اعتدت على تسطير الكلمات ونشر المقالات للتعريف بالمبدعين الأحياء في مختلف أقطار الوطن الإسلامي الكبير، وذلك للثناء ولو بالقليل على عطائهم الوفير لدينهم وأقطارهم، عبر سلسلة (مبدعون من وطني) التي نشرتها ورقيًا والكترونيًا بعون الله تعالى وتوفيقه.
ولكنني اليوم أكتب كلماتي هذه وأسطر مقالي هذا للحديث عن حاضرٍ غائب! حاضر بيننا بإبداعه المحفوظ في ذاكرة عقولنا وشرائط مكتباتنا المرئية، وغائبٍ عنّا بجسده الذي فارق الحياة إثر إصابته الجسمانية والمعنوية في تفجيرات 9/11 الإجرامية بالأردن الشقيقة. إنه المخرج العالمي مصطفى العقاد المولود في حلب عام 1934، والذي أخرج عدة أفلام أشهرها فيلما (الرسالة) عام 1976 و(عمر المختار) عام 1980، بعد أن حصل على شهادة جامعية في الفنون المسرحية من أمريكا عام 1958.
إن اعتزاز هذا المخرج السينمائي الراحل بهويته العربية والمسلمة والقضايا المعاصرة لأمته الإسلامية، في عقر مدينة (هوليوود) الأمريكية العقل واليهودية الهوى يجعله مبدعًا بحق! وهو يقول حول هذا الشأن: (( تسلحت كمخرج بمقومات شخصيتي العربية والإسلامية التي منحتني القدرة الإبداعية، وهو ما أعتقد أنه ظهر في فيلمي الرسالة وعمر المختار، الرسالة الذي عرفت فيه المجتمع الغربي بالدين الإسلامي الصحيح، وعمر المختار الذي يعبر بصفة خاصة وبمصداقية شديدة عن الوضع المأساوي الراهن في فلسطين! )).
وقد كنت أتساءل عن مقومات اعتزاز هذا المبدع الفقيد بهويته العربية واسمه الإسلامي وعاداته المشرقية، لكنني أدركت ذلك عندما قرأت له إحدى المقالات التي يصف بها ليلة رحيله من الشام إلى الولايات الأمريكية وهو يقول: (( أخبرت والدي بأنني قررت أن أسافر فوضع في جيبي 200 دولار وفي الجانب الآخر مصحفًا، وقال لي بالحرف الواحد: هذا هو كل ما يمكنني أن أعطيه لك(( .
ويتابع المخرج العالمي مصطفى العقاد شارحًا أسلحته في مواجهة الانبهار بالحضارة الغربية: (( لكن والدي كان قد أعطاني قبل ذلك الكثير، فقد كان قاسيًا جدًّا في تربيتي الأخلاقية والدينية والبيئية، وهو ما خلق مني رجلاً قادرًا على تحمل المسئولية، وأنا الآن عندما أتذكره أشكر الله على هذا الأب الذي جعلني أذهب لأمريكا فقيرًا معدمًا ماليًّا، لكنه جعلني غنيًّا دينيًّا وأخلاقيًّا وتراثيًّا ))، فهنيئًا لذلك الأب الحازم بهذا النتاج الطيب، ويا لحسرة هذه الأمة على فقده وهو لم يكمل عطاءه بعد!
كلنا تألم لتلك التفجيرات الإجرامية التي وقعت في العاصمة الأردنية، وكلنا زاده فقد هذا المبدع المسلم الراحل ألمًا وأسى، فقد رحل من بيننا وهو لم يحقق بعد حلمه الكبير ومشروعه الأخير في فيلم سينمائي عالمي، عن القائد الكردي المسلم (صلاح الدين الأيوبي) الذي طرد الصليبيين من بلاد الشام العربية قبل مئات السنين.
لكن الله تعالى عوضنا عن فقده بعلم سينمائي آخر مبدع وملتزم، يكمل إن شاء سبحانه ذلك العمل السينمائي الذي يتناول قصة الفارس (الأيوبي) الشهم، فقد عرفنا المخرج العقاد (الأب) على المخرج العقاد (الابن)! وهو مالك مصطفى العقاد، الذي يصفه أباه الراحل قائلاً: (( هذا هو مالك ابني، هوي الإخراج منذ صغره وتخصص فيه وقياسًا لعمره أعتبر أنه سبقني، ويستطيع أن يتواصل مع الشباب ويتفهمهم أكثر مني، وأنا اليوم عندما أريد أن أقدم شيئاً للشباب أستشيره وآخذ برأيه، وسيساعدني في إخراج فيلم (صلاح الدين)، وهو رغم نشأته في أمريكا متمسك جدًّا بجذوره وبقوميته العربية )).
وهذا ليس مستغربًا فالمبدع المخرج مصطفى العقاد كان حريصًا على ما أوصاه به والده قبل ذهابه للولايات المتحدة الأمريكية أول مرة، من اعتزاز بهويته العربية وديانته الإسلامية وتقاليده الشرقية، فربى أولاده بنفس الأسلوب وغرس بهم ذات المبادئ، ومني إلى كل مخرج أو ممثل أو رب أسرة يظن التقدم والتحضر لا يتحققان إلا عبر التخلي عن كل محترم ومقدس! والحمد لله أولاً وأخيرًا.