الملوك والرؤساء، ولا تملك ذلك منظمة أو كل المنظمات سواء كانت فلسطينية أو عربية) ميثاق حماس – المادة 11.
وبالتالي فإن تبسيط الصراع الإسلامي – الصهيوني وتقزيمه ليكون صراعًا فلسطيني – إسرائيلي من ناحية الأشخاص وسياسيًا من ناحية الموضوع، هو خروج عن الشرع الصحيح والفهم السليم، ومهما حاول صنائع العلمانية والصهيونية تصوير أنفسهم بحمائم السلام، فإن الأمة لن ترى فيهم سوى طلائع خيانة لها واستسلام لأعدائها.
ختامًا: إن عجزنا عن تحرير الأرض المغتصبة وإنقاذ الناس المضطهدين فيها، يجب ألا لا يدفعنا لبيع الجمل بما حمل! فإنكار المنكر يتم وفق الطاعة وبذل الجهد على قدر الاستطاعة، وما دعم المجاهدين في فلسطين المباركة إلا صورة من صور ذلك الإنكار والجهد، مصداقًا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من جهز غازيًا فقد غزا).
ولنا في الخليفة العثماني الراحل (عبد الحميد الثاني) رحمه الله أحسن قدوة وخير مثال، حيث أنه أدرك أن رفضه تسليم فلسطين قد يكلفه كرسي الخلافة بل والدولة بأسرها، فاختار التضحية بكل ذلك بدل أن يسجل عليه التاريخ تسليم أرضٍ إسلامية للصهاينة الطامعين، فهلا اقتدى الزعماء الفلسطينيون والعرب بهذا الرمز النبيل والموقف الشجاع، بدل التسابق في الانبطاح وتسجيل المواقف المخزية! والحمد لله أولاً وأخيرًا.